" هذا ليس لك " هكذا كان يبدأ صباحه ، بهذه الكلمات من شفتي أمّ بعينين منشغلتين و يدين تسابقان الزّمن و مع هذا ظلّت يده الصغيرة تمتدّ فلا هو" يتأدّب " و لا هي تكلّ ... كان يمدّ يده كلّ صباح إلى مائدة الطّعام منتظرا أن تنسى هي جملتها أو يُسمح له بما ليس له ... و سكنه السّؤال : " متى سيكون له ؟ متى سيكون شيء ما له ؟ متى سيحلّ محلّ هذا الذي لا يقال له كلّ صباح : " هذا ليس لك " ... يغادر البيت فيرى الشّمس له و إبتسامات النّاس له و ضجيج السيارات له و صوت الآذان له و زقزقة العصافير له و همس معلّمته يدغدغ أذنه له ... يحفر في ذهنه الصّغير كلّ هذه و يحشرها حشرا إن لزم الأمر ثمّ يخبّئها في زاوية قصيّة من قلبه الصغير الدّافئ لتقيه برد جملة أمّه كلّ صباح ... و تعوّد أن يكون الكون له إلاّ ما على ر أس الطاولة ... أمّا عند معلّمته فالأمر مختلف ، كان هو الضّيف المبجّل مع ذلك لم يكن يمدّ يده إلاّ ليأخذ قلمه أو قطعة طباشير بها يرسم وجها لطيفا بابتسامة لا تشبه غير معلّمته ... يوم قدّمت له قطعة حلوى ، خانته يده الصّغيرة و لم تمتدّ ... حاول جاهدا أن يلبّي دعوة معلّمته لكنّها لم تمتدّ بل - و نكاية به - امتدّت لتختبئ وراء ظهره ، يال هذه اليد ... تتعلّق عيناه بوجه صار يعشقه و تمتنع يده و هو الذي يرغب أن يمرّرها على وجه هذه الآنسة التي لا تشبه النّساء ، لا تشبه الأمّهات ... سارعت معلّمته بدسّها في جيب ميدعته و قبّلت خدّه فتساءل : "هذه لي ؟ " ابتسمت و مرّرت يدها على شعره فأحسّ أنّه صار ماردا كما في القصص التي يطالعها كلّ مساء إرضاء لها ... لأوّل مرّة يكون شيء ما له ، لأوّل مرّة تزهر شفتاه الطّفلتان بإبتسامة تشبه إبتسامة آنسته ... لأوّل مرّة لا يتوهّم أنّ شيئا ما له لأنّه فعلا له ...
ظلّ زمنا يمدّ يده كلّ صباح و أمّه تكرّر جملتها بكلّ هدوء لتزداد إبتسامته إشراقا و ليسكن وجه معلّمته عينيه و صوتها أذنيه ... اليوم قرّر أن يقول لها شيئا ما ، هو لها وحدها ، مرّت ساعة الدرس بين صوتها و خطواتها و ترقّب الجرس ... أسرع نحوها ، ابتسم خجلا ، انحنت قليلا : " ما بك ؟ " سكنت جيبَ ميدعته حرارةُ ذلك اليوم القريب فمنحته شجاعة البوح : " أحبّك آنستي ... هذه الجملة لك ... " لا يدري لم تسللّت الجملة الأخيرة لكنّه ظنّ أنّها هي ما أسعدها أكثر أو هكذا أيقن و دون خجل كرّرها : " هذه الجملة لك ... " ابتسمت أكثر ، ابتسمت حقيقة ثمّ وشوشت له : " أنا أيضا ... هذه الجملة لك ..."
الآن يمرّر يده على شعره ، يعيد الحركة أكثر من مرّة ثم يبتسم ساخرا و يتساءل : " كم مرّة لم يكن ذاك الشيء لي ؟؟؟ " و أحبّ معلّمته أكثر لأنّها منحته شيئا له ، له وحده أمّا هو فمنح نفسه ما لا تطاله الأيدي و لا الألسن ، منحها عالما لا يعرف سرّه غيره و لا تُفتح أبوابه إلاّ له ... عالم يشبه آنسته و قطعة الحلوى في جيبه ، تلك التي مازال يحتفظ بها و يعود إليها كلّما أحسّ أنّ هذا العالم لايشبهه و أنّ على يده ألاّ تمتدّ لأنّه لا شيء له ... كان يؤمن أنّه لا شيء لهم مع ذلك لم يمنع يدا تمتدّ ، ظنّ نفسه عاجزا ، طفلا ثمّ اكتشف - و قد سكنه ماقال يوما لمعلّمته - أنّه لا يريد أن يمدّ نحو عالم لا يشبهه يدا مازالت تحتفظ بحرارة جيب ميدعته و بقايا قطعة الطبشور و آثار قلم الحبر الأزرق ... دقّ بأنامله على حافّة الكرسي ثمّ أمسك قلما أزرق و رسم إبتسامة يعرفها ثمّ ألحقها ب " هذه لي ... "