منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة
تسجيلك في هذا المنتدى يأخذ منك لحظات ولكنه يعطيك امتيازات خاصة كالنسخ والتحميل والتعليق
وإضافة موضوع جديد والتخاطب مع الأعضاء ومناقشتهم
فإن لم تكن مسجلا من قبل فيرجى التسجيل، وإن كنت قد سجّلت فتفضّل
بإدخال اسم العضوية

يمكنك الدخول باستخدام حسابك في الفيس بوك



ستحتاج إلى تفعيل حسابك من بريدك الإلكتروني بعد تسجيلك هنا
التسجيل بالأسماء الحقيقية ثنائية أو ثلاثية وباللغة العربيّة فقط
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة
تسجيلك في هذا المنتدى يأخذ منك لحظات ولكنه يعطيك امتيازات خاصة كالنسخ والتحميل والتعليق
وإضافة موضوع جديد والتخاطب مع الأعضاء ومناقشتهم
فإن لم تكن مسجلا من قبل فيرجى التسجيل، وإن كنت قد سجّلت فتفضّل
بإدخال اسم العضوية

يمكنك الدخول باستخدام حسابك في الفيس بوك



ستحتاج إلى تفعيل حسابك من بريدك الإلكتروني بعد تسجيلك هنا
التسجيل بالأسماء الحقيقية ثنائية أو ثلاثية وباللغة العربيّة فقط
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين

تهتم بـ الفلسفة والثقافة والإبداع والفكر والنقد واللغة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
تعلن إدارة المنتديات عن تعيين الأستاذ بلال موقاي نائباً للمدير .... نبارك له هذه الترقية ونرجو من الله أن يوفقه ويعينه على أعبائه الجديدة وهو أهل لها إن شاء الله تعالى
للاطلاع على فهرس الموقع اضغط على منتديات تخاطب ثم انزل أسفله
» هات يدك ظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-12-13, 15:27 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» بين «بياجيه» و «تشومسكي» مقـاربة حـول كيفيـة اكتسـاب اللغـةظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-12-03, 20:02 من طرف سدار محمد عابد» نشيد الفجرظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-11-30, 14:48 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» الرذ والديناصورظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-11-02, 18:04 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سلاما على غزةظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-11-01, 18:42 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سلاما على غزةظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-11-01, 18:40 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» شهد الخلودظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-11-01, 18:35 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تهجيرظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-11-01, 18:23 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تقرير من غزة ظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-11-01, 18:18 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» القدس لناظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-11-01, 17:51 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» يوم في غزة ظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-11-01, 17:45 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» شعب عجبظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-11-01, 17:41 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سمكة تحت التخديرظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-10-07, 15:34 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تجربة حبظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-09-16, 23:25 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» زلزال و اعصارظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2023-09-14, 05:44 من طرف عبدالحكيم ال سنبل

شاطر
 

 ظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
يوسف تغزاوي
عضو نشيط


القيمة الأصلية

البلد :
المغرب

عدد المساهمات :
24

نقاط :
72

تاريخ التسجيل :
02/12/2011


ظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية Empty
مُساهمةموضوع: ظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية   ظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية I_icon_minitime2012-04-07, 21:19

ثانوية محمد الخامس التأهيلية
كـلـمـيـمــــــة
د. يوسف تغزاوي
ظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية
ك
ثيراً ممن ألفوا قراءة الشعر العربي القديم يواجهون صعوبة كبيرة في التجاوب مع الشعر الجديد وربما رفضوه من أجل هذه الصعوبة وكثيراً ما حاولوا التغلب على هذه الصعوبة بالتكيف مع هذا الاتجاه ولكن حائلاً يمنع هذا التكيف وأعني بذلك غموض هذا الشعر. والغموض ليس خاصية ينفرد بها الشعر الجديد، وإنما هو خاصية مشتركة بين القديم والجديد على السواء، وكل ما في الأمر هو أن الغموض قد صار ظاهرة واضحة في الشعر الجديد.
ويكاد يكون أبو تمام الشاعر الوحيد الذي تسبب غموض شعره في إيجاد مكان لـ«قضية الغموض الشعري» في خريطة النقد العربي القديم، مما يدل على أن هناك أسباب تضافرت جميعها فأصابت شعره بالغموض. وقبل كل شيء، ينبغي علينا أن نحلل طبيعة الغموض ذاتها وأن نقف على الضرورة الجمالية التي تجعل الغموض عنصراً جوهرياً في الشعر. وقد قلنا أن الشعر القديم نفسه تتسم بعض قصائده، أو على وجه الدقة بعض أبيات هذه القصائد بالغموض ولكن أحقاً هذا هو الغموض الذي نعنيه في هذا المقال؟
يجيبنا الدكتور عز الدين إسماعيل بأنه ينبغي أن نميز بين نوعين من الغموض وهما : الغموض والإبهام، وهذين اللفظيــــن في مقابل اللفظين الإنجليزيين (Obscurité, ambiguity) فنحن نستخدم في الأغلب لفظة الغموض، ونادراً متا نستخدم لفظة الإبهام، مع أن الشيء المبهم المستغلق ليس هو دائماً بالضرورة الشيء الغامض .
فالغموض حسب المعجم اللغوي مصدر من غمض، وكل ما لم يتجه إليك من الأمور فقد غمض عليك، والغامض من الكلام خلاف الواضح، ويقال للرجل الجيد الرأي قد أغمض النظر، ومسألة غامضة مسألة فيها نظر ودقة، ومعنى غامض : لطيف وكثيراً ما يختلط الغموض بمصطلح «الإبهام» على الرغم من أن الدلالات التي يحملها الإبهام دلالات سلبية، فوصف الطريق مثلاً بكونه مبهماً إذا كان خفياً لا يستبيء للسائر، واستبهم عليه الأمر أي استغلق وكلام مبهم : لا يعرف له وجه يؤتى منه .
ويفرق عز الدين إسماعيل بين الغموض وهو الصفة الخيالية والإبهام وهو الصفة اللغوية القائمة في طبيعة التركيب نفسه، وانتهى إلى أن الغموض سمة الشعر الحقيقي وهي خاصية في طبيعة «التعبير الشعري» فإذا كان الشعر الجديد يغلب عليه طابع الغموض فلأن الشاعر قد عاد يدرك بوعي كاف طبيعة عمله وهذا معناه أننا نستقبل في الشعر الجديد. (رغم أنه غامض، بل بسبب أنه غامض)، شعراً تميزه الأصالة.
وأعتقد أنه من النافع هنا الاستفادة من كتاب «وليام امبسون» «أنماط سبعة من الإبهام» حيث حلل فيه صفة الإبهام تحليلاً ذكياً، فالإبهام عنده صفة نحوية بصفة أساسية أي ترتبط بالنحو وتركيب الجملة، في حين أن الغموض «صفة خيالية» تنشأ قبل مرحلة التعبير المنطقية، أي قبل مرحلة الصياغــــة اللغوية النحوية ويتضـــح هــنا أن هذا البيت للمتنبـــي ليس غامضاً ولكنه مبهم حيــن يقـــــــول :
وما مثله في الناس إلا مملكـاً  أبـو أمــه حـي أبــوه يـقــاربـــه
لأن المشكلة الأساسية فيه لا ترتبط بالخيال أو بشيء منه وإنما هي قبل كل شيء مشكلة لغوية قائمة في طبيعة التركيب نفسه وفهم البيت على هذا الأساس، يتطلب منا حل مشكلة هذا التركيب اللغوي لا أقل ولا أكثر.
فإذا كان الإبهام ألغازاً وتعقيداً في التراكيب اللغوية والنحوية، فإنه لا يمثل ضرورة شعرية وإنما هو صفة سلبية، في الشعر والفن، أما الغموض فهو سمة في التفكير لا في التعبير وإنما هو صفة إيجابية يدل على أمانة الشاعر وموضوعيته.
وينطلق «امبسون» من اعتبار الغموض، عنصراً جوهرياً في الشعر ومن صميم طبيعته، حيث يرى أن مكائد الغموض توجد في الجذور العميقة للشعر نفسه. ولكنه يرفض أن يكون الغموض مطلباً لذاته بدون أن تكون له ضرورة يتطلبها الشعر، ويضع معياراً لتمييز الغموض الإيجابي عن الغموض السلبي قائلاً : «إن الغموض يكون محترماً ما دام يسند تعقيد الفكر ولطافته واكتنازه أو ما دام ندحة يستغلها الأديب ليقول بسرعة ما قد فهمه القارئ ثم هو لا يستحق الاحترام إن كان وليد ضعف أو ضحالة فكر، ويبهم الأمر دون داع» .
وإذا كان القدر الأكبر من الشعر القديم يغلب عليه طابع الوضوح والسهولة فهذا ناتج عن كونه يستخدم لغة محددة الأبعاد منطقية لا يميزها عن لغة النثر إلا ما فيها من ارتباط بالأوزان العروضية. وإذا كان الشعر الجديد يغلب عليه طابع الغموض فلأنه اعتمد الإيحاء والخيال، كما أن نسبة الوضوح التي نجدها في الشعر العربي القديم تعود لأسباب عدة منها الطبيعة المعرفية، والوظيفة الاجتماعية، وعمود الشعر ونموذج الخطابة وجوهر الرؤية والتجربة، وهذا لا يمنع أن الشعر العربي القديم لم يخل من الغموض، ولكن هذا الغموض كان قليلاً أمام نسبة الوضوح فيه، كما أن تفتح الشعر الحديث على ضروب كثيرة من الغموض المكثف، يبدو فيها غموض الشعر القديم، أشد وضوحاً وأقرب منالاً.
وقد تألق الغموض في فضاء القصيدة العباسية مع شعرائها الكبار أمثال : (المتنبي البحتري، المعري، أبو تمام، أبو نواس، بشار، ابن الرومي) وهم يعبرون عن هم حضاري جديد، عايشوه في تجاربهم ورؤاهم، وشكلوه في قصائدهم المتباينة تبعاً لاختلاف مواقفهم وأساليبهم ولهذا جاءت أشعارهم منطوية على غموض نسبي يتراوح بين الشفافية والكثافة وفق درجة مجاوزتهم للبنية الدلالية السائدة وتخطيهم لعمود الشعر .
وتحت وطأة الأيديولوجية المهيمنة على تجربة الإبداع التي لم يكتب لها الاستمرار والنجاح بفعل ظروف معقدة لم تفلح حركة الحداثة العباسية في توسيع مجال البعد الشعري والانتصار للغموض، كل هذا يقود إلى التساؤل عن دور الحداثة اليوم في تكثيف غموض النص الشعري بشكل يجعل القارئ يقف عاجزاً عن فهم القصيدة.
تعتبر كثرة الفكر في الشعر من مميزات الشعر المعاصر وفكر الشاعر دائماً هو من لون بيئته وعصره الذي يعيش فيه، وإذا كان العصر يتسم بالتعقيد والاضطراب الفكري وعدم الاستقرار النفسي والروحي مثل عصرنا، فإن فكر الشاعر يكون أكثر تعقيداً وعمقاً وبهذا تصبح الحداثة تحولاً فكرياً وحالة عقلية أو وضعية فكرية قبل أي شيء بحيث يقول «غويو» : «إن الصفة الأساسية التي يمتاز بها الشاعر هي في جوهرها الصفة الأساسية التي يمتاز بها الفيلسوف» .
إن تراكم الثقافة وتعددها وتنوعها وعمقها في عصرنا الحديث لا يعني أن الشاعر يتحرك في أفق مزدحم بهذه الثقافات فحسب، وإنما يعني ازدحاماً دلالياً، فيه من الضبابية والتعدد ما يصيب المتلقي بالحيرة أمام النص الشعري، شاعر الحداثة صار أمام نهر معرفي متدفق، متعدد المنابع، متلون الروافد، تمتزج فيه كل معارف العصر، لذلك صعبت قراءته وعقدت عملية تلقيه، «إن شاعر الحداثة لا يحاول أن يقدم هذه الألوان المعرفية، أخباراً ومعلومات، إنه يقدمها في صيغة تساؤل حينا وفي صيغة محاكمة حينا وفي صيغة توليد معرفي حيناً آخر، أي بعد أن يولد من هذا التفاعل دلالات فيها من التكثيف والمراوغة ما يربك المتلقي ويحيره، لأنه اعتمد معالجة فنية لم يألفها المتلقي فبل» ، وهذا ما يؤكده الناقد والفيلسوف الجمالي الألماني شيلينج : «إن الفن أكثر من مجرد أداة، إنه مستند الفلسفة الحقيقي، وبما أن الفلسفة ولدت في الشعر، فلا بد أن يأتي يوم تعود فيه إلى الأم التي انفصلت عنها» ، وبالتالي فقد نزع الشعر الحديث نزعة ميتافيزيقية بوصفه فعالية إبداعية لا تعرف الاكتمال، لأنها تساؤل مستمر حول ماهية الإنسان والوجود، فالميتافيزيقا هي مواجهة للصدوع التي تمزق الذات الإنسانية، إنها المعرفة الشعرية التي تبتغي تعرية العالم، ولقاء الذات في حيويتها البدائية التي كانت تمتلكها قبل أن تحنطها المفاهيم في قالبية ميتة وفي عزلة وحشية داخل وهم الواقع في رحلتها المجهولة عبر أراضي الحداثة الفذة.
وأغلب الظن أن لظاهرة الغموض هذه عوامل «خارجية» و«داخلية» وإلا لما كانت لتستمر في مسيرة الشعر الحداثي منذ ظهوره وحتى يومنا هذا، وإن كانت ما تزال موضع نقاش شأنها في ذلك شأن الحداثة كظاهرة بارزة.
فالأستاذ محمد الحمود في كتابه «الحداثة» يعتبر «البناء الجديد للقصيدة معقداً عند مقارنته بالقصيدة الكلاسيكية، فلقد انبثقت أشكال بنائية متقدمة. وبدأ الشاعر يهجر المباشرة والتقريرية ويعتمد الإيحاء والرمز والبناء بالصور الشعرية عن طريق إيجاد معدلات موضوعية لانفعالاته وأفكاره وتجاربه ونمو البناء الدرامي في القصيدة وكثير من الملامح الملحمية واللجوء إلى الرمز والأسطورة والحكاية وغيرها. كل ذلك قد أدى إلى إرباك وتشتت الجو الشعري وإغراقه بالتعقيد والضبابية» .
وهذا ما يؤكده محمد عزام حين يرى أن الشعر العربي القديم إذا كان قد اكتفى بتصوير العالم الخارجي، فإن الشعر الجديد قد اعتكف في داخل الذات يصورها أو يصور العالم من خلالها وعالم النفس معقد وغريب، يمتاز بالتفرد والخصوصية، ومن الصعب نقد مشاعره لشدة رهافتها وعجز الكلمات عن التعبير عنها بدقة، لذا تبدو صورها الشعرية غامضة، لكونها إيغال في الباطن حيث الخفايا والمتناقضات.
لقد كانت البدايات الأولى للخطاب الحداثي العربي أشبه بحالة الغريق الذي يبحث عن أي شيء يظن فيه نجاحه من الغرق ليتشبث به نظراً لتراكم المعوقات في هذا الظرف التاريخي العصيب من حياة العرب.
من هنا أصبحت ظاهرة الغموض في الخطاب الشعري المعاصر لازمة من لوازم الأداء الشعري عند الحداثيين وبخاصة في شعر التفعيلة، وفي قصيدة النثر.
«ذلك أن النموذج الثوري تحطم بعد عام 1978، ذلك المؤشر التاريخي الذي كان ذا دلالة بينة على نهاية حقبة من الوضوح، وبداية مرحلة غامضة، تمتد منذ بداية السبعينات إلى اليوم مليئة بالهزائم والاحباطات والآلام والأحزان، والتفكك الشامل، والغياب الديمقراطي، والتزامن الفوضوي لكل أشكال القمع والإرهاب (حرب 1978، حرب الاستنزاف، حرب 1973، الحرب الأهلية في لبنان...)» .
وبتحطيم هذا النموذج بدأت رحلة الشعر العربي نحو الباطن، ليعكف على الذات «الرمادية» مجتراً جروحها، أو ذاهلاً عما حوله في تعويض ميتافيزيقي وصوفي، أو غارقاً في موقف الرفض والمجاوزة. وتبلور ظاهرة الغموض بوصفها دالة جوهرية للشعر العربي الحديث في سياقه الحضاري الشامل، فالشاعر لا ينطلق من فكرة واضحة محددة بل من حالة لا يعرفها هو نفسه معرفة دقيقة، ذلك أنه لا يخضع في تجربته للموضوع أو الفكرة أو الأيديولوجيا، أو العقل أو المنطق إن حدسه كرؤيا وفعالية هو الذي يوجهه ويأخذ بيده، وهو في تجربته الشعرية هاجس ابتداع واكتشاف لا هاجس تزيين وتجميل، ولا تعد اللغة عنده وسيلة لإقامة علاقة بين فضاء أعماقه وفضاء الأبعاد التي يتطلع إليها.
• موقف القدامى والمحدثين من الغموض :
قديماً كانت البلاغة تعني الوضوح في الثقافتين العربية واليونانية – اللاتينية – على الأقل. أما في العصر الحديث ومنذ الرومانسية فإن الغموض كان مدار النص، بل صار هذا الوضوح يعد على العكس نقيضاً للشعرية، كما يراها الجرجاني، فالجمالية الشعرية تكمن بالأحرى في النص الغامض المتشابه أي الذي يحتمل تأويلات مختلفة.
أما مصطلح الغموض فسوف لن يطالعنا إلا مع بروز مشكلة القديم والحديث، ولعل الآمدي يكون أول من ذكره نصاً في وصفه لشعر أبي تمام، في مقابل الوضوح الذي وصف به شعر البحتري، وإذا كان الآمدي ينتصر لمذهب الوضوح الذي يمثله البحتري لخضوعه وامتثاله «لمذهب الأوائل»، فإن أبا إسحاق الصابي ينتصر لمذهب الغموض في الشعر، ويجعل منه مقوماً جوهرياً في تحديد الشعرية. يقول : «وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه». أما ابن سنان الخفاجي فيرى الغموض عيباً في النظم والنثر على حد سواء يقول : «ومن شروط الفصاحة والبلاغة أن يكون معنى الكلام واضحاً ظاهراً جلياً، لا يحتاج إلى فكر في استخراجه وتأمل لفهمه وسواء كان ذلك الإعلام الذي يحتاج إلى فكر منظوماً ومنشوراً» ، ومن تم تكون شروط الفصاحة التي تقترن عند ابن سنان بالوضوح والظهور تشمل الكلام على الإطلاق. أما عبد القاهر الجرجاني، فهو يقف موقفاً سلبياً ثم انكشاف المعنى في الشعر وينفر من المعنى الذي يصل فور سماعه حيث يقول : «من المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أظن وأشغف» .
• دعاة الحداثة أنفسهم كيف يفسرون ظاهرة الغموض؟
ونقتصر على رائدين في الشعر الحداثي وهما أدونيس ويوسف الخال.
يؤكد أدونيس منظر الحداثة الأول بدون أي شك أن الغموض في الشعر ليس بذاته نقصاً، وأن الوضوح ليس بذاته كمالاً، والغموض قد يكون دليل غني وعمق. وهذا ما نبه إليه ناقد قديم فقال : «أفخر الشعر ما غمض» ولو كان الغموض بذاته نقصاً لسقط من شعر الإنسانية أعظم ما أنتجته .
كما يرجع أدونيس أسباب الوضوح في شعر التراث وأسباب الغموض في شعر الحداثة إلى أن الشاعر العربي القديم كان يعيش في عالم واضح منظم كل شيء فيه مفسر محدد، في حين لم تعد القصيدة الحديثة تقدم للقارئ أفكاراً ومعاني القصيدة القديمة، وأنها أصبحت تقدم له حالة أو فضاء من الأخيلة والصور والانفعالات.
أما يوسف الخال فيؤكد على ضرورة توفر الغموض في الشعر وذلك في حوار له مع جورج طراد فيقول : «إن الشعر ليس مصنوعاً كي تفهمه. الشعر مثل الموسيقى، تجلس وتدخل في جوه، عندما تقرأ القصيدة يفترض أن تكون فيك رغبة للدخول إلى عالمها. لا تسمعها وأنت عندك موقف مبدئي رافض منها» .
هذه هي النظرة الحديثة وليست الحداثة أن تكتب شعراً يفهمه كل الناس، تقرأه مرة وتصاب بالضجر فلا تعود إليه ثانية.
يحيل الغموض، إذن، إلى أشياء لم يعرفها الأوائل، ومن هنا رفضه، فأن يكشف الشاعر العربي اللاحق عما لم يكشف عنه أسلافه أمر يؤدي إلى وضع أصول غير الأصول الموروثة، أي يؤدي إلى «القضاء» على الشعر القديم. ومن ثم نخلص إلى نتيجة مفادها أن الغموض صفة محايثة للنص الشعري الحديث، فهو يقترن بالشعر اقتران وجوب وهذا ما جعل أدونيس ينطق بقوله : «تصوروا العالم أو الإنسان «واضحاً» لن يكون آنذاك أكثر من تسطح هائل، ولن يكون فيهما مكان للشعر» .
• الــتــوصـــيــل والتــــلــقـــــي :
يبدو أن العلاقة جدلية بين أضلاع المثلث الأدبي : الفنان كمنتج والعمل الفني كنتاج والقارئ كمتلق، ذلك أن المتلقي العربي اليوم أصبح يشتكي من الغموض الذي أصاب الشعر وفي المقابل يشتكي الشاعر من قصور ثقافة المتلقي وهذا يعيدنا إلى ماضي شاعرنا العربي القديم أبو تمام، حيث التصقت به تهمة الغموض مما جعل بعض النقاد يعلق بقوله : «إذا كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل»، وإذا كان شاعرنا العربي القديم أبو تمام قد عانى من أمر هذا التفاوت بين الشاعر والقارئ، فصرخ في وجه محدثه قائلاً : ولم لا تفهم ما يقال؟ فإن المسألة لتتكرر اليوم مع الشاعر المعاصر، «ويبدو أن الحل لن يكون إلا ببلوغ القارئ مستوى فكرياً وفنياً قريباً من مستوى المبدع، كما يبدو أنه كلما ارتقى الشعر إلى ذرى الإجادة والإبداع قل فاهموه والمتعاطفون معه» ، وربما لهذا السبب نجد أدونيس في عصرنا الحالي يتحدث بهذه النبرة اليائسة «ليس لي جمهور، ولا أريد جمهوراً؟» أهي القطيعة المحكمة بين الشاعر والجمهور أم بين القصيدة ومتلقيها؟، أهي شجاعة اليأس؟ أم الاستغراق في الكتابة الشعرية كوناً مكتفياً بذاته؟
تقول نازك الملائكة : «ذلك أن الجمهور العربي الذي يرفض الشعر الحر لا يعدو أن يكون أحد اثنين، إما أنه متأخر في ثقافته ووعيه الشعري والأدبي وذوقه عن شعرائه الشباب بحيث لا يستطيع أن يصل إلى فهم حركة جديدة مازالت تبدو له غامضة، وإما أنه محق في رفضه لهذا الشعر لسبب وجيه ما، وفي الحالتين لا ينبغي لنا أن نتهجم على الجمهور، فإن كان الحق معنا، وكان جمهورنا الذي نكتب له متأخراً عنا، فإن واجبنا أن نعلمه لا أن نسبه ونهينه ونهاجم مقدساته، وأما إذا كان الجمهور على حق، فإن واجبنا أن نعلمه، ومن أن نرى الحق ونقره، ولو كان ضدنا؟ إن الشعر العربي ينبغي أن يكون أعز علينا من أي تجديد غالط وقعنا فيه» .
وهنا تكمن الإشكالية هل «يصعد الجمهور إلى الفنان؟ أم يهبط الفنان إلى الجمهور؟ وبالتالي فهل يكتفي الفنان بإنتاج ما يروق الجمهور المتخلف؟».
محمد عزام يرى أن الفنان أمام حلين : «فهو إما أن يبسط نتاجه فيستغني عن جماليات العمل الفني ورموزه من أجل إبراز مضمونه وفي هذا ما فيه من تدن للمستوى الجمالي للعمل الفني، أو أن ينتظر صعود الجمهور إليه بعد تثقيفه الذي لا بد أن يستغرق زمناً طويلاً ويبدو أن كلا الحالين مر» ، وهو يؤيد أدونيس حين يرى أن القارئ عليه أن يعترف أحياناً أنه ليس من الضروري أن يفهم أية قصيدة فهماً شاملاً مهما بلغت درجة فهمه ويكفي أن يكون هناك قارئ واحد يفهم قصيدة ما لكي تزول عنها صفة الغموض «فالقصيدة العظيمة، لا تكون حاضرة أمام قارئها كالرغيف أو كأس الماء، لأنها ليست شيئاً مسطحاً يرى ويلمس ويحاط به، وإنما هي عالم ذو أبعاد، متداخل، كثيف بشفافية، عميق بتلألؤ، سديم، يستقل بنظامه الخاص، يغمر القارئ كالموج، وحين يهم باحتضانه يفلت من بين ذراعيه» ، كذلك يرى أنه من الخطأ مطالبة الشاعر وبشرح شعره، لأن «الوحدة العاطفية» التي هي منطلق الشاعر في إبداعه الشعري لا يمكن أن نخضعها لمقاييس العقل ومنطقة لهذا «ينبغي أن نستقبل القصيدة جملة أو نرفضها جملة» .
أما شاعر الغموض «أدونيس» فإنه يجد الشعر ينحو نحو عتبات المجهول. وليست القصيدة وصولاً بل سفر، ومن ثم فإن عدم الفهم يتحمل مسؤوليته القارئ الذي لا يريد لذهنيته أن نتغير، وتغدو عنده تهمة الغموض الذي توجه اليوم إلى الشعر العربي الحديث «دعوى باطلة قناع يخفي به القارئ ضعف ثقافته وقصورها وإصراره على أن يفهم ما تغير بذهنية لم تتغير» ، فهو يتطلب من القارئ أن يكون مسلحاً «بمؤهلات ثقافية» جادة حتى يتفاعل مع النص الشعري، فعلى القارئ إذن، أن يكف عن مطالبة الشعر بالتخلي عن الغموض لأنه يطالب بحتفه، بل عليه أن يشارك مشاركة فعالة في الكتابة الإبداعية، أي أنه عليه أن يكون مبدعاً أيضاً فبدونه لا يمكن للعمل الإبداعي أن يكتمل، ومن هنا الأهمية التي يعطيها أدونيس للقارئ بوصفه مكملاً للخلق الفني.
فالاستجابة تقوى كل ما تعمقت ثقافة المتلقي والعكس صحح، ولذلك «فالشاعر الذي يغوص في أعماق الظلمة إنما يفعل ذلك بحثاً عن مزيد من الاستقصاء والكشف، ولذلك فلابد من مجهود يبذله القارئ من أجل الكشف عما تزخر به هذه النصوص من إبداع وما يكمن في أحشائها من وضوح. هذا الوضوح الذي يتخذ التستر طريقة في التجلي» ، يقول إليوت : «إنني أتعب أكثر من عام حتى أنهي قصيدتي، ولا أقبل بحال من الأحوال أن يقرأها القارئ وهو في الترام أو القطار، لقد كسرت عاماً من عمري لخلقها فليكرس ساعتين على الأقل لفهمها» .
من خلال قولة إليوت هاته يتبين أنه يدعو القارئ بأن يكسر دائرة التلقي السلبي، إنه مطالب أن يترك جلسته المريحة ليتجه إلى القصيدة الحديثة ويسبر أغوارها ومن الطبيعي أن يتوفر لدى متلقي الشعر كما يقول صلاح ستيتية : «تقنية خاصة، مرتبطة بحساسيته، وبواقعه الإنساني والحياتي وبتجاربه مع الكلام وأبعاد الكلمات. لكي يصبح هو أيضاً على قدر من الشفافية والطهارة الداخلية يتيح له أن يلج إلى عالم الشعر» .
ينبغي أن ينهض القارئ اليوم من حضرة العادة السهلة حيث يلطأ ويتكوم، إلى شرفة التجدد، حيث يتفجر ويزج ما حوله بشرا وأزمنة وأمكنة.
ومن شروط الفهم أخيراً أن نتعرف بأن الإنسان، محدود الفهم : «بأن المعاني لا يمكن أن تكون كلها واضحة، ما دام الإنسان نفسه لم يفهم نفسه، ومن لا يعرف نفسه المعرفة كلها، لن يعرف أي شيء المعرفة كلها» .
إن فهم التغير ودلالته متى اقترن بقراءة من هذا المستوى يزيل البعد بين القارئ العربي والشاعر العربي الجديد. ويتيح لهما الاتحاد من جديد في لقاء خلاق.
2- التجليــــات والمظــاهــر الفنيـــــة :
• الصـــــورة الشعريــــــــة :
يعتبر مصطلح الصورة «مصطلحاً ملتبساً وشائكاً ويصعب على أي باحث أن يحدد له مدلولاً جامعاً ومانعاً، فالمفاهيم التي تعطى له في الحقول المعرفية والمدارس الفنية تختلف وتتباين لاختلاف وتباين الرؤى والتصورات والفلسفة العامة التي تنطلق منها هذه الحقول، ويذهب أحد الدارسين إلى القول بأننا عندما ندرس الصورة وعلاقتها جيداً فإننا ندرس النظرية الشعرية ومسائلها جميعاً» .
ولما كانت الصورة عنصراً مهماً من عناصر الإبداع الشعري ووسيلته المتميزة بدا من المنطقي اتصافها بطبيعة متغيرة لما يطرأ من تبدل في القيم والتقاليد الشعرية في عصور ومراحل زمنية معينة. وبما أن ذوق العصر أظهر ميلاً إلى الشعر غير المألوف لما فيه من إذكاء للغرابة وإعلاء شأن التخطي المستمر للمعروف والشائع ومواجهة أغوار الذات الغامضة فقد تأثرت الصورة بهذا في خصائصها وكنه علائقها وأثارت مشاهد الحياة المعقدة لدى الشاعر المحدث صعوبة معاصرة تجسدت فيما تقتضيه من اختزال لهذه المشاهد بكل ما فيها من تنافر واضطراب وتثبيتها في صورة تكشف لنا عن النظام والوحدة وهنا تأتي صعوبة التوصل.
بحيث تحول الصورة الشعرية إلى ضرب من الاستبطان الذاتي ووجه من وجوه الانفلات من العالم المحسوس والاستغراق في دنيا الغيب ولجج الكشف غير المتناهية.
في شعر الحداثة لم تعد الصورة للشرح والإيضاح والوصف والمحاكاة، ولا للتحسين والتقبيح ولا للزخرفة، ولهذا لم تعد تعتمد على المقاربة والمشاكلة بين أطرافها، الصورة في الشعر الحداثة تتغذى من ذات الشاعر وحالات توثره واسترخائه النفسي، ولهذا تتغيا إيقاظ الكوامن الشعورية وإثارتها، وأحياناً نلتمس اللاوعي وتحاول نبشه عند المتلقي، كما تتغيا الإيحاء لدلالات لا تقريرها، وما على المتلقي، مقابل هذا، إلا أن يعتمد على رؤيته الحدسية وقدرته الاستيحائية «فالنص الحديث بهذا المعنى، مشروع صوري، يقرأ قراءة صورية، توفر مداخل واحتمالات قرائية عديدة، ذات مستويات متباينة والنص الذي يتوقف عند حدود الوجه الصوري الأول، لا يعد نصاً حديثاً، لأنه غير قابل للتعددية الاحتمالية والتأويلية» .
إن الصورة أصبحت أكثر ارتباطاً ببنية العمل الكلية فما عادت أداة زائدة تزيينية أو مضافة تستعمل لغرض بلاغي أو تأثيري وإنما هي نوع من الإدراك له خصوصيته المتميزة، وغايته ليست الوصف وإنما الكشف، وتبدو الصورة في الشعر التقليدي، في كثير من الأحيان ترتيباً للوقائع لا للمشاعر، فالشاعر التقليدي يخضع الداخل للخارج، وينسق مشاعره وفقاً للطبيعة بينما يحاول الشاعر الجديد العكس، فينسق الطبيعة وفقاً لمشاعره، ويخضع الخارج للداخل حين يخلع ذاته على موضوعه، لأن الشعر عنده موقف ذاتي من العالم، لهذا رفض شعراء الحداثة استعارات الشعر القديم وتشبيهاته الجاهزة، لأن آلاف الشعراء قد تداولوا هذه «العملة» حتى محت من كثرة الاستعمال وانطفأ إيحاؤها، فبحثوا عن صور جديدة نابعة من تجاربهم ومعاناتهم، وفي ظل هذا البحث اندغمت الصورة في منظومة الغموض وساهمت بالتالي في صعوبته لدى المتلقي وقد أدرك الشاعر الحداثي نفسه (خليل حاوي) إسهامها في هذا الغموض وذلك في قوله : «أما الغموض فظاهرة ترتبط بتحول الشعر الحديث عن تقرير الأفكار تقريراً عارياً من الصور إلى التعبير بالصورة الحسية عن الحالات النفسية والمطلقات المجردة، وهذه من بديهيات الشعر الأصيل» .
يتضح إذن، أن الشعر يكتسب أهميته وغناه، انطلاقاً من الصورة الشعرية التي تعتمد الإيحاء بدل التصريح والبصيرة بدل البصر، ولا شك أن المستوى العميق والثري الذي بلغته الصورة من الشعر الحديث، وابتعاد الشاعر عن مفهوم الصورة البيانية في البلاغة القديمة هو الذي ساهم مساهمة فعالة في إبعاد تجاربه الشعرية عن ذوق عامة الناس، كما منحهم نوعاً من التبرير لوصف شعره بالغموض.
ولذلك كانت الاستعارة وسيلة الحداثة الشعرية في رفضها لواقعها، وقرينة الغموض الذي يقرنها بالحث عما يجاوز السطح المكشوف من عمق يتخلق فيه كل ما لا تتحراه العيون الكليلة وقد تعاظم الاهتمام بالاستعارة عند المعاصرين حتى أصبحت لها سلطة على باقي المجازات الأخرى.
وقد لاحظ عبد القادر الرباعي أثناء دراسته لنماذج من الشعر من العصور الجاهلية والإسلامية والعباسية أن الاستعارة كانت تنمو وأن التشبيه كلن يتراجع أمامها معللاً ذلك بقوله : «وهذا طبيعي مادامت العقول التي تبدعها والأذواق التي تتلقاها في الشعر قد أصبحت تتدرج في الرقي والتثقيف»، ثم ينتهي إلى القول بأن التشبيه «وسيلة البساطة بينما الاستعارة وسيلة البلوغ والنضج» .
لقد تم الاستغناء في الصورة الشعرية عن الكتابة والمجاز المرسل اللذين يتأسسان على مبدأ المحاورة لأنهما يخلوان من عنصري الإيحاء والخيال في حين أن الصورة أداة الخيال ووسيلته الهامة وأبرز أدواته الإبداعية، وفاعلية الخيال لا تعني نقل العالم أو نسخه وإنما تعني إعادة التشكيل واكتشاف العلاقات الكامنة بين الظواهر والجمع بين العناصر المتضادة أو المتباعدة في وحدة. ولما كان المجاز المرسل والكناية عاطلين من هذين العنصرين الرئيسيين : الإيحاء والخيال، فقد تم استبعادهما من مجال الصورة، كما أن بعض الدارسين يجعلون وضعية الشبيه غير وضعية الصورة ومنهم على سبيل المثال أدونيس الذي يقول : «يخلط الكثيرون بين الشبيه والصورة حتى ليندر بين قراء الشعر الجديد وناقديه من يميزون تمييزاً صحيحاً بينهما فالتشبيه يجمع بين طرفين محسوسين، إنه يبقى على الجسر الممدود فيما بين الأشياء فهو لذلك ابتعاد عن العالم، أما الصورة فتهدم هذا الجسر لأنها توحد فيما بين الأشياء، وهي إذ تتيح الوحدة مع العالم، تتيح امتلاكه وامتلاك الأشياء يعني النفاذ إلى حقيقتها فتتعرى» ، هكذا تتيح لنا الصورة أن نتملك الأشياء امتلاكاً تاماً كما يشير أدونيس فهي من هذه الناحية الأشياء ذاتها، وليست لمحة أو إشارة تعبر فوقها أو عليها وامتلاك الأشياء يعني النفاذ إلى حقيقتها فتتعرى وتتلألأ في النوع، تصبح القصيدة القائمة على هذه الصورة أشبه بالبرق الذي يضيء جوهر العالم. وقد تعاظم الاهتمام بالاستعارة عند المعاصرين حتى أصبحت لها سلطة على باقي المجازات الأخرى، وبهذا نجد أن مقياس الغموض في علاقة طرفي الاستعارة أو في تحديد الحد الأقصى للبعد بينهما، يخضع لمبدإ التطور والتغيير فهو ينمو بشكل تصاعدي من الشعر القديم إلى الشعر الحديث وذلك ناتج من دون شك عن التطور الثقافي والفكري، وتطور المفاهيم الجمالية من عصر إلى عصر، فتقوى تبعاً لذلك قدرة الشاعر على كشف علاقات بين أشياء كانت تبدو في الماضي متباعدة إلى حد استحالة الجمع فيما بينها. وترى «إليزابيث دور» أن «الصورة التي تأتي عن طريق الاستعارة تؤدي غلباً قيمة فنية أعمق من تلك التي تأتي عن طريق التشبيه» .
ويرى «فوكز» أن الانصراف إلى «تركيز الانتباه على الصورة الشعرية يتفق مع تلك الفروض التي تقول بأن الاستعارة لب الشاعر، وأنها هي التي تصور وتجسم رؤيا الشاعر الخيالية، وأن موضوع هذه الصورة الشعرية في القصيدة هو ما يهم حقاً، فهي تصدر عن اللاشعور الذي يتصورونه المنبع الرئيسي للخيال، وهؤلاء النقاد الذين يعتبرون المفارقة والتهكم وجميع عناصر التجربة المتنافرة لا غنى عنها للشعر، يميلون إلى رفض التشبيه» .
ومن هنا تنبع قيمة كل قصيدة في طاقتها على الإيحاء فالصورة الشعرية تقدم مسافة بين الكلمة ومدلولها تاركة إيحاءات عدة، بينما في التشبيه لا نجد مثل هذه الإيحاءات ويذهب أحمد الطريسي إلى «أن الصورة الشعرية غير مرتبطة بعالم العناصر في أشكالها المفردة، بل هي مرتبطة بعالم النص ككل، بمعنى أن الصورة الشعرية في علاقة برؤية الشاعر، والرؤية هذه لا يعكسها تشبيه بأفقه المحدود، أو استعارة التي تعد جزئية في عالم النص الفسيح» ، بهذا يمكن أن نقول مع سيسل دي لويس «كل قصيدة هي بحد ذاتها صورة».
فالصورة تؤسس معناها في نطاق الوحدة الكلية للقصيدة، فيه تنمو شيء شيئاً مع مجموع الصورة الجزئية التي تكونها في وحدة بالغة بالتناغم والانسجام ونتيجة لهذا تبدو الصورة الحديثة شبيهة بالصورة (السينمائية) أو اللوحة الحديثة في تقطيعها واعتمادها على الجزئين الموحي والطبيعة الحلمية القائمة على اللقطات المتجاورة والمتراكم والمتداخل في لاوعي الشاعر وذاكرته : «فهي مجزأة بطريقة غربية وغير مألوفة بحيث تبدو للوهلة الأولى وكأها مجرد خليط من الأشكال التي لا معنى لها لكنها تنطوي على أجزاء وتذكرنا بموضوعات مألوفة أي أنها تسنح للذاكرة بتسجيلها ثم استحضارها في الذهن» .
وعليه لا يصلح المنطق أو العقل حكماً على دلالات هذه الصور وارتباطاتها لأنهما سينبذانها منذ الوهلة الأولى، فلا بد، إذن من الاعتماد على الإحساس والتجربة لإدراك ارتباطات هذه الصورة وتداعياتها المختلفة التي لا تقدمها لنا هذه الصورة على نحو مباشر تنقله إلينا كل صورة من صور القصيدة مستقلة لأن تكامل مجموعها يكون بنية التجربة ويحققها فيساعد بعضها بعضاً على إيضاح المطموس، وتحيا كل واحدة منهما في الأخرى وتنضج.
ولهذا فإن غموض القصيدة يعود في واحد من أهم أسبابه إلى غموض صورها بمظاهرها المختلفة وخصوصاً إذا علمنا أن الشاعر الحداثي لم يقتصر على التشابيه والمجازات والاستعارات ليتجاوزها إلى الرموز والأساطير والاعتماد عليها في بناء القصيدة بناء فنيا مبدعاً مبتعداً عن المباشرة والخطابية وهذا يفترض دوراً فعالاً للقارئ، فهو ليس مدعواً إلى الاستجابة فقط، بل إلى الخلق إن فاعليته لا تقل عن فاعلية الفنان ذاته في إعطاء الصورة أبعادها النهائية التي تحدد دورها في العمل الفني.
• اللغــة في الشعــر الحداثــــــي :
إذا كانت الحداثة عند أدونيس تعني تساؤلاً جذرياً يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها وافتتاح آفاق تجريبية جديدة في الممارسة الكتابية وابتكار طرق التعبير تكون في مستوى هذا التساؤل، فما طبيعة هذه اللغة؟
إن اللغة في الشعر الحديث لها شأن مخالف لشأنها في الشعر التقليدي تماماً، فهي تتحول من مجرد وسيلة في الأداء إلى لبنة من لبنات الدلالة في النص، قيمتها فيما توحي به لا فيما تخبر عنه وفيما تولده في النص من أوضاع جديدة، لا فيما توضع له في الأصل، لا تبالي بما تمليه القواعد ولا بمقتضيات العرف ولا بتقاليد الكتابة مع أنها تسعى في الوقت نفسه إلى تأسيس معنى وجودها على قواعد جديدة فريدة ومنطق خاص طريف، فتكتسي قيمتها السامية من البناء بعد الهدم، والإبداع لعد الصراع، ولا يتهيأ للشاعر الخلق والإبداع إلا بتحدي القارئ في ثقافته، وبمباغتته بما لم يكن في درايته وحسبانه.
اللغة رموز تثير الصورة في الذهن، والصورة يتلقاها الإنسان من الخارج أو يكونها من الجمع بين أشتات من عناصر خارجية تأتلف من خلالها الكلمات في تركيبة جمالية ذات طاقة انفعالية وبذلك تكون اللغة في الشعر وسيلة للإيحاء وليس أداة لنقل معان محددة. إنها رمز للعالم كما يتصوره الشاعر ورمز لعالمه النفسي، إنها لغة مجازية انفعالية، لغة عصرنا تختلف بكل تأكيد عن لغتنا في أي عصر مضى، وهي لا تختلف عنها من حيث هي لغة مجردة، فما زالت عربيتنا الأدبية أو الكتابية بعامة هي العربية الفصحى، وإنما تختلف من حيث علاقتها بظروفنا المعيشية الراهنة، بأفكارنا وتصوراتنا وآرائنا، فليست اللغة وسيلة تعبير وحسب، وإنما هي كذلك طريقة تفكير لكل وضع اجتماعي إذن لغته.
يقول أدونيس «إنه لا يمكن أن نخلق ثقافة عربية ثورية إلا بلغة ثورية حيث تصبح الكتابة قوة إبداع وتغيير، تضع العربي في مناخ البحث والتساؤل والتطلع والعمل، فحين حاول أبو تمام قديماً أن يثور على هذه الكلمة قيل عنه أنه «أفسد الشعر» وهذا يعني أنه غير نظام الكلام الموروث لذلك لم يفهمه الشعراء والنقاد الذين يرثون هذا النظام ويحافظون عليه» ، فشعر أبي تمام، على الأخص، كان الثورة الأكثر جذرية على صعيد اللغة الشعرية بالمعنى الجمالي الخالص، ويمكن أن نوجز ملامحها فيما يلي :
1- استدام الكلمات بطريقة أصبحت معها توحي بأكثر من معنى، لأنه أفرغها من معناها المألوف، فلقد خلصها من الحتمية وأسلمها للاحتمال، وهذا مما يحير قراءه (سامعيه) وأدى إلى الاختلاف في تفسير شعره.
2- غير النسق المألوف العادي لتركيب الكلمات، وهذا مما أدى إلى إتمامه بالتعقيد.
3- حذف ولم يترك ما يدل على حذفه، وهذا مما أدى إلى اتهامه بالغموض والصعوبة.
4- ابتكر معاني بعيدة وصيغاً غير مألوفة وسياقاً غريباً.
إن أبا تمام الذي يستشهد به أدونيس للمماثلة بينهما، فكلاهما اعتمد الفكر في الشعر وغاير مأـلوف عصره. لم «يفسد الشعر» لأنه ثار على الكلمة، وإنما لأنه تعمق المعاني وولد بعضها من بعض، وحاول أن يحمل الكلمات معاني أكثر مما تستطيع.
وهكذا أبطل التيار الفني قياس الشعر والأدب على القديم، من حيث أنه أصل للمحاكاة أو نموذج، يتضمن هذا الإبطال النظر إلى العالم من وجهة جديدة تعتبره بحثاً مستمراً ليس للإنسان فيه إلا أن يؤسس، بالفن، صورة عن عالم يجدر بالإنسان، حيث يجد نفسه ويتعرف عليها، وليس له في مغامرة البحث هذه غير اللغة. «اللغة هي طينة الخلاق وهكذا لم يعد علم الجمال، بالنسبة إليه، علم جمال النموذج أو الثابت، بل علم جمال الإبداع أو المتغير فالإبداع هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يمارسه الإنسان بجدارة ليؤسس وجوده، في أفق البحث، بتعبير آخر أخذ الإنسان يمارس هو نفسه عملية خلق العالم» .
الثورة اللغوية هنا تكمن في تهديم وظيفة اللغة القديمة، أي في إفراغها من القصد العام الموروث، هكذا تصبح الكلمة فعلاً لا «ماضي» له، تصبح كتلة تشع بعلاقات غير مألوفة.
فاللغة في نظر الشاعر المعاصر يجب أن «تصبح لغة عنيفة حطمت سلاسلها، وانطلقت حرة تحطم كل ما تراه من سلاسل أو رموز لهذه السلاسل... لغة ضدية، ضد العادة، ضد البنى الذهنية والبلاغية والإرثية... لغة بنوة بلا أبوة» .
«فالشاعر الجديد فارس ينتشل الكلمات من الغدير الذي غرقت فيه، ينسلها كلمة من نسيجها القديم، يخيطها كلمة في نسيج جديد، إذ يفعل ذلك يفرغها من شحنتها القديمة، من دلالاتها وتداعياتها، يملؤها بشحنة جديدة، تصبح لغة ثانية لا عهد لنا بها لذلك لا بد لتفهمها وتذوقها، من الخبرة والممارسة، وما لم نفهمها ونتذوقها لا نستطيع أن نكشف ما وراءها، إنما مفاتيحنا إلى عالم الشاعر، عبثاً نحاول الدخول إلى هذا العالم قبل أن نمسك بمفاتيحه» .
فالكلمة الشعرية ليست مجرد صوت له دلالة وإنما هي وجود، وحضور كيان وجسم وهذا التلاحم بين لغة الشعر والوجود هو الذي يستنفذ جهد الشاعر المعاصر ويشكل القدر الأكبر من معاناته للغة، «فلغة الشعر ينبغي أن تكون اللغة الإشارة في حين أن اللغة العادية هي اللغة الإيضاح، فالشعر بمعنى ما هو جعل اللغة تقول ما لا تتعلم أن تقوله، ما لا تعرف اللغة العادية أن تترجمه هو أحد مجالات الشعر، يصبح الشعر في هذه الحالة ثورة مستمرة على اللغة» .
وللكلمات معان نفسية ذاتية واجتماعية ولذلك فإن معنى الشعر يتسع ولا ينحصر لأن كلماته موحية وغير محدودة الدلالة، وفيها سيولة لا تنضب، إن لغة الشعر ذات مدلول ذهني مجرد ومدلول شعوري يشع بالإيحاء والصور والذكريات يثيرها اللفظ، يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي : «إن بعض الكلمات لتكتسب في عيني أحياناً صفات الكائن الحي، فلا تكن مجرد كلمات مفردة، إذ تضغط وتثوي فيها عوالم كبيرة ورؤى وذكريات حتى تصبح أشبه بالقمقم الذي حبس فيه العفريت أو الجني الذي هو الحياة، وتظل مثل هذه المفردات تطاردني وتفرض علي وجودها وكأنها جزء من ذاتي» .
إن القصيدة الحديثة شكل خاص من اللغة، له الفرادة والتميز مما يجعل منها مشهداً للافتتاح والدهشة، وللمخاتلة أيضاً، ومن هنا ينشأ الصراع بين الشعر واللغة لحملها على قول المنفلت واللامحدود.
إن الحدث الشعري الحق لا يتأسس إلا بخرق اللغة العادية التي لا تلامس إلا سطح الأشياء للوصول إلى لغة التفجير والإيحاء، الشاعر الذي يفجر اللغة ويجعلها تتلبس بالإشارات والرموز إنما يفعل ذلك ليرغم قارئه على تواصل أقصى.
فالشاعر لا يخلق لغته من فراغ، بل هو يستعمل لغة التخاطب اليومي ذاتها، ولكن بعد أن يزيل عنها الصدأ أو يبعثها من جديد وكأنه ويؤسسها لأول مرة، ويجعلها «تقول ما لم تتعلم أن تقوله».
إن اللغة في الشعر تتسربل بالغموض وتنفر من المنطق وتحديداته، إنها تركب المجاز الذي يضفي على الكلام والأشياء أيضاً، وجوداً آخر فالمجاز طبيعة ثانية في اللغة، واللغة تنفصل بفعل المجاز عن المنطقية والوضوح والعقلانية، ذلك أنها بفعل المجاز تتجاوز محدودية الألفاظ، وتعبر عما لا يقدر المنطق أو العقلانية أن تعبر عنه وتقول ما يتجاوز العادة ولكن لماذا الانزياح؟ لماذا تبتعد اللغة التي هي أداة تواصل منطقي عن المنطق، وتكون سياقاً يتأسس على هذا الابتعاد؟ بعبارة أخرى ما الذي يدفع الإنسان إلى الخروج من لغة المنطق الواضح واللجوء إلى لغة أخرى غامضة غير منطقية؟
يجيبنا مالارميه بقوله : «إن تسمية الشيء باسمه يعني ذلك حذف ثلاثة أرباع متعة القصيدة، هذه المتعة التي تقوم على غبطة الاكتشاف شيئاً فشيئاً، والإيحاء، وهذا هو الحلم» .
إن الأعمال الشعرية العظيمة هي تلك التي تفيض بالدلالات وتتفرج بالإيحاء بحيث يتعذر استنفاذ دلالاتها مهما تعددت المقاربات وتنوعت مناهج التعليل وتظل هذه الأعمال تزود القارئ، عند كل قراءة، مهما تباين الزمان واختلف المكان بأبعاد دلالية لا نهائية وغنى لا حد له.
«لا بد للكلمة في الشعر من أن تعلوا على ذاتها، أن تزخر بأكثر مما تعد به، وأن تشير إلى أكثر مما تقول، فليست الكلمة في الشعر تقديماً دقيقاً أو عرضاً محكماً لفكرة أو موضوع ما، ولكنها رحم لخصب جديد» .
«وبدل أن يكون الشعر خادماً للغة مستسلماً لما يتحول إلى ثائر عليها، يفجر فيها السحر، حتى تستطيع التشكل في تركيب جديد يتعرض فيه، من زاوية القصيدة وبواسطة اللغة، وضع الإنسان المعاصر» .
هكذا يتضح أن اللغة هي أصل الشعر وجوهره وهي مركز الفتنة والفاعلية في القصيدة، ولذلك أمكن لأدونيس أن يقول : «في كل قصيدة عربية عظيمة قصيدة ثانية هي اللغة، ومن هنا كان الدخول إلى عالمها يتطلب المرور من باب اللغة، فالقارئ الذي يستنتج من الشعر شيئاً لا تنشئه لغته، لا يقرأ الشعر، وإنما يقرأ أفكاره الخاصة» .
• الـــرمـــز فــي الشعــر الحداثـــي :
من أبرز الظواهر الفنية التي تلفت النظر في تجربة الشعر الجديدة الإكثار من استخدام الرمز أداة للتعبير، وليس غريباً أن يستخدم الشاعر الرموز في شعره، فالعلاقة القديمة بينه وبين الشعر ترشح لهذا الاستخدام.
ولكن التأمل في طبيعة هذه الرموز التي يستخدمها الشعراء المعاصرون وفي طرقة استخدامهم لها تستدعي الاهتمام بهذه الظاهرة أي باعتبارها طريقة في الأداء الأدبي تعتمد على الإيحاء بالأفكار والمشاعر وإثارتها بدلاً من تقريها أو تسميتها أو وصفها.
فكان استعمالها بهذه الكيفية يؤدي إلى إسهامها في الغموض الذي يحجب عملية تذوق الشعر وفهمه عن غالبية المتلقين للعمل الشعري.
إن تغير نظرة الشاعر الحداثي إلى الشعر والكون، وسعيه إلى بلورة رؤيا خاصة به، تعبر عن موقفه الفكري والجمالي من الأشياء والحياة والعالم، جعله في بحث مستمر للتفكير في أدوات يستطيع أن يجسد من خلالها رؤياه ويمنحها شكلاً ملموساً، وما لبث أو وجد ضالته في الرمز الذي أصبح أداة فعالة وركيزة هامة توسل بها الشاعر للتعبير عن مكنوناته وهمومه مما مهد الطريق للشعر لينتقل إلى مرحلة أعمق وأكثر غنى إن مستوى القيم المضمونية أو على مستوى القيم الجمالية.
وفي خضم حركة الحداثة هذه وما أشاعته من مزاج ووعي جديدين كان لابد من تهديم الشكل القديم لخلق إطار جديد يتلاءم مع الرمز، هذا الرمز الأدبي الذي «ما هو إلا عبارة أو كلمة تعبر عن شيء أو حدث يعبر بدوره عن شيء ما، أو يشمل على مدى من الدلالات تتجاوز حدود ذاتها أو هو بكلمات أكثر بساطة ربما شيء محسوس يرتبط به عادة، مغزى تجريدي وانفعالي» ، على حد تعبير جعفر العلاق.
ومن هنا لم يتردد المحدثون في صب جام غضبهم على التقاليد الأدبية الموروثة، فمن الواضح أن هذه الرموز ما عادت غير رموز يعاد استهلاكها باستمرار دون أن يبعث فيها دم جديد أو نسمة مغايرة «فهذه القرون من الصدأ وكسل المخيلة والسير في الطرقات ذاتها جعلت حاجة الشعر ماسة إلى نسيم جديد يهب على حقل الرموز هذا، ليكسر أسيجة الحجر ويبعث في الرمل البارد خضرة دافئة هي خضرة الرمز وجمره الجديدان» .
فحين لا ينقلنا الرمز كما يرى أدونيس «بعيداً عن تخوم القصيدة وبعيداً عن نصها المباشر لا يكون رمزاً، فالرمز الشعري هو الذي يتيح لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص وهو معنى خفي وإيحاء، وهو اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، أو هو القصيدة التي تتكون في وعي القارئ بعد قراءة القصيدة، وهو البرق الذي يتيح للوعي أن يكتشف عالماً لا حدود له» .
فالرمز يبدأ من الواقع ليتجاوزه فيصبح أكثر صفاءً وتجريداً وبالتالي فهو لا يرسم الواقع بل يرده إلى الذات وفيها تنهار معالم المادة وعلاقتها الطبيعية لتقوم على أنقاضها علاقات جديدة مشروطة بالرؤيا الذاتية للشاعر فالرمز «ليس تحليلاً للواقع بل هو تكثيف له، وفي هذا ما يربطه بالأحلام من حيث ميل كليهما إلى الإدماج والتجميع بحذف بعض الأجزاء المرموزة، أو الاكتفاء من مركباتها الكثيرة الكامنة بجزء واحد فقط أو الإيماء بالصورة المركبة إلى عناصر عديدة ذات سمات مشتركة» .
ولعل هذا الأسلوب المكثف هو سبب ما فيها من غموض تتعدد فيه مستويات التأويل ولا تتمانع، فليس هناك رمز يفضي بكل محتواه لقارئ واحد.
ولهذا كان الرمز أردأ أداة لمن يستهدف التواصل، لأنه لا يقصد إلى معنى معين، فقد تفهم نقيض ما يريده المتكلم، بل قد تفهم شيئاً حيث لم يقصد أي شيء.
إن الشاعر عندما يلتجئ إلى الرمز ليجعل منه وسيلة للتعبير عن تجربته الشعرية، وحالاته النفسية والكيانية، فإنما كانت هذه الحالات مما يقف أمامها التعبير التقريري عاجزاً لم يكن أمام الشاعر إلا أن يلجأ إلى إثارة حالات شبيهة بها في نفس المتلقي عن طريق الرمز الذي أصبح يتفاوت حيوية وفرادة من شاعر إلى آخر ليصوغ من خلاله مواقفه وليساهم في بلورة (الرؤيا) الخاصة به.
وفي بحثهم هذا فقد طور الرمزيون المعاصرون هذا المعنى وأضفوا عليه الكثير من ذواتهم وهواجسهم، وتمثل هذا التطور في محاولة الشاعر العربي إنعاش بعض الرموز الجاهزة فالرموز التي وجدها الشاعر العربي محيطة به تخفي وراءها تاريخها الخاص. «أي أن كل رمز منها يغطي بئراً فوارة، شديدة العمق : بئر دلالته الأولى وهي دلالة شائعة، رصينة، متواطأ عليها بين مستهلكي هذا الرمز وعارفيه» .
وهكذا صار الشاعر في الصراع ضد ماضي الرمز محاولاً عزله عن ماضيه وبعث نكهته الشخصية فيه والتخفيف من ثقل المعنى الشائع للرمز ليفسح الطريق أمام معانيه وخلق رموزه الخاصة به، رموزه الشخصية التي تلتصق بعالمه الشعري وتصبح جزءاً داخلياً حميماً من بنائه ولغته وانشغالاته الفكرية والوجدانية والجمالية.
«فالرمز لكي يؤدي دوره الحيوي الفعال، عليه أن يأتي ملتحماً بالسياق الشعري أما إذا عمد شاعر آخر إلى نفس الرمز الذي استعمله شاعر سابق واستعمله في نفس الغرض دون أن يضيف إليه شيئاً جديداً من دمه الشخصي، فإنه يتحول إلى لفظة لها دلالتها الاصطلاحية ويفقد بالتالي الخصيصة الرمزية بسبب فقدانه لحيويته وفعاليته» . وبالتالي فقد عني رواد الحداثة بهذا الرمز الشخصي «الذي يبتكره الشاعر ابتكاراً محضاً أو يقتلعه من حائطه الأول، أو منبته الأساس ليفرغه جزئياً أو كلياً من شحنته الأولى أو ميراثه الأصلي من الدلالة، ثم يشحنه بشحنة شخصية أو مدلول ذاتي مستمد من تجربته الخاصة» .
ولا بد من الإشارة إلى أن لقاء هؤلاء الشعراء برموزهم الشخصية، لم يكن اعتباطاً أو وليد صدفة، لقد كان بينهم وبين هذه الرموز نقاط تماس، تلتقي فيها هموم كل منهم بهموم عصره بشكل يجعل من هذا الرمز أو ذاك رمزاً شخصياً لا للشاعر وحده، بل لكل من يشاركه حلمه أو عذابه أو حنينه، ولم يكتف الشعراء برموزهم الشخصية ليخلقوا لأنفسهم أقنعة، والقناع كما يعرفه جابر عصفور : «رمز يتخذه الشاعر العربي المعاصر ليضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة، تنأى به عن التدفق المباشر للذات، دون أن يخفي الرمز المنظور الذي يحدد موقف الشاعر من عصره، وغالباً ما يتمثل رمز القناع في شخصية من الشخصيات تنطق القصيدة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 

ظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الشعر العربي الحداثي ومستويات تلقي النصفي المنظورات القرائية المعاصرة
» مظاهر الغموض في شعر أدونيس
»  التداول الحداثي لنظرية المقاصد
» الصورة الفنية وصلتها بالمتلقي قديماً وحديثاً
» أسرعوا للإستفادة مذكرة بعنوان التجليات الدلالية والمعجمية في كتاب مدرسي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين  ::  اللغة والنحو والبلاغة والأدب :: الأدب العربي-
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية reddit      

قم بحفض و مشاطرة الرابط منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين على موقع حفض الصفحات
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم


ظاهرة الغموض في الشعر الحداثي : التجليات والمظاهر الفنية 561574572

فانضموا إليها

Computer Hope
انضم للمعجبين بالمنتدى منذ 28/11/2012
سحابة الكلمات الدلالية
كتاب المعاصر الأشياء ظاهرة اللغة الخيام الحذف ننجز مبادئ مدخل العربي على اللسانيات النقد بلال موقاي العربية قواعد مجلة محمد النص اسماعيل التداولية البخاري الخطاب النحو


حقوق النشر محفوظة لمنتديات تخاطب
المشاركون في منتديات تخاطب وحدهم مسؤولون عن منشوراتهم ولا تتحمل الإدارة ولا المشرفون أي مسؤولية قانونية أوأخلاقية عما ينشر فيها

Powered by phpBB© 2010

©phpBB | Ahlamontada.com | منتدى مجاني للدعم و المساعدة | التبليغ عن محتوى مخالف | ملفات تعريف الارتباط التابعة لجهات خارجية | آخر المواضيع