وكنت كلما اقتربت من نقر أصابعي فوق الباب يزيد ارتباكي وقلقي. حرصت أن يكون الدق خفيفا وأقل من لسع البرد في ظهري.
قلت: سأحكي كثيرا..
لملمت طرفي السويتر، أقفلت السوستة إلى أعلى قمة في رقبتي.. كدت أفر إليها لحظات كثيرة بعد هربي من كل سنوات عمري الماضي. كي أعود إليكِ حد الأحلام والدهشة والتفاصيل الذكية الصامتة، هروب من حالة الجمر والتوهج في سراديب عتيقة. أترصد اللحظة وأخبو مع تراكم وعيي بالسعادة المطلقة وأجيج الانتظار الذي يأخذ شكل الانتحار أحيانا .
انفتح الباب وزام .
مساء الخير
جاهدة تحاول إخراجي من إعياء الذاكرة، أهرب من تقمصي لحالة الرجل البارد، من قبض الانتظار في صحراء التذكر ملامحي التي تغيرت عن أيام زمان، شعر ذقني الكثيف نابتا دون نظام ، تضم أطراف القميص الحرير، تعصر التشابه الممكن....
أنتقل للخواء وأخفض نظري للأرض،
الأستاذ محمد موجود ؟
التقت عينان باهتتان بطواحين صمت، وهي تمر بعيونها من أطراف شعري المنكوش حتي ساقين ذابلتين، دهر يمر بلا كلمة واحدة سوى سؤال عن الاسم. والتشابه الممكن، أردت لو أحكي لها، أحكي نفس الحكاية عن المظلومين.
وحدي تخطيت عتب الباب ووجهت وجهي ناحيتها وهي تشير باتجاه الصالون، بحذر جلست، شددت قدمين باردتين لطرف الكنبة الفخمة الكبيرة، كان المكان شبه دافئا، كان نظيفا ولامعا، وساعات طويلة أبكي بلا وجع حين يلتبس الحب بالموت في زمني وألهو، أحب كيفما أحب، أظل في تلك المساحة القاهرة الفزعة بين مداعبة الريح والروح التي تهرب مني، تتركني للصمت والنزيف الهادر كموج البحر. أتقهقر للوراء، في نفس ذلك اليوم أرتد بدائيا يعيش في مجاهل الصحراء، أبحث عن ملاذ لراحتي وراحلتي، أرى كل شيء منتبها في ذاكرتي واقفا كالصخر، أرى صورتي وحزني وجسدي الخاوي، تضيع أذني في متاهة ما أرى، تختلط أصوات على ألوان على كلمات في الذاكرة البليدة، استغرقت في إثارة الود القديم متفاديا كل ما أزعجني، فقط كنت سعيدا باسترجاع بعض اللحظات.
حين جاء مرتديا الروب الثقيل وفي فمه السيجار،هممت واقفا سلم علي بطرف يده، رسم فوق فمه ابتسامة باهتة
كان الهواء بالخارج باردا، وأنا أحاول القبض على أصابعه الغليظة.
كنت أنوي أن أحكي كثيرا عنها .... تلك التي ملأتني بدفء وراحت بعد وقت قصير، الوحيدة القادرة على استبقاء قلقي في صدرها، تعهدتني بابتلاع الأرصفة والزحام / التفاصيل والحيرة، أهدتني الصمت وعصافير ملونة ثم مضت ..
- اجلس
ارتخيت ببطىء شديد فوق كنبة حارقة وواسعة، أرغمتني على وضع الابتسامة الخجلى في محاولة لشرح حالتي دون كلام كثير.
- أخبارك ؟
انمحت أداة الاستفهام وبقي السؤال مرعبا، لم تعجبني الصيغة المكررة
تململت من مكاني وعدت معتدلا، زاحفا للإمام، وهيأت نفسي أن أحكي أية حكاية.
وضع ساقا فوق الأخرى ووجهي يميل منحرفا عن الابتسامة التي صنعتها أيامي، حين أعود كليل ملتهب للخواء وفترات القشعريرة، تجرفني الأيام الخاوية فوق بلاط عار، تكتمني رائحته وفساد الهذيان حين عرفت جانبا للمظلومين لا ينمحي وأخر مشع للظالمين لا ينمحي أيضا وراء أبواب من حديد صدأ، صحوت قابضا على شجاعتي وهو يسأل عن أولادي أدهشتني قمة اليقظة، كان فمي مرا ولساني أعورا لا يقوى على النطق، حكاية قديمة أردت أن أقول، كلام قديم يتجادل مع الصمت ويتركني. كان باردا كالشتاء فخما كثور كبير كنت الوحيد الباقي مما مضى، باق دون بيت أو فراش.
قالت : نجلس في الحديقة حتى الصباح أنا وأنت وزهور ساهرة وقصة تكتبها لي وحدي
كنت لا أعي شكل التفاف القلب افترضت الفرح /الحلم الشتاء الجميل وقبض الذاكرة
قالت : نذهب لمكان بعيد جدا، نداعب الشارع والرصيف نركب قطار حتى أسوان ليلة واحدة ثم نعود ونركبه في الرجوع وفي العودة
لماذا نسأل عن أسباب التيقظ .
لأني أحبك ألف عام دفعة واحدة ..
هل تعرف ..
ثم مضت .
صمتت كل هذه المدة الطويلة، الحارات تطن طنين النحلة في الخلية، يظل الكائن الذي يسكنني كعفريت من الجان، أتابع الألوان والضوء والظلال والمطر، الأرصفة والزحام، يمر ما يمر أمام عيني، ساعات طويلة أبكي بلا وجع، تهرب روحي من أحضان جسدي الخاوي وتتركني وحدي دون انتظار، أظل غير متصل وغير منفصل في تيه، لا علاقة لي بكل ما مر من ساعات، استعنت بالغيبوبة لسقوط كل شيء
وقلت سأحكي كثيرا.
دخلت تحمل صينية الشاي،
لم تسألني
ولم أشأ أن أسألها.
تذكرت البرد،الكلاب الضالة والمخبرين، حركت لساني وابتلعت ريقي، صعدت التفاحة الآدمية لأعلي ثم انخفضت بصعوبة كان وجهه بليدا،
كان وجهي ساخنا وجسدي باردا،
نظر إليّ بعينين باردتين وقال : الشاي برد !!
صممت أن أرفض الشاي،
كان يوما خرافيا بلا شمس ولا قمر ولا شجر ولا جدران ولا حزن ولا فرح، غير هروب وشرود وتشرد محصور في الظلال، جسد يتساءل عن حصار الروح وروح تسأل عن حصار الجسد، جسد برونزي، نحاسي كآلة النفخ، كالتيه/ كالصحراء عينان مثبتتان بلا قاع ولا مجري للعيون وأظل شاردا، ساعات طويلة أبكي بلا وجع، أري كل شيء نابتا في الذاكرة.
صممت أن أرفض الشاي.
نسيت الحيرة واللون، المساحة وحبات المطر. تدحرجت من أمامه ومن أمامها،
مشيت في شارع ،
في بيت عتيق،
مرتجفا أفر لحنان غريب.
كان صفير الهواء أكثر شوقا من مساحات صوته المزحوم بالسعال.