لون أزرق و غيمات ، هكذا تتبدّى السّماء لهذا الطّفل الذي لا يكبر أبدا ، لهذا القلب النّابض كقلب عصفور . كان يرى زرقتها و بياضها و إن أظلم الكون بل لعلّها كانت أشدّ زرقة و أنصع بياضا متى حلّ اللّيل ... حينها فقط له أن يحلم ، له أن يمتلك الأشياء ، أن يُدير أصابعه في الهواء كالسّاحرات و دون أن يتمتم يكتسي العالمُ حلّة جديدة و يرتدي هو برنس أمير الأمنيات ... ينتقي من النّجوم ما توهّج و يُشكّل إسما أجمل من الرّسوم المتحرّكة و من المواليد جميعا . كان يعشق الأسماء ثلاثيّة الحروف دون أن يدرك للرّقم " 3 " دلالة ... كم كان ممتعا إنتقاء ثلاثة حروف ، فقط ثلاثة تُعيد تشكيل المعنى ثمّ ينفخ فيها روحَ الحلم فتشدو له و ترقص على إيقاع عينيه و إتّقاد قلب العصفور ... لم يَعْنِ له كلام والده عن " قلب الأسد " شيئا بل لعلّه زاده تقزّزا منه لأنّه لم ير فيه غير مَجمَع دماءِ الغزلان ...
لا يمكنه أن ينسى يوم دعاه إلى مشاهدة رحلة الموت و الحياة بين الأسد و الغزالة . كانت الخطوات تتّسع و الأنفاس تتلاحق ، سكنه قلبُ الغزالة فتمزّق قفصه الصّدريّ حين اجتاحته رغبةُ الأسدِ المحمومةُ و دوّى في أذنيه نَفَسٌ سريع كالنّار ... أغمض عينيه و ودّ ألاّ يسمع والدَه و هو يحدّثه عن قانون الغاب و سباق المكائد ... قلب العصفور يكفيه ، لا حاجة إلى قلب الأسد ... السّماء تكفيه و الأرض ليست إلاّ قبرا و هو لا يحبّ أن يموت ... ماذا لو كان بإمكانه أن يُقنع والده أنّ الحقيقة كامنة في لون السّماء الأزرق و الغيمات و أنّ قلب العصفور أوسع من المساحات ...
كان له عالم اختزله في لونٍ و رقمٍ و حلمٍ ... فاتنة الأسماء ثلاثيّة الحروف و تزداد فتنة إذا ما داخلتها حركة طويلة تمنحها إتّساع السّماء و إيقاع أناشيد الطّفولة و يقين النّصوص المقدّسة ... و تعوّد أن يعشق من النّاس أسماءَهم و أن يبحث عن الجمال الكامن في الحروف تنساب مرتِّلة بعض السّماء و بعض الحلم و كثيرا من الفرح ... هذه أيضا ثلاثيّة دون " سكون " يقطع إنسيابها فيستدعي الموت و تلبّد السّماء و إمكان اللّون الأسود ... يعلم جيّدا ـ منذ أن كان طفلا ـ أنّه يحتاج إلى جهد الأنبياء ليصوغ العالم على إيقاع ثلاثة حروف و ليُثبت أنّ الجمال بعض شكلها و أنّ قلب العصفور أكبر من الأرض و أنّ نبض قلبه أجمل من دقّ الطّبول و هزّ خصور الغانيات ...
نما الجسد و اندكّ العالم من حوله و لم تكبر الأمنيات ... كانت أكبر من الكون ... كانت قلب عصفور و لم يكن الكون قادرا على إحتوائها ، لا أسماء تختزلها دون أن تشوّه المعنى و لا مكان يحويها دون أن يقتل أنفاسها أو حتّى يبطئها و لا زمن يدرك فتنتها غير زمن الأساطير و حكايا الآلهة ... ودّ أن يُسكنها وجهَ أمّه لكنّه خشي أن تئدها التّجاعيد فوجه أمّه ككلّ الأمّهات ينتهي بالإستسلام إلى الجدب في نهاية معركته مع الجمال ... يعلم بقلبِ العصفور الذي يسكنه أنّها سيّدة النّساء لكنّه يعلم أيضا أنّ السيّدة و إن كانت كالمها فَلَهَا قلب أسد ... قلب الأسد لا يرتضي الوقوف في الشّرفات ليعدّ النّجوم و يشكّل من الغيمات أحلاما بلونٍ زهريّ فاتن لا يذبل و لا تجفّ حناياه ... قلب الأسد لا يرتضي أن يدقّ خارج إيقاع سباق الحياة ... قلب الأسد يرى في مخالبه سلاحا يضمن له الإستمرار ... قلب الأسد قُدّر له أن يتبع خطواته فلا يهدأ و لا يجد متّسعا من الوقت ليدرك أنّه حتّى ينال من الغزال عليه أن يطأ العشب الأخضر و أن يُلوّث الهواءَ بنَفَسٍ لاهِث وراء الموت ...
حين ينام قلب الأسد و يرتدي الكونُ السّماءَ و النّجومَ و الغيومَ تستفيق الأرضُ على إيقاع قلب العصفور ، حينها يُدرك هذا الطّفل الذي لا يكبر أبدا أنّ نبضا ما قد سكن ثلاثة حروف أخرى بحركة طويلة تتخلّلها و أنّ سفَرًا يدعوه إليه ليستعيد ملامحه ... .