ثانوية محمد الخامس التأهيلية
كلميمـــــــــة
د. يوسف تغزاوي.
الاستلزام التخاطبي في الفكر اللساني المعاصر :
1- مـــقـــدمـــــــة :
اهتم فلاسفة اللغة العادية بدراسة الجوانب الدلالية والتداولية للغات الطبيعية فاقترحوا تحليلات للظواهر المرتبطة بالاقتضاء والأفعال اللغوية والاستلزام الحواري والإحالة والمرجعية وغيرها .
وقد انتقلت هذه الظواهر عن طريق الاقتراض إلى حقل الدراسات اللغوية إذ أن مجموعة من النظريات اللغوية التوليدية منها وغير التوليدية وظفت هذه المفاهيم في وصفها للغات الطبيعية.
نتساءل في هذا المقال عن الكيفية التي عالجت بها هذه النظريات اللسانية الحدية ظاهرة الاستلزام التخاطبي؟
سنحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال الاقتراحات المختلفة التي تعرضت لوصف هذه الظاهرة إلا أنه قبل ذلك نتعرض لمفهوم الاستلزام نظراً لما يطرحه هذا الأخير من إشكالات.
2- مفهوم الاستلزام والإشكالات المتعلقة به :
إن التضمين والاقتضاء والاستلزام ومفاهيم أخرى مثل الإحالة والمرجعية تدخل ضمن الأبحاث الدلالية والتداولية، قد تم إدماجها وفرضها كعوامل ذات مفعولية من قبل الباحثين الدلاليين والتداوليين أمثال جرايس Grice وستراوسون Strawson وكوردن Gordon ولكوف Lakoff.
ويطرح الاستلزام كمصطلح مجموعة من الإشكالات تتعلق بالأساس بالترجمة الحقيقية لهذا المصطلح نظراً لتداخل هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى مثل الاقتضاء والتضمين في أبحاث كثير من الدارسين. وسأعمد إلى محاولة وضع الحدود المميزة بين هذه المفاهيم وإن كانت مسألة الفصل أمر صعب.
2-1- التــضــمــيــن :
إن اصطلاح التضمين يدل على دلالات متباينة بحسب المادة التي استعمل فيها واستفادت منه فنراه في كتب البلاغة في باب (التضمين والاقتباس) وفي مادة العروض في (باب عيوب القوافي) كما أنه يدخل في أبواب النحو مثلاً في (باب حروف الجر والمتعدي واللازم).
ويتجلى هذا في إيجاز كلام الله عز وجل فكل آية لا تخلو من التضمين، ومواضيع التضمين واسعة هذا مما يؤدي إلى اختلاف الأقدمين في حقيقة التضمين من حيث كونه خروج عن الحقيقة إلى غيره توسعاً ومجازاً. ونخلص إلى مذهبين في الموضوع : المذهب الأول يقر أن المادة المتضمنة قد استخدمت على وجه المجاز مع قطع الصلة بينها وبين الأصل. والمذهب الثاني يقر أن المادة مستخدمة على وجه الحقيقة والمجاز معاً .
والمضمن هو المعنى الإضافي المستتر الذي لا يقصد لذاته أحياناً من الكلام وتدفع إلى تضمينه آداب الياقة والمجاملة وسواها. ومصطلح مضمن يعود إلى جرايس الذي يعتقد أن المضمنات قضايا إضافية رغم أنها غير صريحة التقرير وأن من حق المتكلم اصطناعها. والمضمنات في نظره نوعان : مضمنات اصطلاح ومضمنات مكالمة.
* مضمنات الاصطلاح : تتعلق بشيء يضاف إلى المعنى الاصطلاحي المعتاد للكلمات.
*مضمنات المكالمة : وهي مضمنات مجاملة في الحديث وتنحدر من الظروف التي يتحدد بموجبها تسلسل الحديث. وقد صاغ جرايس لهذه المضمنات والظروف المتعلقة بها قواعد أسماها بقواعد الحوار .
كما ورد في المعجم الفلسفي أن الضمني Implicite هو المنسوب إلى الضمن وهو باطن الشيء وداخله وضده الصريح Explicite تقول يفهم من ضمن كلامه كذا أي دلائله ومراميه ويطلق على الاعتقاد الناشئ عن التقليد والمصحوب بالحذر وكل معنى يتضمنه النص دون التصريح به فهو معنى ضمني والتضمين عند مناطقة العرب إحدى دلالات اللفظ على المعنى .
ويطلق لفظ التضمين في الفلسفة الحديثة عن علاقة منطقية صورية بين حدين بحيث يكون الثاني منهما لازماً بالضرورة عن الأول، ومن الأمثلة الدالة على التضمين أن معنى الإضافة يتضمن معنى العدد، ومعنى العدد يتضمن معنى المكان. وكثيراً ما تكون هذه العلاقة متبادلة مثل ذلك أن معنى الأبوة تتضمن معنى البنوة والكبير يتضمن معنى الصغير .
إن التضمين كإجراء دلالي وتداولي لا ينال أحقيته إلا بمقاومته للمعنى الحرفي الذي لا يستبعده، لكن كيف يتم اكتشاف هذه التضمينات وإدراكها؟
يتم هذا عن طريق الاستدلالات المنطقية التي تنقلها من المعنى الحرفي إلى المعنى المضمن. والتضمين في بعض تعريفاته هو ما يريد المتلفظ قوله عبر الملفوظ دون التصريح به ويصفه جرايس كعلاقة تقترب في اللغة العادية من التقرير والإيحاء.
يتضح مما سبق أن مواضيع التضمين واسعة ويطرح بدوره تساؤلات عديدة.
2-2- الاقـــتـــضـــاء :
إن الاقتضاء أو المستوى القضوي نجده في إطار نظرية الأفعال ونمثل له داخل فعلية الاستفهام والتي تقتضي :
1- ملفوظات (جمل استفهامية) مشروطة بالصحة وضرورية لاستدعاء أجوبة سواء كانت جزئية أم تامة.
2- أن يكون المستفهم معتقداً بملفوظاته المرسلة حتى يصل إلى هدفه المرجو وحتى يحقق فعلاً آخر بواسطة هذا الفعل الاستفهامي. وتقتضي فعلية الاستفهام مقالين :
- أولهما ينبثق عن فعلية الاستفهام (حالة المستفهم).
- وثانيهما تنزع نحو هذه الفعلية (الأجوبة وفق المقاصد).
إن المقام الأول سبب في الفعل اللغوي (الاستفهام) والمقام الثاني سبب في الفعل اللغوي (الجواب) ويمكن أن نصوغ لكل من المقامين قانونين :
القانون الأول : الاستفهام (س) يقتضي الجواب (ص).
إن هذا القانون هو الذي تسير عليه مختلف التحليلات التركيبية الدلالية على السواء مثل ذلك :
س : من ألف كتاب المقتضب؟
ص : المبرد (جواب وارد).
: سيبويه (جواب غير وارد).
: لا أدري (جواب ناقص).
بالإضافة إلى الاقتضاءات السابقة لفعلية الاستفهام نجد في إطار نظرية الفعل اقتضاءات أحرى منها مثلاً : اقتضاء الجواب للسؤال ويترجمه القانون التالي :
الجواب (ص) يستدعي
يقتضي الســـــؤال (س).
يشــيــر
كما يتضح في المثال الثاني : - الجـــــو جميــــل.
- لماذا أنت مسرور؟
- هل يمكنك أن تخرج؟
وارتبط مفهوم الاقتضاء في فلسفة اللغة العادية بمفهوم الإحالة وكان الفيلسوف «فريج» أول من نبه إلى وجود علاقة بين هذين المفهومين حيث لاحظ أن صدق جملة ما متضمنة لاسم علم يقتضي أن يكون لهذا الاسم إحالة. فاقتضاء جملة ما كالجملة التالية مثلاً :
مات كيبلير فقيراً.
هو أن يحيل الاسم كيبلير على شخص ما. وأعطيت كتابات فريج انطلاقة لإنتاج ضخم تناول هذا المفهوم في أبعاده المختلقة في علاقته لمفاهيم تلابسه سواء في إطار فلسفة اللغة أو في إطار الدرس اللغوي المعاصر.
وهكذا يمكن أن نميز بين التضمين والاقتضاء انطلاقاً مما سبق حيث يمكن أن نعتبر التضمين يشكل عنصراً من دلالة الجملة ولكنه لا يظهر على مستوى السطح، وإنما يبقى غائباً عن الملفوظ ولا يمكن اكتشافه إلا عبر مجموعة من الاستدلالات المنطقية التي تنقل المخاطب من المعنى الصريح إلى المعنى الضمني. أما الاقتضاء فيبقى معطى داخل الملفوظ ويمكن إدماجه ضمن المعنى الحرفي فقولنا (اشترى الطالب القلم) فهذه الجملة اقتضي وجود القلم كما تقتضي وجود طالب يستعمل هذا القلم.
2-3- الاستلزام التخـــــاطبــي :
يطرح وصف هذه الظاهرة التي اصطلح على تسميتها تبعاً لجرايس بالاستلزام التخاطبي أو الحواري، إشكالاً من أهم الإشكالات التي تستدعي من النظرية اللغوية معالجتها ويتمثل هذا الإشكال في التساؤلات التالية :
1- في حالة استعمال جملة ما مخروجاً بمعناها الظاهر المدلول عليها بصيغتها إلى معنى آخر ما هو في نهاية الأمر التأويل الوارد إعطاؤه لهذه الجملة؟ هل يعتمد المعنى الصريح وحده باعتباره السابق إلى الفهم؟ أم المعنى المستلزم والصريح معاً باعتبار أن المعنى المستلزم مقامياً ناتج عن المعنى الظاهر؟
2- في حالة اعتماد المعنيين يجد الواصف لتحليل الظاهرة أمام مشكلتين رئيسيتين :
أ- كيف تتم عملية الاستلزام هذه؟ أي كيف يتم الانتقال من المعنى الصريح إلى المعنى المستلزم خطابياً بوجه عام؟
ب- كيف يمكن معرفة وضبط المعنى الذي تخرج إليه صيغة معينة من الصيغ الجملية كالاستفهام والنداء والأمر والنهي؟
وللتوضيح نأخذ الجملة التالية :
هل تستطيع أن تناولني الكتاب؟
في حالة استعمال هذه الجملة في مقام تستلزم فيه خطابياً الالتماس ما هو معناها؟ أهو الالتماس أم السؤال والالتماس مجتمعين؟
إذا أخذنا بالفرضية الأولى : كيف تم الاستلزام؟ ثم لماذا انتقلت الجملة من الدلالة على السؤال أو (الاستفهام الحقيقي) إلى الدلالة على شيء آخر؟ ثم لماذا تم الانتقال بالضبط إلى الالتماس دون غيره من المعاني ؟
هذه معظم التساؤلات التي يطرحها الدارسون فيما يخص ظاهرة الاستلزام التخاطبي وقد ارتأينا أن نترجم الاستلزام التخاطبي أو الحواري كمقابل Implication conversationnel. ويرى كثير من الدارسين أن ظهور هذه الظاهرة أي (الاستلزام التخاطبي) يرتبط بصدور مقالة جرايس المعنونة بالمنطق والحوار Logic et conversation حيث يقترح جرايس في هذه المقالة أن توصف ظاهرة الاستلزام التخاطبي انطلاقاً من مبدإ التعاون والقواعد المتفرعة عنه باعتبار أن مصدر الاستلزام هو الخرق المقصود لإحدى القواعد الأربع مع احترام مبدإ التعاون. وظاهرة الاستلزام التخاطبي إجراء وارد ومستعمل في جميع الصيغ اللسانية على مستوى التداول. هذه الظاهرة التي لا تتجلى إلا عبر التفاعل الذي يتم بين الصيغة اللسانية ووظيفتها التداولية، كما أن هذه الظاهرة تبرز على مستوى مظهرين : إذ أن الشكل اللساني المستعمل إما أن يعبر عن معنى آخر غير معناه الظاهر والمعتاد، أو أن يعبر عن معناه ذلك بالإضافة إلى معان أخرى في نفس الوقت بمعنى أن اللامباشرة يمكن تحديدها بأنها تمثل نوعاً من عدم التطابق بين الشكل اللساني ووظيفته التداولية، كما أن هذه الظاهرة باعتبارها كذلك يتجلى من خلالها بوضوح واقع معطى وهو كيف أن معرفة القواعد النحوية لأية لغة ليست كافية للتمكن من التداول بها. وظاهرة الاستلزام استقطبت اهتمام كثير من الباحثين والمهتمين سواء أكانوا لسانيين أو فلاسفة أو محللين للخطاب كما شكلت هاجساً معرفياً ومسألياً في إطار نظرية الأفعال اللغوية حيث أصبح هؤلاء الباحثين وشاغلهم هو معرفة ما الذي يمكن المتكلم من تبليغ فصده عن طريق الاستلزام والذي يجعل المستمع بدوره يفهم قصد المتكلم رغم انعدام توافق بين الشكل اللساني ووظيفته التداولية. وبعبارة أخرى من الذي يدفع المتكلم لأن يختار اللامباشرة كإستراتيجية تداولية رغم توافره على إستراتيجية المباشرة؟
وفي هذا السياق حاولت الأستاذة فاطمة الأمراني أن تلخص الدوافع التي تجعل المتكلم يختار إستراتيجية اللامباشرة وتمكن من فهم قصد المتكلم ويتكون هذا النموذج الذي يكشف عن العوامل من أربعة عناصر :
أولها عنصر Ratinality وهو عبارة عن نظام يمكن من الإفصاح عن الأهداف المتوخاة. وثانيهما عنصر الوجه Face وهو الصورة الإيجابية التي يريد كل فرد من الأفراد أن يثبتها لنفسه لدى الآخرين. أما العنصر الثالث من هذا النموذج هو الورود Pertinence ووظيفة هذا العنصر هو اختيار الوسائل الناجعة في تحقيق هذا الهدف، أم العنصر الرابع فهو الاستلزام وعن طريقه يتم تفكيك أو فهم فحوى الرسالة المبلغة، وهذه العناصر كلها تتفاعل فتتمخض عن دلالة اجتماعية هدفها هو التأثير على العلاقات الاجتماعية التي تربط المتكلم بالمتلقي. كما أن إبلاغ هذه الرسالة أو الدلالة الاجتماعية عن طريق اللامباشرة هو ذو قيمة استحسانية لأن ذلك يبين مهارة المتكلم وحنكته الاجتماعية .
ولعل أبسط تعريف يمكن إعطاؤه المعنى المستلزم هو المعنى المستتر الإضافي والمحذوف الذي لا تدل عليه صيغة الجملة وعكسه هو المعنى الصريح أو الظاهر. ويؤكد معظم الدلاليين اليوم أن معنى الملفوظ ليس هو المعنى الحرفي للكلمات أو الجمل التي يضمها هذا الملفوظ، وإنما معنى الملفوظ شيء وراء هذا المعنى الحرفي وتعكسه السياقات البلاغية والنفسية والاجتماعية ويدرك في عمقه الملفوظي نفسه. وفي هذا المضمار يؤكد الباحث اللغوي ديكرو، أن معنى الملفوظ Enoncé شيء غير المعنى الحرفي للجمل ويذهب إلى ضرورة تجنب المعنى الحرفي للجمل وتحاشيه في التحليل اللغوي والدلالي لأن دلالة العبارة الحرفية في نظره هي مجرد معلومات تنويرية تفيد في فك استعراض الملفوظ ولكنها ليست معنى الملفوظ. وطالما اعتقدنا في معنى حرفي للجمل فنحن عند جزء بسيط وأولي من معنى الملفوظات. جزء تأتي الأجزاء المواقفية الأخرى لتكسوها بدلاتها بشكل مستقل عن أية قاعدة لغوية ويكون فكه استناداً إلى موقف الحديث أو الخطاب، ويقول ديكرو في هذا التكامل المفروض بين الحرف والملفوظ : «إنه لا يفرض أن نعين الدلالة في موقف معين معنى واحد للجملة، وذلك أن علم الدلالة لا يستطيع أن يعين أي العناصر بين المكونات المواقفية العديدة سوف يعتبرها المفسر ملائمة وأيها سوف يهمل. وهناك ألف طريقة ممكنة للاستجابة للمعلومات التي تحملها الجملة إلينا» .
ولقد أشار (داوود عبده) في مقالته «التقدير وظاهرة اللفظ» إلى أن ظاهر اللفظ ليس كل شيء في تحديد المعنى فمعنى الجملة يتحدد على مستوى أعمق من التركيب الخارجي والتركيب الذي يحدد المعنى هو البنية الداخلية للجملة وهي تتحول إلى البنية الخارجية التي يتلفظها المتكلم نتيجة تطبيق قواعد لغوية تسمى بقواعد التحويل. وإذا أخذنا الجمل ذات المعاني المتعددة، وهي ظاهرة لغوية موجودة في جميع اللغات، نجد أن سبب تعدد معاني هذه الجمل يعود إلى كون أحد مفرداتها لها معاني متعددة كما في الجملة الآتية :
جلست إلى جانب العين.
معاني هذه الجملة تعود إلى تعدد معاني كلمة عين .
يتبين مما سبق أن الوصول إلى حقيقة المعنى في اللغة لا يقتصر على صحة التقرير فيها ولا على التجريبية الواقعية التي لها، ولهذا الغرض ظهرت التداولية محاولة استكناه الدلالة في الملفوظات وفق معايير منطقية تأخذ بعين الاعتبار العلاقات الإنسانية وكذلك العلاقات التركيبية للنسق اللغوي. والمعنى التداولي مشروط بالمقام الذي أنجزت فيه الجملة ذلك على الرغم من أن الملفوظ يمكن تحديد معناه انطلاقاً من العناصر المعجمية فإنه يبقى أحياناً غامضاً لدى المتلقي.
وفي إطار التداولية اقترحت عدة نماذج لدراسة المعنى المضمر من بينها اقتراحات جرايس التي كان لها أثر كبير في تطوير التداولية لدى المدرسة الأنجلو الأمريكية كما درست ظاهرة الاستلزام التخاطبي في إطار نظرية الأفعال (اللغوية غير المباشرة) عند سورل وأوستين.
كما نستنتج من خلال الدراسات العديدة التي تناولت مفهوم الاستلزام أن السؤال الذي يشغل بال الباحث هو كيفية حصول الاستلزامات التخاطبية أو بعبارة أخرى كيف تتم عملية الانتقال من المعنى الحرفي إلى المعنى المستلزم مقامياً؟ للإجابة على هذه التساؤلات سنعرض في هذا المقال لأهم الاقتراحات التي قدمت في إطار الدرس اللغوي المعاصر لتحليل ظاهرة الاستلزام التخاطبي مبرزين بالأساس المبادئ المعتمدة في كل صنف من الاقتراحات.
3- الاقتراحات الحديثة لوصف ظاهرة الاستلزام التخاطبي.
قدمت في السنوات الأخيرة عدة اقتراحات لوصف ظاهرة الاستلزام التخاطبي خاصة منذ صدور مقالة جرايس (المنطق والحوار) (Logic et conversation) في إطار كل من فلسفة اللغة العادية أو الفلسفة الصورية والنظرية التوليدية التحويلية ونشير هنا لأهم وأشهر هذه الاقتراحات : اقتراح جرايس نفسه، اقتراح سورل واقتراح كوردن ولاكوف.
3-1- اقتراح جرايس :
منذ عشر سنوات مضت أسس بول جرايس نظرية الحوار Théorie de conversation التي تهدف إلى تفسير الملفوظات اللغوية وذلك من خلال مقالته (المنطق والحوار) حيث ركز اللسانيون الفلاسفة كثيراً على عمله هذا أثناء تحليلهم للظواهر اللغوية ويتعرض جرايس في مقالته هذه لمفهوم الاستلزام أو التضمين Implicitation ويحاول تعريف هذا المفهوم عن طريق مثال للصديقين اللذين يتحدثان عن صديق ثالث لهما يعمل في إحدى الأبناك فيسأل (أ) (ب) كيف حال (س) في عمله فيجيب (ب) (أ) «لا بأس أظن أنه منسجم مع زملائه ولم يسجن بعد» ويرى جرايس أن هناك عدة أجوبة واردة لهذا الكلام وهنا يقوم الباحث على إدخال بعض المفاهيم التي يراها أساسية لكل عملية حوار مثل فعل أضمر أو (ضمن) Impliciter ومشتقاته التضمين أو الاستلزام Implicitation ومتضمن Impliquer (ما هو متضمن) ثم يميز بعد ذلك بين فعل (قال) وفعل (ضمن) ويتوصل إلى أن الثاني أشمل باعتبار الأول يحدد العلاقة الضيقة بينما قيل والمعنى العرفي للكلمات. وعملية الحوار عند جرايس تقوم على مبدإ عام يخضع له كل المشاركين في الحوار يسمى هذا المبدأ (بمبدإ التعاون) Principe de coopération.
ولوصف ظاهرة الاستلزام يقترح جرايس وضع مجموعة من القواعد التي يعتبرها ضابطة لكل حوار لغوي ولهذه القواعد أربعة أصول ويحكمها جميعاً مبدأ التعاون وفيما يلي صياغة مبدأ التعاون والقواعد المتفرعة عنه :
مبدأ التعاون : «اجعل تدخلك مطابقاً لما يقتضيه الغرض من الحوار الذي تساهم فيه في المرحلة التي تتدخل فيها».
أما القواعد الحوارية المنبثقة عنه، فيمكن صياغتها على الشكل التالي :
1- مبدأ الكم : Quantité ويعني بكم المعلومات الإخبارية التي يحملها الخبر وترتبط به القواعد التالية :
لتكن مشاركتكم حسب ما تقتضيه حاجة المخاطب.
يجب ألا تتوفر مشاركتكم على أكثر مما هو مطلوب.
2- مبدأ الكيف : Qualité الذي يعني بكيف الخبر، ويمكن أن نقرنه بالقواعد التالية :
لتكن مشاركتكم صادقة.
لا تقل ما تعلم أنه خاطئ.
لا تقل ما ليس عندك عنه برهان.
3- مبدأ العلاقة : Relation يمكن أن نربطه بقاعدة واحدة وهي :
تحدثوا في الموضوع.
4- مبدأ الصيغة : Modalité.
كونوا واضحين.
تجنبوا الغموض.
تجنبوا الالتباس.
كونوا منهجيين.
وتحصل في نظر جرايس ظاهرة الاستلزام التخاطبي حين يتم خرق إحدى هذه القواعد قصداً مع احترام مبدإ التعاون. ولقد حاول جرايس في نفس المقالة أن يقدم نموذجاً لكل صنف من هذه القواعد :
الــكـــم :
إذا ساعدني أحد على إصلاح سيارة فإنني أنتظر أن تكون مشاركته ملائمة للمطلوب فمثلاً إذا احتجت إلى أربعة لوالب فإنني أنتظر أن يعطيني أربعة لوالب لا ستة أو اثنين.
الكيـــــف :
إنني أنتظر مساعدة حقيقية لا شبه مساعدة، إذا ألزمني سكر لإعداد الحلوى فإنني أتمنى أن لا يعطيني ملحاً. إذا احتجت إلى ملعقة فأرجو أن لا يعطيني شيئاً من المطاط.
العلاقــــة :
إنني أعتمد على مساعدة ملائمة للحاجات اللازمة لكل مرحلة من المساهمة، إذا كنت أخلط مواداً إعداد الحلوى فلا أنتظر من مساعدي أن يعطيني كتاباً ولا حتى قالباً للحلوى.
الصيغــــة :
أرجو من مساعدي أن يفسر لي طبيعة المساعدة وأن ينجزها في وقت معقول .
إن الحوار حسب جرايس تتحكم فيه مبادئ على المشاركين أن يحترموها وإذا افترضنا أن أحداً خرق إحدى هذه القواعد فعلينا أن نتجه إلى ظروف هذا الخرق فمثلاً السؤال التالي :
كم كانت الساعة عندما أتى جان؟
لقـــد أتـــى فـــــي الــمــســـــــاء.
نلاحظ في هذا الجواب أن هناك خرقاً للقاعدة الأولى (الكم) وهي لتكن إفادتكم للمخاطب على «قدر حاجته»، فيتوصل المستمعون إلى أن السائل لم يكن بإمكانه احترام هذه القاعدة لأنه يجهل الساعة التي وصل فيها جان وبالتالي خرق للقاعدة الثانية للكيف وهي (لا تقولوا ما تعلمون كذبه).
ويقدم الباحث أمثلة أخرى تخرق قواعد الحوار وتؤدي إلى ولادة استلزامات حوارية. ووفق هذا التصور يقوم جرايس بتصنيف عام للمعاني التي تحملها العبارات اللغوية ويقوم هذا التصنيف على المقابلات التالية :
تنقسم الحمولة الدلالية للعبارات الغوية إلى معاني صريحة ومعاني ضمنية.
1) المعاني الصريحة هي المعاني المدلول عليها بصيغة الجملة ذاتها.
2) المعاني الضمنية هي المعاني التي لا تدل عليها صيغة الجملة. وتشمل المعاني الصريحة :
أ- المحتوى القضوي وهو مكون من مفردات الجملة مضموناً بعضها إلى بعض.
ب- القوة الإنجازية الحرفية المؤشر لها بصيغة الجملة كالاستفهام والأمر والإخبار. أما المعاني الضمنية فهي صنفان :
* معاني عرفية : وهي المعاني المرتبطة بالجملة ارتباطاً يجعلها لا تتغير بتغير السياقات.
* معاني حوارية أو سياقية : وهي المعاني التي تتولد طبقاً للسياقات أو المقامات التي تنجز فيها الجملة. ومن المعاني المتضمنة عرفاً : المعنى المقتضى أو (الاقتضاء) والمعنى المستلزم منطقياً أو (الاستلزام المنطقي).
أما المعاني المتولدة عن السياق فهي نوعان :
- المعاني الناتجة عن سياق خاص والمعاني البالغة من العموم، لم تعد مرتبطة بسياق خاص وبطبقة معينة من السياقات. يصطلح جرايس على هذين النوعين من المعاني الضمنية «الاستلزامات الحوارية الخاصة» و«الاستلزامات الحوارية المعممة» .
ويمكن تصنيف المعاني المكونة للحمولة الدلالية لجمل اللغات الطبيعية حسب مقترحات جرايس عن طريق الرسم التالي :
ويمكن أن نمثل لهذه الأنماط من المعاني بالجملة التالية :
هـــل تستطيـــــع أن تعطينــــي القلــــم الأزرق.
يشكل الدلالة الصريحة لهذه الجملة محتواها القضوي وقوتها الإنجازية. ينتج المحتوى القضوي عن عملية ضم معاني المكونات «هل»، «تستطيع»، «أن»، «تعطيني»، «القلم»، «الأزرق» بعضها إلى بعض وينتج المعنى الصريح برمته عن ضم المحتوى القضوي إلى القوة الإنجازية الحرفية (الاستفهام) المؤشر لها بالأداة (هل) والتنغيم. وتتألف الحمولة الدلالية لنفس الجملة من المعاني الآتية :
- معنيين عرفيين هما الاقتضاء (اقتضاء وجود قلم أرزق).
- والاستلزام المنطقي (كون القلم ذو لون أرزق).
- ومعنى حواري خاص أو (استلزام حواري خاص) وهو التماس المتكلم من المخاطب أن يعطيه القلم الأزرق .
والمعنى العرفي عند جرايس لا يكتفي بتحديد المعنى المعروف للكلمات وإنما يساعد على معرفة ما قيل أو ضمن فيقدم لذلك مثالاً :
إنــه إنجليــــزي، إنـــــه شــجـــاع.
يرى جرايس أنه من خلال ما أخبر به يقر ضمنيا أن شجاعة هذا الشخص ناتجة عن كونه إنجليزي. وبعد تعريفه للمعنى العرفي ينتقل إلى نوع آخر من الاستلزامات الحوارية التي ترتبط بخطوط عامة للخطاب ويوضحها كالتالي : عندما نتبادل حواراً مع شخص معين فإن هذا التبادل الكلامي سيكون نتيجة المجهود التعاوني المبذول من قبل الطرفين فالرغبة إلى الوصول نتيجة من خلال الحوار ومطابقة التعاون لما هو متطلب يؤدي إلا الاتجاه المرسوم من قبل المتحاورين. وللإقرار بوجود اقتضاء حواري خاص على المخاطب أن يكون على علم بالمعطيات التالية :
- المعنى العرفي للكلمات المستعملة وكذلك تعريف المراجع.
- السياق اللساني والخارج لساني.
- مبدأ التعاون.
- عناصر أخرى لمعارف مسبقة.
أما القسم الثالث من مقالات جرايس فهي مخصصة للأمثلة التي قسمها إلى ثلاث مجموعات حيث عمل على تطبيق معطياته عليها. ويبدو أن هذه الأمثلة التي قدمها جرايس واضحة وبسيطة إلا أن الإنسان قد يخرقها نتيجة مجموعة من العوامل (اجتماعية – نفسية...). يقول جرايس في نفس الصدد «يمكننا بسهولة أن نخرق القاعدة، وهكذا وفي كل الحالات نصبح قابلين لإيقاع الآخرين في الخطأ كما يمكننا أن نرفض المشاركة في اللعبة فلا نأخذ بعين الاعتبار أية قاعدة» .
إن قواعد جرايس تهدف إلى إنتاج نص حوار ومفهوم ودقيق يستجيب لحاجيات المتكلمين والمستمعين.
ويعرض ريك كناتي Récanati مفهوم كاردينيه Gardiner للملفوظ حيث يرى أنه يتجه نحو اتجاه فهو من جهة يمثل حالة الشيء وهو المحتوى القضوي ومن جهة أخرى يعبر عن القصدية L'intention التي يريد المتكلم إيصالها إلى المرسل إليه ويميز بين الرغبة العامة للتواصل والرغبة الخاصة ويقول إن المرسل إليه لا يكتفي بالرغبة العامة للتواصل L'intention générale de communiquer بل يريد أن يعرف بتفصيل كيف تتخصص هذه القصدية والرغبة. والقصدية المخصصة هو ما يسميه سورل بالقوة الإنجازية illocutionnary of force .
إن إجراء أي حوار حسب جرايس يقتضي عدة عناصر : منها وجود متكلمين يملكون لساناً طبيعياً معيناً. فالحوار نشاط اختياري كما أنه وحدة Unité محدودة في الزمان والمكان. وعملية التواصل تتم بواسطة كلمات وعبارات معينة. وهكذا نلاحظ أن جرايس قد أضاف عنصراً آخر ثابتاً هو مبدأ التعاون بعدما كان تفسيره العبارات اللغوية قبله يرتكز على جانبين اثنين :
- معنى العبارات المتلفظ بها من جهة.
- السياق اللساني والخارج لساني من جهة أخرى.
وبالتالي تشكل هذه القواعد التي اقترحها جرايس إحدى الأدوات الهامة في التحليل التداولي وأن الأبحاث الدلالية والبلاغية مستوحاة في بعض جوانبها من طروحات واقتراحات جرايس.
إلا أن هذه القواعد التي اقترحها جرايس كانت محطة جدال ونقاش بين اللسانيين حيث اعتبرها البعض غير مضبوطة ويسودها الغموض والالتباس، ومنهم من اختزل هذه القواعد في بديهية واحدة وهي الملائمة Pertinence في حين حاول آخرون إعادة صياغة هذه القواعد بطريقة أخرى. ومن هؤلاء ولسون Wilson وسبربـر Sperber وصادوك Sadok ويعرف ويلسون وسبـربـر الملاءمة أو الورود «الورود هو علاقة بين قضية متلفظ بها من جهة ومجموعة من القضايا التي يمتلكها المتكلم في ذاكرته من جهة أخرى». إلا أننا لا نجد تعريفاً دقيقاً لمفهوم الملاءمة لا عند جرايس ولا عند التداوليين الذين جاءوا بعده. وقد أكد جرايس غير مرة أن الملفوظ يمكن أن يتضمن افتراضاً واحداً ولكن لائحة مفتوحة من الافتراضات المختلفة، وعليه فإن التضمينات يمكن تعريفها حسب جرايس بأنها افتراض يتحقق عن طريق الملفوظ بدون أن تدل عليه دلالة العبارة المتلفظ بها. وفي تقدير الملفوظ يجب الأخذ بعين الاعتبار الملفوظ نفسه، الملفوظية، ثم المعرفة المشتركة بين المتخاطبين .
وانطلاقاً من مقترحات جرايس يمكن أن نميز بين عدة أنواع من الاستلزامات انطلاقاً من المقدمات التي تدخل في تقرير كل نوع :
- فهناك استلزام يرتكز على الملفوظ.
- وآخر على الملفوظية.
- وثالث يعتمد على المعرفة المشتركة بين المتخاطبين.
إلا أن جرايس لم يأخذ في اعتباره إلا الاستلزام الناتج عن الملفوظية، وتجدر الإشارة إلى أن جرايس يحدد الاستلزام التخاطبي بأنه ينتج عن خرق إحدى هذه القواعد، فالجملة الآتية :
زيــــد لاعـــــب كرة الــقــــدم.
تستلزم حوارياً الجملة التالية : ليس زيد لغوياً، وذلك بالخرق المقصود لقاعدة الورود التي توجب أن يكون الإخبار المطلوب وارداً أي مناسباً للاستخبار.
كما أن الجملة التالية :
إن الطالب لاعب كرة ممتاز. تستلزم حوارياً معنى الجملة :
- ليس الطالب ج مستعداً لمتابعة الجامعة لأنها تخرق قاعدة الورود وتعد جواباً غير وارد بالنسبة للجملة الآتية :
- هل الطالب ج مستعد لمتابعة دراسته الجامعية؟
ويمكن أن نمثل للاستلزام الحواري (بالاستفهام) بصفة عامة الذي يتخذ عدة أوجه في جميع اللغات الطبيعية.
إن ظاهرة الاستلزام الحواري درست بعد جرايس في إطار نظرية الأفعال اللغوية أو الأفعال اللغوية غير المباشرة وسنشير هنا إلى أهم هذه الاقتراحات : اقتراح سورل.
3-2- اقتـــراح ســــــــورل :
عمد اللغويون في تحديد الإنجاز القولي إلى تحليل ما أسموه بـ «الفعل الكلامي» أو «فعل الكلام». والمصطلح يعود إلى بوهلـر 1934 وهو يقصد منه الاقتضاء المواقفي للكلام ثم استهلك استهلاكاً واسعاً في مجالات البحث اللغوي المختلفة (النفسية والاجتماعية والملفوظية). ثم أنه مع ازدهار تحليل الملفوظ تبناه رواد الملفوظية على رأسهم أوستين وسورل فأكسبوه المدلول الملفوظي الذي له حاليا .
ومن بين النماذج المقترحة لوصف ظاهرة الأفعال اللغوية هناك نموذج أوستين وسورل. ونعرض فيما يلي إتباعاً أهم التحليلات للفعل الكلامي وأهم المسائل اللغوية والدلالية المتعلقة به.
يميز أوستين بين صنفين من العبارات اللغوية : الجمل الوصفية Les phrases constatives والجمل الإنجازية Les phrases performatives وتمتاز العبارات الإنجازية بخاصيتين :
- عدم احتمالها للصدق والكذب.
- تزامن النطق بها مع تحقق مدلولها.
ولكي تكون العبارة إنجازية يجب توفر مجموعة من الشروط المعجمية والنحوية وشروط أخرى غير اللغوية (مؤسسة) فإن انتفى شرط من هذه الشروط تفقد الجمل خاصيتها الإنجازية وتنقلب إلى وصفية. وقد لاحظ أوستين بعد تمييزه لما أسموه بالعبارات الوصفية والعبارات الإنجازية أن هذين الصنفين من العبارات يمكن اختزالهما في صنف واحد مستدلاً على هذا الاختزال بأن العبارات الوصفية ليست في الواقع إلا عبارات إنجازية فعلها الإنجازي غير ظاهر سطحاً فمثلاً السماء صافية اليوم وصفية مشتقة من الجملة : - أقول إن السماء صافية.
يؤدي اختزال هاتين العبارتين بهذه الطريقة إلى اعتبار جميع العبارات اللغوية عبارات إنجازية مع الفرق أن ثمة عبارات إنجازية صريحة (فعلها الإنجازي ظاهر) وعبارات إنجازية ضمنية (فعلها الإنجازي غير ظاهر). ويشكل التلفظ بكل عبارة لغوية إنجاز أفعال لغوية ثلاث : فعل (أقول) وفعل (إنجاز) وفعل (تأثير) .
ويشترط أوستين لكي تكون العبارة اللغوية إنجازية أن تتضمن فعلاً من زمرة الأفعال الإنجازية نحو (سأل – وعد – قال...)
- أن يكون فاعل الفعل المتكلم.
- أن يكون زمن الفعل الحاضر (أي زمن المتكلم).
وقد انتهى أوستين في آخر التحليل إلى أن الجمل جميعها إنجازية تتضمن في عمقها فعلاً إنجازياً يتحقق سطحها أو لا يتحقق، فجاوز بذلك ثنائية الوصف / الإنجاز إلى نظرية توحد بين جمل اللغات الطبيعية .
وقد أعاد سورل مقترحات أوستين على أساس التمييز بين أربعة أفعال لغوية :
- فعل التلفظ : Acte d'énonciation.
- الفعل القضوي : Contenu propositionnel.
- الفعل الإنجازي : Acte performative.
- الفعل التأثيري : Acte perlocutionnaire.
وتجدر الإشارة إلى أن سورل يركز على فعلين لغويين : الفعل القضوي والفعل الإنجازي أو القوى الإنجازية حيث تتخلص في نظره دلالة الجملة في محتواها القضوي والقوة الإنجازية التي تواكبها ويمثل لهذا بالصياغة التالية :
- قو (قض) حيث (قو) قوة إيجازية و(قض) فعل قضوي .
وظاهرة الاستلزام التخاطبي درست في إطار نظرية الأفعال على أساس أنها ظاهرة تعدد الأفعال اللغوية بالنسبة للمحتوى القضوي الواحد. ويصنف سورل الجمل من حيث عدد الأفعال اللغوية المواكبة لها صنفين : جمل يواكبها فعل لغوي واحد وجمل يواكبها أكثر من فعل لغوي (فعلان لغويان في أغلب الحالات). وفي حالة مواكبة فعلين لغويين اثنين للجملة الواحدة يميز سورل بين الفعل اللغوي المباشر والفعل اللغوي غير المباشر أو بين الفعل اللغوي الحرفي المدلول عليه بصيغة الجملة ذاتها، والفعل المفاد من المقام. فمثلاً الجملة التي من قبيل :
- لنذهب إلى المسرح هذه الليلة.
- علي أن أهيئ امتحاناً.
هذه الجملة تنجز فعلين لغويين : فعلاً لغوياً مباشراً وهو الإخبار بأن على المتكلم أن يهيئ امتحاناً، وفعل لغوي غير مباشر وهو رفض دعوة المخاطب إياه أن يرافقه إلى المسرح.
يطرح سورل بعد رصد هذه الظاهرة والتمييز بين الفعلين اللغويين المتواردين على نفس المحتوى القضوي إشكال وصف عملية الانتقال التي يتمكن بواسطتها المتلقي للجملة السالفة مثلاً من إدراك الفعل اللغوي غير المباشر. يفترض سورل أن الانتقال من الفعل اللغوي المباشر إلى الفعل اللغوي غير المباشر يتم عبر سلسلة من الاستدلالات المنطقية قياسها المعرفة المشتركة بين المتخاطبين .
وثبت في إطار نظرية الأفعال اللغوية Les actes de langage أن دلالة جمل اللغات الطبيعية تشتمل على محتواها القضوي أو مجموع دلالات مكوناتها مضمونة. وقوتها الإنجازية التي يمكن أن تكون إخباراً أو استفهاماً أو أمراً أو وعداً مثال الجملة التالية : )أ – د) حيث تشتمل دلالتها بالإضافة إلى محتواها القضوي الإنجازية : الإخبار، الاستفهام، الأمر، الوعد.
أ- عشق كثير عزة الإخبار.
ب- هل طبع خالد بحثه الاستفهام.
ج- ناولني كتابي الأمر.
د- أعدك أن أزورك الوعد.
وثبت في إطار نفس النظرية أن القوة الإنجازية لجمل اللغات الطبيعية بالنظر إلى مقامات إنجازيها قوتان : قوة إنجازية حرفية وقوة إنجازية مستلزمة. ويقصد بالقوة الإنجازية الحرفية : القوة الإنجازية المعبر عنها في الجملة بالتنغيم أو بالأداة (أداة استفهام) وبصيغة الفعل أو بفعل من زمرة الأفعال الإنجازية كالأفعال (سأل – قال – وعد). ويقصد بالقوة الإنجازية المستلزمة القوة الإنجازية التي تستلزمها الجملة في طبقات مقامية معينة فالجملة : - هل تساعدني في القبض على المجرم؟
تحمل بالإضافة إلى قوتها الإنجازية (الاستفهام) قوة إنجازية مستلزمة مقامياً وهو الالتماس.
والجدير بالذكر أن النظرية الإنجازية سوف تعرف تطوراً على يد ديكرو حيث سيصبح الحديث عنها هو الحديث عن نظرية لسانية ذات بعد دلالي والجمل الإنجازية في نظر ديكرو صيغ لغوية تتجلى فيها القيمة الإنجازية Valeur performative فكل تعبير لغوي له قيمة عندما يؤدي استعماله إلى حصول فعل إنجازي معين وهذا الفعل هو النتيجة البسيطة لدلالة التعابير اللغوية دلالة طبيعية. لهذا فإن كل وصف دلالي لجملة لغوية ما يجب أن يشير منذ البداية إلى جملة من الأفعال Les actes التي يمكن إنجازها عند الاستعمال .
ولقد تبين أن القوة الإنجازية الحرفية والمستلزمة تحددان كلتاهما الخصائص الدلالية والتركيبية والتنغيمية للجمل، الأمر الذي يحتم أن يمثلا لهما داخل النحو ويتلخص إشكال التمثيل للقوتين الإنجازيتين داخل النحو في التساؤلات التالية :
1- كيف يمثل للقوة الإنجازية الحرفية؟
2- كيف يمثل للقوة الإنجازية المستلزمة؟
3- ما هي العلاقة بين القوة الإنجازية الحرفية والقوة الإنجازية المستلزمة : (علاقة تساو – أم علاقة اشتقاق) وكيف يمثل لهذه العلاقة؟
قدمت عدة اقتراحات لتمثيل القوة الإنجازية داخل النحو في إطار النظريات اللغوية الحديثة الصورية منها أو التداولية. والملاحظ أن النظريات الصورية لم تعن إلا بالقوة الإنجازية الحرفية باعتبار أن القوة الإنجازية المستلزمة ليست ظاهرة نحوية صرفاً. أما في النظريات اللغوية التداولية فقد قيم بمحاولات للتمثيل للقوتين الإنجازيتين الحرفية والمستلزمة معاً داخل النحو، ومن الاقتراحات الأساسية، اقتراح جونك الذي يقترح أن يؤشر للقوة الإنجازية عن طريق مخصص الحمل Prédication opérateur إلا أننا نعتبر هذا الاقتراح غير كاف لأنه لا يمكن من الإجابة عن التساؤلات السابقة. أما القوة الإنجازية المستلزمة فقد قدمت عدة اقتراحات في إطار النحو الوظيفي للتمثيل لهذه القوة .
يلاحظ مما سبق أن سورل يميز بين صنفين من الأفعال : الفعل اللغوي المباشر، والفعل اللغوي غير المباشر. ويقترح انطلاقاً من هذين الصنفين نسقاً من القواعد الاستدلالية لوصف قدرة المخاطب على إدراك واستنتاج الفعل اللغوي غير المباشر المنجز في طبقات مقامية معينة. وبالتالي فإن الاستلزام التخاطبي كما ورد عند جرايس يطابق ما يسمى عند سورل بالفعل اللغوي غير المباشر أو القوة الإنجازية المستلزمة. وقد انتقل مفهوم الفعل اللغوي أو القوة الإنجازية الحرفية والمستلزمة إلى النظريات اللغوية التحويلية التوليدية عن طريق ما يدعى (بالدلالة التوليدية) ونمثل لهذا الاتجاه باقتراح كوردن ولاكوف.
3-3- اقتراح كوردن ولاكوف :
يقوم النموذج المسمى بالدلالة التوليدية على مبدأين أساسيين :
أ- عدم استقلال التركيب بالنسبة للدلالة.
ب- الطبيعة الدلالية مصدر الاشتقاق.
وانطلاقاً من هذين المبدأين يصاغ النحو على الشكل التالي :
يشكل مصدر الاشتقاق الجملة – بنية منطقية دلالية – مصوغة طبقاً (المنطلق المحمولات) وتتضمن محمولاً (فعلياً أو اسمياً أو وصفياً) يربط بين عدد معين من الموضوعات، ويقترح المتوكل الرسم التالي لتوضيح بنية النحو كما يتصور تنظيمه في نموذج الدلالة التوليدية :
من الاقتراحات الأساسية التي قدمت في إطار النموذج (الدلالة التوليدية) لتمثيل الفعل اللغوي المباشر أو القوة الإنجازية داخل النحو اقتراح (روس) 1970 وحسب هذا الاقتراح جميع الجمل الإنجازية سواء تضمنت سطحاً فعلاً إنجازياً أو لا ثم تمثيل (جونك) إلا أن هذه الاقتراحات رغم أهميتها ليست كافية، لأن التمثيل الكافي للقوة الإنجازية هو التمثيل الذي يستجيب للمتطلبات الثلاث :
- التمثيل للقوتين الإنجازيتين الحرفية والمستلزمة.
- التمثيل للعلاقة بين القوتين الإنجازيتين.
- التلاؤم والمبادئ المنهجية للنحو الوظيفي.
ولقد تصدى اللغويون المشتغلون في إطار الدلالة التوليدية للتمثيل لمفهوم الفعل اللغوي غير المباشر أو القوة الإنجازية المستلزمة مقامياً داخل النحو فقدمت في إطار ذلك عدة اقتراحات أبرزها اقتراح كوردن ولاكوف .
يقترح كوردن ولاكوف أن يمثل في مستوى البنية العميقة للقوة الإنجازية الحرفية أما القوة الإنجازية المستلزمة فتنتج عن تطبيق نوع من القواعد التأويلية التي تتخذ من البنية المنطقية دخلاً لها ويطلق كوردن ولاكوف على هذا الضرب من القواعد (مسلمات الحوار)، يتم اشتقاق القوة الإنجازية المستلزمة طبق مبدإ عام صاغه على الشكل التالي :
ط ق (ي) D م ح D ب ك.
حيث ط ق : طبقة مقامية معينة، واعتماد مسلمات الحوار (م ح) تستلزم البنية المنطقية (ب) القضية ك.
ومن القضايا التي تناولها كوردن ولاكوف في إطار التحليل الذي يقترحانه استلزام جملة ما للقوة الإنجازية (الالتماس) ولهذا الصدد يخلصان إلى التعميمين الآتيين :
1- يمكن استلزام «الالتماس» بالسؤال عن أحد شروط صدق المخاطب.
يمكن استلزام «الالتماس» بإثبات أحد شروط صدق المتكلم.
«رغبته أو قدرته على القيام بعمل ما».
ويقترح كوردن ولاكوف صورنة هذين التعميمين على الشكل التالي :
1- قال (أ- ب (أراد ب – ك)) التمس (أ – ك).
2- أ : سأل (أ- ب (أراد ب – ك)) التمس (أ – ك).
ب : سأل (أ – ب (استطاع ب – ك)) التمس (أ – ك).
يقرأ التعميم (1) كما يلي :
«إذا قال (أ) للمخاطب (ب) أنه يريد (ك) حيث (ك) قضية ما، فإنه يمكن أن يستلزم بذلك أن يلتمس من المخاطب أن يفعل (ك)».
ويقرأ التعميم (2- أ) كما يلي :
«إذا سأل المتكلم (أ) المخاطب (ب) هل يريد أن يفعل (ك) فإنه يمكن أن يستلزم بذلك أن يلتمس من المخاطب أن يفعل ك».
أما التعميم (2- ب) فإنه يقرأ كما يلي :
«إذا سأل المتكلم المخاطب (ب) هل يستطيع أن يفعل ك فإنه يمكن أن يستلزم بذلك أن يلتمس من المخاطب أن يفعل ك».
للتمثيل لذلك نورد هذه الجمل :
1- أريد أن تصاحبني إلى المسرح.
2- هل تستطيع أن تصاحبني إلى المسرح.
بمقتضى التعميمين السالفين تستلزم الجملة (1 – 2) جميعها معنى هذه الجملة :
- أطلب منك أن تصاحبني إلى المسرح.
حسب تحليل كوردن ولاكوف ترصد الحمولة الدلالية للجملة (1) على سبيل المثال على الشكل التالي : البنية المنطقية لهذه الجملة هي البنية الممثل لها شجرياً كما يلي :
تعد البنية المُسْـتَلْزِمَة والبنية المستلزَمة، بنية منطقية تشكلان مصدري اشتقاق لجملتين مختلفتين، بتعبير آخر ثمة في حالة الجمل ذات القوة الإنجازية المركبة اشتقاقان اثنان : تشكل مصدر أولهما البنية المستلزَمة ومصدر ثانيهما البنية المنطقية المستلزِمة. ويربط بين هذين الاشتقاقين في نظر كوردن ولاكوف نوع من القواعد أسماها «القواعد عبر الاشتقاقات» .
خـــاتـمــة.
إن الاستلزام الحواري كإجراء دلالي وتداولي، لم يغفل من طرف الدارسين أمثال جرايس، سورل، كوردن ولكوف وذلك نظراً للأهمية التي يكتسيها الاستلزام في مجال الخطاب اللغوي كما استنتجنا أثناء دراسة هذه الظاهرة تداخل المفاهيم التداولية المتعلقة بالاقتضاء والضمين والاستلزام وهذا الخلط ناتج أحياناً عن اختلاف في الترجمة. إن الاستلزام الحواري كما ورد عند جرايس يقابل المعنى المضمر أو المضمن الذي تستلزمه الجملة في طبقات مقامية معينة. ثم إن القواعد التي اقترحها جرايس على الحوار يشوبها الكثير من اللبس كما أنه من الصعب فرض هذه القواعد على الحوار العادي لأن التعبير الإنساني يمتاز بالتلقائية وعدم الخضوع لأي قاعدة لغوية.
قد أعاد سورل تصورات أوستين للفعل اللغوي أو لمفهوم الإنجازية بصفة عامة حيث ميز بين الفعل اللغوي المباشر والفعل الغوي غير المباشر حيث يقابل هذا الأخير الاستلزام التخاطبي عند جرايس.
قد حاول كوردن ولاكوف صورنة القواعد المتعلقة بالبنية المنطقية للجملة إلا أن هذه القواعد لم تدرس الاستلزام في إطاره التخاطبي الذي يأخذ بعين الاعتبار المتكلم والمخاطب والمقام الذي تنجز فيه الجملة.
الـــهـــــــوامـــــــــــــــش
- أحمد المتوكل، اللسانيات الوظيفية، ص : 16.
2- إبراهيم السمرائي، فقه اللغة المقارن، ص : 201.
3- عدنان بن دريد، اللغة والدلالة "آراء ونظريات"، ص : 161.
4- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج 1، ص : 862.
5 - نــفـــس الــمــرجـــع، ص : 290.
6 - رسالة الأستاذ بنعيسى أزاييط، خصائص الاستفهام في اللغة العربية، 87 – 88، ص : 231.
7 - أحمد المتوكل، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، ص : 93 – 94.
8 - مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الدار البيضاء، عدد 5، 1988.
9 - نــفــس الــمــرجــع.
10 - عدنان بن ذريد : اللغة والدلالة، ص : 168.
1 - مجلة آفاق عربية، عدد 3 / 1977، ص : 78.
2 - Paul Grace, Logique et conversation, communication n° 30.
3 - أحمد المتوكل، اللسانيات الوظيفية، ص : 24.
4 - نـــفـــس الــمــرجـــع، ص : 25.
5 - أنظر مقالة جرايس «المنطق والحوار».
6 - Récanaté, Inssinuation et sous entendu, communication 30.
7 - Wilson et Sperber, Remarques sur interprétation des énoncés selon Paul Grice, communication 30.
8 - عدنان بن ذريد، اللغة والدلالة (آراء ونظريات)، ص : 164.
9 - أحمد المتوكل، اللسانيات الوظيفية، ص : 21.
20 - أحمد المتوكل، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، ص : 106.
21 - أحمد المتوكل، اللسانيات الوظيفية، ص : 21.
22 - نــفــس الــمــرجـــع، ص : 26 – 27.
23- رسالة الأستاذ بنعيسى أزاييط، خصائص الاستفهام في اللغة العربية، 87 – 88، ص : 242.
24 - أحمد المتوكل، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، ص : 106 – 107.
25 - أحمد المتوكل، اللسانيات الوظيفية، ص : 93.
26 - نـــفــــس الــمــرجـــع، ص : 97.
27 - نـــفــــس الـــمـــرجـــع، ص : 98 إلى 100.
المصادر والمراجع المعتمدة :
- أحمد المتوكل، اللسانيات الوظيفية، مدخل نظري، منشورات عكاظ، 1989، الرباط.
2- إبراهيم السمرائي، فقه اللغة المقارن، دار الملايين، الطبعة 2، 1978، بيروت، لبنان.
3- عدنان بن دريد، اللغة والدلالة "آراء ونظريات"، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 1981.
4- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج 1، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
5 - رسالة الأستاذ بنعيسى أزاييط، خصائص الاستفهام في اللغة العربية، رسالة مرقونة، كلية الآداب مكناس، 1987- 1988.
6 - أحمد المتوكل، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، دار الثقافة، ط1، 1986الدارالبيضاء.
7 - مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الدار البيضاء، عدد 5، 1988.
8 – مجلة آفاق عربية، عدد 3 / 1977.
9 - Paul Grace, Logique et conversation, communication n° 30.
10 - Récanaté, Inssinuation et sous entendu, communication 30.
1 - Wilson et Sperber, Remarques sur interprétation des énoncés selon Paul Grice, communication 30.
[center]