الصورة الفنية وصلتها بالمتلقي قديماً وحديثاً
عمار الزريقي
[ عندما نقرأ في نصوص الشعر العربي ونحاول الغوص في الصور الفنية ونتذوق المدلولات وصلتها بوجدان المبدع والمتلقي، نجد بأن الصور الفنية والإبداعية التي يبتكرها الخيال، فتتوفر حينها الأدوات من لفظ ومعنى وصياغة وسمو خيال ورهافة
حس ومن براعة في تشكيل الصورة على نحو أن يبث فيها الحركة ويمنحها الجمال والتأثير وما جعلني أكتب عن هذا
الموضوع بيت شعر للشاعر الجميل نزار قباني يصف فيه شعر فتاة إسبانية:
[سارت معي والشعر يلهث خلفها
كسنابل تُركت بغير حصاد
فهو يصف جمال شعر فتاته الأسبانية التي كانت ترشده إلى الآثار القديمة في قصر الحمراء في الأندلس، فلمعان الشعر
وجماله ونماؤه وتموجه كسنابل قمح يداعبها الهواء صورة تشكيلية نغنيك عن أي شيء آخر، وهنا يكون التذوق من المتلقي
المعاصر الذي يريد أن يبتعد قليلاً عن الصور القديمة والتشبيهات البلاغية المعروفة والممجوجه ومن تقعيد البلاغيين من
مشبه ومشبه به ووجه التشبيه، فالصور الفنية الجمالية التي تكون قوية العلاقة مع النفس، أو رأسية في اللاشعور، فعندما يأتي
المبدع بصورة فنية فهو يعبّر عن المعاني الوجدانية العميقة التي يبتكرها الخيال فأي إبتكار عندما يأتي شاعر معاصر ويصف
محبوبته بالبدر، أو خدها كالورد وهكذا فالمبدع هو المتلقي ولم لا فالمتلقي بتقبله للصورة هو مبدع إيضاً، فلذا نبدع عندما
نبتعد عن الحدود والأقسام المصطنعة التي اصطنعها التفكير المنطقي لدى القدماء إنما يجب بأن نأتي بالصور المعبرة عن
المشاعر والأحاسيس وعن موقع الأشياء من نفوسنا، إذ لاينصرف التفكير إلى وصف الأشياء وصفاً موضوعياً إنما يكون
التعبير معتمداً على التجربة الفنية معتمداً على الخيال، ولننظر إلى الخيال وإلى التجربة فكيف حينها تزاحمت الصور بل
اللوحات الفنية المعبرة في مقدمة قصيدة «بلقيس» لنزار قباني:
[بلقيس كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيس كانت أجمل النخلات في أرض العراق
كانت إذ تمشي ترافقها طواويس وتتبعها آيائل.
بلقيس يا وجعي ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
هل يا ترى من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل
فهو يرثي زوجته العراقية «بلقيس» التي قتلت بعد إنهيار السفارة العراقية في بيروت فكانت تجربة لها صلة بوجدان الشاعر
وأحزانه، بعد أن فقد زوجته وأصبح وحيداً يعاني الحزن الذي يمزق قلبه، فيحشد التاريخ كله من بابل إلى شموخ العراق
المعاصر، فهذا رثاء من نوع خاص، هل ياترى بعد سقوط السنابل، بعد سقوط زوجته ثم سقوط دولتها العراق، وما زالت هذه
القصيدة بل هذا البيت يعطيني صوراً جديدة.. أليس من الأجدى أن نرثي به نازك الملائكة التي توفت أخيراً.
هل ياترى من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟
فالصورة هي أن تحيا وتشعر وفقاً لإحساس المبدع، إذ أن الإبداع دائماً عاطفة تجيش وتفيض، إما أن تجعله قاصراً كسيحاً- لا
حول ولاقوة- فيكون حينها كلاماً لا علاقة له بالفن والإبداع.
وهذا كله نجده في إبداع كثير من المبدعين قديماً وحديثاً، فشاعر العربية أبو الطيب المتنبي هو من أكثر الشعراء الذين
اشتهروا بجمال الصورة وروعة التعبير وإن كان يأتي بعده أبو تمام.
فديوان أبي الطيب المتنبي زاخر بصور الفن والجمال في التعبير عن المعاني المبتكرة والتي تدل على عبقرية المتنبي
وإبداعه، ففي قوله في مدح سيف الدولة الذي استرد قلعة الحدث المشهورة من أيدي الروم.
]غصب الدهر والملوك عليها
فبناها في وجنة الدهر خالا
فهي تمشي مشي العروس إختيالا
وتثني على الزمان دلالا
فالمتنبي كان في لحظة التجلي والإبداع فهو لا يرى ما يراه الآخرون، إذ يرى القلعة تمشي مشي العروس اختيالاً وكبرياء بعد
أن تحررت من أيدي الأعداء، وأصبحت عربية النسب والإنتماء لأنها عادت إلى صرح العروبة والإسلام، بل نراه في البيت
الأول يصورها بـ «الخال» الذي يزين وجنة الدهر، وهو تشبيه، يكشف عن صلة التعبير والتصوير بوجدان الشاعر العربي
ورؤيته الخاصة المعبرة عن سعادته وسروره بتحقيق النصر على الأعداء الغاصبين، فنلاحظ هنا بما يعرف في النقد الحديث
بما يسمى «التشخيص» وهو أسلوب تعبيري عن المعاني بأسلوب بعيد عن اللغة العادية لأن المبدع يخلع من أحاسيسه
ومشاعره على الأشياء الجامدة فيجعلها حية ذات إرادة وروح فتكون كالإنسان، وهنا يكون المبدع مبدعاً، فالمتنبي في قصيدة
أخرى، يمدح سيف الدولة الحمداني بعد أن أوقع بقبائل بني كلاب الهزيمة الذين أعلنوا العصيان على سلطة الأمير، نجد
كثيراً من هذه الصور الجمالية أو «التشخيصية»
طلبتهم على الأموه حتى
تخوف أن تفتشه السحاب
وتسأل عنهم الفلوات حتى
أجابك بعضها: وهم الجواب
فرسم لنا هنا صورة اسطورية لسيف الدولة فهو يخاطب السحاب، والسحاب نراه يخاف ويفزع، مثلما يخاف الإنسان،
والفلوات «الصحارى» تسأل وتجيب وهي أشياء جامدة لا تنطق ولكنها في سياق التعبير الجمالي تصبح مجسدة أمامنا تجيب
الأمير وترشده إلى فلول الأعراب المنهزمين، والفضل في هذه الصورة الفنية الجمالية يعود إلى خيال الشاعر الذي يضفي
على الجماد روحاً إنسانية، هنا نستطيع أن نسميه بالمجاز اللغوي لأنه استخدم في غير معناه الحقيقي فأعطى قوة إبداعية
خلاقة في تصوير المعنى، نجتاز فيها الواقع الحقيقي، واقع الجماد الذي لا فعل له، إلى واقع الإنسان الحي، ترتفع فيه الطبيعة
إذ تتجاوب مع الإنسان وتشعر وتحس، فيتكون لدينا عالماً إبداعياً جديداً.
أما عن مثيلات هذه الصور التي نجدها عند أبي تمام فاكتفي بصورة واحدة في قصيدته الرائعة في وصف وقعة عمورية
التأريخية
يايوم وقعة عمورية انصرفت
عنك المنى حُفلاً معسولة الحلب
بكر فما افترعتها كف حادثةٍ
ولا ترقت إليها همة النوب
حتى إذ مخض الله السنين لها
مخض البخيلة كانت زبدة الحقب
حتى كأن جلابيب الدجي رغبت
عن لونها وكأن الشمس لم تغب
فأبوا تمام عبرَّ عن الإنتصار تعبيراً وجدانياً مدركاً بالحس، لقد أسند إلى الأماني والآمال فعل الانصراف مثلما ينصرف
الإنسان وهنا لم تنصرف إنصرافاً عادياً، بل مملوءة بالحليب المعسول، لقد تحولت الأماني إلى أثداء حافلة باللبن، وهذا
التحول الرمزي يوحي بتحقيق الأماني بالنصر على الأعد، بل نجد مدينة عمورية فتاة عذراء بكراً، لا يستطيع أحد أن يمسها
بشر، بل نجد المدينة حصينة أمام المصائب والنوائب، فتعاقب السنين والأيام عليها مخضها مخض بخيلة من أجل الحصول
على الزبدة والثمرة المرجوة إلى أن ينتصر المسلمون ويحققون ثمرة جهدهم وصبرهم، فكانت هذه الثمرة التي رمز لها بزبدة
الحقب لأن الزبدة لا تحصل إلا بعد المخض، ونجده أيضاً يشخص «الدجى» الذي يعبر عن شدة الظلام، وجعل له جلابيب
وأردية سوداء يرتديها الدجى مثلما يرتدي الإنسان ثيابه، ولكن خيال الشاعر جعل جلابيبُ الدجى تكره لونها الأسود القاتم
مثلما يكره الإنسان الأردية السوداء في كثير من الأحيان، ومنا هنا نلاحظ بأن أبا تمام نقل لنا بإبداعه إلى المتلقي في كل زمان
ومكان وقعة عمورية وكيف فتحت نقلاً مباشراً وعلى الهواء، بل أرى الآن المعركة أمامي ماثلة مدركة بحاسة البصر، ومن
خلال هذه السطور التي قد تكون بداية لمقالات أخرى عن هذا النوع من الجماليات والإبداعيات عند المبدعين القدماء
والمعاصرين.