[quote="فاطمة العربي"] الأستاذة : فاطمة عماريش المسجلة تحت اسم فاطمة العربي.
المركز الجامعي بخميس مليانة .
النّحو الوظيفي بين الجملة و النّص
إنّ المتتبع للفكر اللّساني و تاريخه يدرك أنّه قد سار وفق منحيين مختلفين من حيث المبادئ و الأهداف. منحى / تيار يعتبر اللغة نسقا مجردا يمكن وصفها بمعزل عن وظيفتها التّواصلية / الاستعمالية ، و يتميّز هذا المنحى بعنايته بالشّكل أكثر من عنايته بالمعنى ، بل يعتبر المعنى خارج نطاق اهتمامه , كما يسعى إلى معالجة الجمل المصنوعة أكثر من سعيه إلى معالجة اللغة في تجلياتها الفعلية / اليومية ، من أبرز نظريات هذا المنحى " البنيوية ، والنحو التوليدي التحويلي ، و نحو التعليق أو التبعية ". منحى / تيار وظيفي يقوم على مبدأ رئيس يقول بأداتية اللغة التي تأوي مختلف و وظائفها الممكنة إلى وظيفة أساسية ألا وهي الوظيفة التّواصلية ، إذ تتعالق بنية اللغة و وظيفتها حيث يُحدد بناء الأولى " البنية " على أساس من الثانية " الوظيفة " . و ينبني على هذا المبدأ العام وصف مختلف المستويات اللّغوية " نحوا و صرفا وتركيبا " . وتتخذ اللّسانيات الوظيفة من القدرة التّواصلية - باعتبارها كلا متكاملا يجمع المعرفتين اللّغوية " نحوا و صرفا " و غير اللغوية " تداولية "- موضوعا لدراستها بغية وضع أنموذج لقدرة مستعملي اللغة الطبيعية " ّأنموذج يمثل للملكات اللغوية و غير اللغوية المسهمة في عملية التّواصل إنتاجا و فهما و بما يقوم بينها من علاقات... "1ويتكون هذا الأنموذج من خمسة قوالب تتمثل في : القالب المنطقي ، و القالب الإدراكي ، و القالب المعرفي ، و القالب الاجتماعي ،تتمركز حول القالب الأساس المتمثل في القالب النّحوي حيث ترصد هذه القوالب ملكات القدرة التّواصلية الخمس و تتفاعل فيما بينها باعتبار أن كل قالب يتمتع باستقلال مبادئه إلا انه يشكل دخلا - خرجا لكل القوالب . فالقدرة التّواصلية إذن قدرة واحدة تمكن مستعملي اللّغة الطبيعية من التّواصل فيما بينهم، حيث تتفاعل القوالب المذكورة في عمليتي إنتاج الخطاب و فهمه وفقا لموقف التّخاطب و نمط الخطاب. إنّ تمركز النّحو في قلب القدرة التّواصلية يجعله اْهمم مفعّل لها مما يحدونا إلى طرح السؤالين الآتيين :
ما المقصود من النّحو عند الوظيفيين ؟ هل النحو ههنا هو نحو جملة أم نحو خطاب ؟ لا شك أن النّحو يكتسي دلالة خاصة في سياق النّظريات الوظيفية إنّه: "... ليس مجموعة من القواعد أو القيود الصّارمة التي تطبق على النّص و إنما لا يتضمن مفهوم القاعدة سوى مجموعة من القواعد الاختيارية التي استخلصت من النّص ذاته "2 . إن النّحو ههنا - بتعبير آخر - عبارة عن مجموعة من المقولات القابلة للتغير بحسب طبيعة النّص المدروس إذ تنحصر مهمته حسب فان ديك في : " صياغة قواعد تمكننا من حصر كل النّصوص النّحوية في لغة ما بوضوح ، و من تزويدنا بوصف للأبنية ، و يجب أن يعد مثل ذلك النّحو النّصي إعادة بناء شكلية للكفاءة اللّغوية الخاصة بمستخدم اللّغة في إنتاج عدد لا نهائي من النّصوص " 3.
فنحو النّص إذا هو ضرب من التحليل يمتد بتشخيصه إلى مستوى ما وراء الجملة و الذي يبدأ من علاقات ما بين الجمل ثم الفقرة ثم النص ( الخطاب ) كاملا.
و لقد سعت النظريات الوظيفية منذ تأسيسها إلى ربط اللّسان بوظيفته الأساسية المتمثلة في إتاحة التواصل بين بني البشر – كما سبق و أشرنا – فكان من البديهي جدا أن تتجاوز حدود الجملة إلى خطاب فقد أشار فان ديك في أحد مؤلفاته إلى أن : "النّحو الوظيفي ليس نحو جملة – بالمعنى الذي يأخذه هذا المفهوم في اللّسانيات الصورية – ولا يمكن أن يكون نظرا لتوجه الوظيفي التّداولي إلا نحو خطاب ، إلا نحوا يرمي إلى وصف و تفسير الملفوظ اللغوي بما فيه الخطاب الأكمل أي النّص "4 .
فموضوع الوصف في المقاربة الوظيفية إذن ليس الجملة بل النص باعتباره وحدة متكاملة سواء أكان مفردة أم جملة أم نصا. و لئن تمحورت الأبحاث الأولى لهذه النّظرية حول الجملة فإنها لا يمكن أن تعد إلا عملية تمهيدية لدراسة النّص ككل مُوحّد و يمكن تصنيف الأبحاث التي أنجزت في هذا المنحنى إلى قسمين : " أبحاث تنطلق من مبدإ أنّ للنّص بنية الجملة ، و أّن معالجة قضايا الخطاب تستدعي إواليات غير ما اْستخدم في معالجة قضايا الجملة ، و أبحاث تفترض تماثلا أو على الأقل تقاربا بين بنية الجملة و بنية النّص و أنّ ما يرصد الأولى يمكن أن يكيف فيرصد الثانية " 5 . إنّ هذا التنوع و التناظر بينها مفهمي الصورية و الوظيفية لا يقتصر على الدراسات اللغوية الغربية بل إنا نجد له أصولا في الفكر اللّغوي العربي مماثلة يدفعنا إلى لتساؤل حول: مظاهر الوظيفة في الفكر اللغوي العربي ؟ هل اقتصر المنحنى الوظيفي في الفكر اللّغوي العربي على الجملة كحد أقصى ؟ على افتراض تجاوز الجملة، في المنحنى الوظيفي العربي ما هي مظاهر الدراسة الوظيفية للخطاب ؟ لقد نشأت مختلف علوم العربية حول النّص القرآني بغية فهمه و تفسيره ، حيث أملت وحدة هذا النص ، و تكامله على الباحث اتخاذ أدوات إجرائية بدءا من الصرف مرورا بالنّحو وصولا إلى وصف التّرابط النّصي ، و قد قدم عبد القاهر الجرجاني في هذا السّياق دراسة تتعلق بنحو النص ؟- بالمفهوم المعاصر - و آليات انسجامه بدءا بوجوب انصياعه لقوانين النّحو عند الصياغة ( النّظم ) يقول : " و اعلم أن ليس النّظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النّحو ، و تعمل على قوانينه ، و أصوله ، و تعرف مناهجه التي نهجت ، فلا تزيغ عنها ،.... و ذلك إنا لا نعلم شيئا يبتغيه النّاظم بنظمه، غير أن ينظر في وجوه كل باب و فروقه... "6 و لئن انطلق الجرجاني من معالجة ظواهر تخص نحو الجملة كالتّقديم و التّأخير فقد تعداه إلى النّظر في مسائل تصب في عمق نحو النّص و ذلك إذ يقول : " و ينظر في الجمل التي تسرد فيعرف مواضع الفصل فيها من مواضع الوصل "7 ، يعد هذا القول نقطة فاصلة بين نحو الجملة و نحو النّص إذ يتضح من خلاله ربط المتتالية الجملية التي تشكل نصا متماسكا موحدا . وقد التفت الجرجاني إلى الميزة التي تتفاضل بها النّصوص بعضها عن بعض ، إذ أنها المُظهرة لوعي النّاظم في ترتيب كلامه حسب توالي المعاني في النّفس - من جهة -و تأثيرها في المتلقي من جهة أخرى ، يقول : " و ينظر في التعريف و التنكير ، و التّقديم و التّأخير في الكلام كله ، و في الحذف و التّكرار ، ولإضمار و الإظهار ، فيضع كلامه من ذلك مكانه ،و يستعمله على الصحة و على ما ينبغي له "8 .
غير بعيد عما جاء به الجرجاني نجد البقاعي يشير إلى قضايا نحو النّص على مستوى التّطبيق في تراثنا الفكري العربي حيث ركز في تفسيره على ربط الجمل بعضها ببعض فيقول : " وهذا العلم يقصد به علم المناسبات يكشف أن للإعجاز طريقين أحدهما نظم كل جملة على حيالها بحسب التّركيب و الثاني نظمها مع أختها بالنظر إلى التّرتيب " ، ويضيف قائلا في توضيح الفكرة الثانية : " والذي نبغي في كل آية ، أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها ، أو مستقلة ، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها " 9.
و يشير البقاعي في هذا السياق إلى أنّ الأسلوب هو النسج المخصوص في نظم الآية ، فيقول متبنيا رأي الرازي في سورة البقرة :" ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها ، علم أنّ القرآن ، كما هو معجز بحسب فصاحة ألفاظه، وشرف معانيه ، فهو أيضا بسبب ترتيبه ، ونظم آياته ، ولعل الذين قالوا : معجز بسبب أسلوبه ، أرادوا ذلك "10.
يبدو واضحا مما سبق أنّ ما استقر في أذهان علماء التراث من نحو النّص هو موضوع الفصل و الوصل كتجل فعلي لهذا النّحو، فلا نجد منهم من التفت إلى ربط المتتالية الجملية إلا وأشار إليه.
وأما حديثا فإنا نجد جملة من الباحثين الذين حاولوا الاستفادة من البحوث الغربية بغية تطوير الدرس اللّغوي العربي أمثال وليد منير الذي حاول تقديم فهم خاص للنّص القرآني ، من خلال تقديم فهم جديد لمفهوم النّص ، حيث قدم من خلال هذا المفهوم المفترض ، آليات التّرابط في النّص القرآني وهو يستند في بناء مفهومه هذا على جملة من النّظريات الغربية دون أن يتبنى – بشكل واضح – واحدة منها ، ويبدو أنّ النّص القرآني في عرفه نص كلي واحد فعمد إلى " تفسير منسوخه بناسخه ، وإن تباعدت المسافات بينهما ، ومجمله بمفصله ، وإن اختلف السّياق .....ودخل إلى علم التّأويل والتّصوف ليبدي من النّص ما خفي حينا.... ليصل إلى مصداق مفهومه للنّص المترابط .... " 11
ويعد الدكتور أحمد المتّوكل أحد أشهر اللّسانيين المعاصرين الذين حاولوا بناء نظرية عربية تتخذ من التّراث منطلقا محاولا الاستفادة مما وصلت إليه النّظريات الغربية الحديثة ، ويقر الدكتور في محاولاته إلى إيجاد نقاط التّقارب بين القديم والحديث-فيما يخص نحو الجملة الوظيفي أو نحو النّص - أنا " لا ندري إذا كان للدرس اللّساني الوظيفي الحديث نشأة وتطورا صلة بالتّراث اللّغوي العربي .... بتعبير آخر ، إذا كان لهذا الدرس جذور عربية إلا أنّه من الممكن في جميع الأحوال أن ننظر إلى التراث بحكم مفاهيمه ومنطلقاته و أهدافه على أنّه حقبة هامة من تطور الفكر اللّغوي الإنساني في توجهه الوظيفي "12
و يشير الدكتور إلى أن التراث العربي الفكري مخزون يحصل التعامل معه وفق اتجاهين: " أ- إما أن يكون حاضرا في تحصيل المعارف اللسانية الحديثة، ب- أو أن يرجع إليه على سبيل تأصيل ما اكتسب من هذه المعارف."13
فصلة التّراث اللّغوي العربي بالنسبة للوظيفيين العرب إذن لدى المتّوكل هي صلة مباشرة سواء أكانت أصلا أم نتيجة تأصيل
إنّ السعي إلى تسليط الضوء على الموروث اللّغوي و كذا الحداثي في شقه الوظيفي ينبغي أن تؤطره جملة من القناعات أو المبادئ أبرزها :
- إنّ محاولة إحياء التّراث اللّغوي العربي بغية تطوير الدرس اللّغوي المعاصر لا تكون إلا بمقاييس تنبع من عمق اللّغة العربية ذاتها.
- إنّ للتراث اللغوي العربي سماته و خصائصه التي تجعل الباحث يتفادى الإسقاط الذي قد يغيب حقيقته.
- إنّ قولنا بضرورة تفادي الإسقاط لا يعني تغييب تلك المعايير الكلية التي تنسجم إلى حد ما و حقائق الدرس الغوي العربي.
إنّ عملية تفعيل النحو الوظيفي الحديث في مراحله الأولى تقتضي اتخاذ التراث اللغوي مرجعا عند البرهنة و التحليل و مصدرا ينتهل منه كلما دعت إلى ذلك الضرورة ، فزخم التراث يحتاج منا إلى قراءة واعية تعيد بعثه من جديد و إعادة تصنيفه وفق ما تقتضيه معايير الحداثة .
1 - أحمد المتوكل ، التركيبيات الوظيفية قضايا و مقاربات ، دار الأمان للنشر و التوزيع ، الرباط،ط/1 ، 2005 ، ص49
2 - سعيد حسن البحيري ، علم لغة النص المفاهيم و الاتجاهات ، مكتبة لبنان ناشرون ، ط/1 ، 1998 ، ص 218 .
3 - المرجع نفسه ، ص 135 – 136 .
4 - أحمد المتوكل، الوظيفية بين الكلية و النمطية، دار الأمان للنشر و التوزيع، الرباط، ط/1، 2003، ص 97.
5 - ـــــــــــــ ، قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية ـ بنية الخطاب من الجملة إلى النص ــ دار الأمان الرباط ، ص 15
6 - عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز في علم المعاني ، تحقيق محمد عبده ، دار المعرفة بيروت ، لبنان ط/ 1991 ، ص 70
7 - المرجع نفسه ، الصفحة نفسها .
8 - البقاعي ، نظم الدرر في تناسب الآيات و السور ، خرج أحاديثه و وضع حواشيه عبد الرزاق غالب المهدي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط/ 1995 ، مج 8 ، ص 611 .
9 - المرجع نفسه ، مج 1 ، ص 7 .
10 – المرجع نفسه ص 6 .
11- عمر أبو خرمة ، نحو النص ـ نقد نظرية و بناء أخرى ـ عالم الكتب الحديث ظ/1 ، 2004 ، ص 63 .
12- أحمد المتوكل ، المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي الأصول و الامتداد ، دار الأمان الرباط ، ط/1 ، 2006 ، ص 213 .
13- المرجع نفسه ، الصفحة نفسها .
[
]