الفصل الثاني
العناصر التَداوليّة الأساسية في تحليل الرضيّ
أولا- الإشاريات
أ- الإشاريات الشخصية
1-أ الضمائر
1-ب النداء
ب- الإشاريات الزمانية
ج- الإشاريات المكانية
د- إشاريات الخطاب
2- الأفعال الكلاميّة
الفصل الثاني – العناصر التَداوليّة الأساسية في تحليل الرضيّ
سيتناول هذا الفصل الحديث عن العناصر التَداوليّة الآتية:
أولا- الإشاريات
تعد الإشاريات من أهم العناصر اللغوية التي يتحدد معناها في إطار المقام وتتفرع الإشاريات إلى أربعة أنواع، وهي على النحو الآتي:
أ- الإشاريات الشخصية
يقصد البحث بـ "الإشاريات الشخصية" العناصر الإشارية الدالة على الشخص، وهي على النحو الآتي:
أ-1 الضمائر
يقصد بها الضمائر الدالة على الشخص، فالمضمر(1): "ما وضع لمتكلّم، أو مخاطب، أو غائب تقدم ذكره لفظًا، أو معنى، أو حكمًا"، ويرى الرضيّ أن المقصود من وضع المضمرات(2): "رفع الالتباس، فإن (أنا)، و(أنت)، لا يصلحان إلا لمعيَّنين، وكذا ضمير الغائب نصٌ في أن المراد هو المذكور بعينه في نحو: (جاءني زيد وإيّاه ضربت)، وفي المتصل يحصل مع رفع الالتباس الاختصار".
ونعرض في الصفحات الموالية نصوصًا من عند الرضيّ تشف عن الوظيفة التَداوليّة للعنصر الإشاري ههنا وهو الضمير.
-------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب3 /137.
2- السابق، 3/138.
* مسألة استعمال الضمير المنفصل مقام المتصل
لا يجيز الرضيّ (1)التركيب الإشاري "ضرب أنا" لوجود التركيب (ضربت)، فـ (ضربت) = (ضرب أنا) في المعنى، وبما أنهما متساويان في المعنى لجأ الرضيّ إلى الاختصار فوجد أن (ضربت) أخصر لفظًا من (ضرب أنا) . فالاختصار– كما يرى الأوراغي(2) – "اختزال يقع في القول وليس في الكلام، يحصل بإسقاط مكوّن أو أكثر من البنية القولية من غير أن يترتب عنه، بشهادة دليل، سقوط المقابل من البنية الكلاميّة. ويكون المختزل مع وجود الدليل عليه كالثابت في القول الماثل في بنيته".
* الموصول أو موصوفه مخبرا عنه بالمتكلم أو المخاطب
ومنه عند الرضيّ(3): "وإن كان الموصول أو موصوفه مخبرًا عنه بالمتكلم أو المخاطب، لم يجز الحمل على المعنى، فلا يجوز: (الذي ضربتُ أنا)، و (الذي ضربتَ أنت)، إذ لا فائدة إذًا في الإخبار، لأنك إذا قلت: (الذي ضربتُ)، فقد علم المخاطب أن الضارب هو المتكلم، فيبقى الإخبار بأنا لغوًا. وكذا قولك: (الذي قلتَ أنت)، فظهر بهذا أنَّ قوله: (القاتلي أنت أنا) ليس بوجه، والوجه أن يقال: (القاتلُه أنت أنا)".
فلم يجز الرضيّ (الذي ضربتُ أنا)، و(الذي ضربتَ أنت) لعدم تحقق الفائدة في الإخبار، فـ "الإخبار" – في الأصل - معلومة يجهلها المخاطب، وبما أن المخاطب على علم بأن (الضارب هو المتكلم)، رأى الرضيّ أن الإخبار بـ (أنا) و(أنت) لغوٌ وذلك لأن (أنا) و (أنت) هنا ليس توكيدًا للضمير المتصل ليكون مقبولا، وإنما أريد أن يكون خبرًا.
----------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 3/168 .
2- انظر الأوراغي،محمد. الوسائط اللغوية أفول اللّسانيات الكلية.ط1.دار الأمان للنشر والتوزيع:الرباط،2001، ص221.
3- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 3 /265.
ولما كان المسند إليه (المبتدأ) متضمنًا لضمير المتكلم أو المخاطب كان الإخبار بإعادة الضمير المتضمَّن غير مفيد، فكان تداوليًا غير جائز، ومثل هذا يقال في البنية (القاتلي أنت أنا)، فقد تضمن المبتدأ ضمير المتكلم، فكان الإخبار بالصورة الضميرية المساوية إشاريًا للصورة المتصلة بالمبتدأ غير مفيد، وكونه غير مفيد يعني أن البنية من الوجهة التواصلية غير جائزة.
على الجملة يريد الأستراباذي أن يقول بأنّه يشترط في الخبر (خبر المسند إليه أو ما هو في منزلته) أن يقدم معلومة غير المعلومة الوارد ذكرها مع المبتدأ، لتحدث الفائدة. أمّا أنْ أخبر بما يساوي المعلومة المذكورة مع المبتدأ، فذلك يعني أنّني لم أضف إلى ما لدى المخاطب من معلومات شيئًا؛ إذ نفترض أن المسند إليه – في الأصل- معلومة مشتركة بين طرفي الكلام، فكان الأصل أن يأتي الخبر مضيفًا ما هو جديد، فيكون مفيدًا، ومن ثم جائزًا تداوليًا. وكذلك قوله (القاتلي أنت أنا) ليس بوجه، والوجه الصحيح لهذا التركيب هو قوله: (القاتلُه أنت أنا).
* الفصل بين المبتدأ وخبريه
ومنه عند الرضيّ، أي التركيب الإشاري(1): "وقد أجازوا الفصل بين الخبرين إذا كان للمبتدأ خبران معرفان باللام نحو: (هذا الحلو هو الحامض) حتى لا يلتبس الخبر الثاني بنعت الأول. وأنا لا أعرف به شاهدًا قطعيًا. ولا يتقدم الفصل مع الخبر المقدم نحو: (هو القائم زيد) لأمنهم من التباس الخبر بالصّفة، إذ الصفة لا تتقدم على الموصوف".
---------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 3/207
و يستند الرضيّ(1) في جواز الفصل بين المبتدأ وخبريه (هذا الحلو هو الحامض) على قاعدة أمن اللبس، فـ"أمن اللبس" يقوم على مقصد مهم من مقاصد اللغة، هو الإفادة. فتحقيق أمن اللبس(2) أهم ما تحرص عليه اللغة؛ لأن اللغة الملبسة لا تصلح أن تكونَ وسيلة للتفاهم والتخاطب.
فاللبس بأي صورة من صوره محذور لأنه يتنافى مع مقاصد اللغة في التعبير عمّا يختزنه الإنسان من أفكار تعبر عن حاجاته المختلفة. سواء أكان هذا الإنسان مرسلا أم مرسلا إليه.
ويرى رابح بومعزة(3) أن لأمن اللبس في النحو حرية في إدارة الكلام تقديمًا وتأخيرًا، وحذفا، وزيادة. كما أن أمن اللبس يعدّ مطلبا أساسيّا من مطالب الموقف الكلاميّ الحي عند مستعملي اللغة. وأهم هذه الصور التطبيقية (المسوغات). وهي علل تجيز كسر قاعدة الباب العامة من نحو التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والذكر والحذف في الجمل والوحدات الإسنادية الوظيفية المحولة.
* المضمر لا يؤكد به المظهر
و يقول الرضيّ(4): "ويرد عليهم أن المضمر لا يؤكد به المظهر، فلا يقال: (جاءني زيد هو) على أن الضمير لزيد، ونحن نقول: (إن زيدًا هو القائم). ويرد عليهم أيضًا أن اللام الداخلة في خبر إن لا تدخل في تأكيد الاسم، فلا يقال: (إن زيدًا لنفسه كريم)".
ويقول الرضيّ(5): "فلا يقال مثلا، هو الذباب يطير". فالضمير(هو) مبهم ويفترض بالخبر (الذباب يطير) أن يكون مفسرًا للمبهم ويشترط بالإبهام ثم التفسير: تعظيم الأمر، وتفخيم الشأن، وعبارة (الذباب يطير) على العكس من ذلك.
------------------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 3/207.
2- بومعزة، رابح. التحويل في النحو العربيّ مفهومه أنواعه صورة البنية العميقة للصيغ والتراكيب المحولة.ط1.عالم الكتب الحديث:الأردن،2008، ص 57.
3- السابق، ص 57.
4- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 3/210 .
5- السابق 3/212.
و يقول الرضيّ(1): "والقصد بهذا الإبهام ثم التفسير: تعظيم الأمر، وتفخيم الشأن، فعلى هذا، لا بدَّ أن يكون مضمون الجملة المفسِّرة شيئًا عظيمًا يعتنى به، فلا يقال: مثلا، (هو الذباب يطير)".
ولما كان التفسير المقدم بالعبارة (الذباب يطير) مما يعلمه المخاطب وغيره لشيوعه، لم يكن التفسير معظمًا للأمر ولا مفخمًا للشأن؛ وبذا تنتفي الفائدة (التعظيم والتفخيم) فنحكم على التركيب بأنه غير جائز. غير أنه لا بدّ هنا من أن نضيف بأنَّه إذا قيلت مثل هذه العبارة في سياق كان فيه موضوع الحديث تافهًا، وصدرت العبارة من المتكلم فيمكن القول حينذاك بأن المتكلم أراد الاستخفاف بالموضوع ومتناوِله:
(هو الأمير مقبل) ≠ (هو الذباب يطير)
(تعظيم الأمر، وتفخيم الشأن) ≠ ( تحقير الأمر، وتقليل الشأن)
فالأساس الذي اعتمده الرضيّ في تحليله هو وجود سؤال مقدّر، تقول مثلا(2): "هو الأمير مقبلٌ، كأنه سمع ضوضاء وجلبة فاستبهم الأمر، فيسأل: ما الشأن والقصة؟ فقلت: هو الأمير مقبل، أي الشأن هذا".
أ-2 النداء
يعد "النداء" من الإشاريات الشخصية(3)، وهو إشارة إلى المخاطب لتنبيهه أو توجيهه أو استدعائه. فالنداء لا يفهم إلا إذا اتضح المرجع الذي يشير إليه.
---------------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 3/212.
2- السابق، نفس الصفحة.
3- انظر نحلة، محمود. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، دار المعرفة الجامعية،2002م، ص19.
ويرى مبارك تريكي(1) أن الجملة الندائية لها أهمية في العملية التواصلية التبليغية باعتبارها وحدة قاعدية في الخطابين الشفهي والكتابي، وكما تكمن أهمية النداء في كون البنية الخطابية أكثر دورانا على الألسنة والأقلام، لما تتمتع به هذه البنية من قدرة على التعبير عن مختلف الأغراض، والمشاعر الإنسانية.
فالنداء هو الطريقة المثلى بصيغته الظاهرة والمحذوفة، وأشكاله المختلفة، وأساليبه المتنوعة للتعبير، وأخيرًا يرى مبارك تريكي(2) أنّ النداء من أبرز أدوات التخاطب الخاصة بالعملية التواصلية، لأنه يجسد دورة التخاطب.
وينقل الرضيّ قول المصنف؛ إذ يقول(3): "المنادى، وهو المطلوب إقباله بحرف نائب مناب أدعو لفظًا أو تقديرًا".
وبخصوص الجانب الإشاري في مسألة (النداء) نورد قولات للرضيّ ههنا، ومن ذلك:
* مسألة استعمال أسلوب الاستغاثة في النداء العادي الإخباري
يقول الرضيّ(4): "ولا يجوز دخول اللام على المنادى في غير المعاني المذكورة. فلو قلت: (يا لزيد قد كان كذا) وأنت تحدثه لم يجز".
فلم يُجِز الرضيّ (يا لزيد قد كان كذا) لعدم تضمنه معنى من المعاني التي ذكرها من مثل: الاستغاثة، و التعجب، والتهديد. لأن الاستغاثة – مثلا- لا ينتفع معها – على ما يبدو- أن يكون المستغاث في وضع عادي ليكون متلقيًا للإخبار العادي فمعنى (الاستغاثة) يقتضي تداوليًا وصفًا غير عادي، وأنْ يكون الكلام قصيرًا بحيث لا يضيع معه الغرض من النداء.
--------------------------
1- انظر مبارك تريكي، مجلة حوليات التراث العدد 07/2007 " النداء بين النحويين والبلاغيين " ، مستغانم ( الجزائر)،
ص137-138 .
2- السابق، ص138.
3- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 1/345.
4- السابق1/345.
ب- الإشاريات الزمانية
الإشاريات الزمانية(1) كلمات تدل على زمان يحدده السياق بالقياس إلى زمان التكلم فزمان التكلم هو مركز الإشارة الزمانية في الكلام. فإذا لم يُعْرَفْ زمن التكلم التبس الأمر على السامع.
فزمن التكلم هو الذي يحدد المقصود من ساعة معينة فهناك كلمات لا يتضح معناها إلا بالإشارة إلى زمان بعينه بالقياس إلى زمن التكلم أو مركز الإشارة الزمنية.
ويقول الرضيّ(2) : "و( أيّان) للزمان، استفهامًا كمتى الاستفهامية، إلاّ أنّ (متى) أكثر استعمالا. وأيضًا، أيان مختص بالأمور العظام نحو قوله تعالى(3):" أَيّانَ مُرْساها"، و(4): "أَيّانَ يَوْمُ الدِّين" ولا يقال: أيّان نمت. وكسر همزته لغة سليم".
فلم يُجز الرضيّ (أيان نمت) لأن الحدث المسؤول عن زمنه ليس من الأحداث العظيمة ذات الأهمية. وعليه يكون استعمال (أيان) مع مثله مخالفًا لما يراعيه أبناء البيئة اللغوية عند استعمال الألفاظ للتعبير عن المعاني.
---------------------------
1- نحلة، محمود، آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، ص 19-20.
2- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 4 /148.
3- سورة النازعات آية: 42.
4- سورة الذاريات آية:12.
ج- الإشاريات المكانية
هي عناصر إشارية(1) يَعْتَمِدُ استعمالها وتفسيرها على معرفة مكان التكلم أو مكان آخر معروف للمخاطب والسامع، ويكون لتحديد المكان أثره في اختيار العناصر التي تشير إليه قربًا أو بعدًا أو وجهة، فأكثر الإشاريات وضوحا هي كلمات الإشارة نحو (هذا وذاك) للإشارة إلى قريبٍ أو بعيدٍ من مركز الإشارة المكانية وهو المتكلم، وكذلك (هنا وهناك)، وهما من ظروف المكان التي تحمل معنى الإشارة إلى قريبٍ أو بعيدٍ من المتكلم، أو سائر ظروف المكان مثل فوق وتحت أمام وخلف، كلها عناصر يشار بها إلى مكان لا يتحدد إلا بمعرفة موقع المتكلم واتجاهه. وهناك من قال - كما يرى محمود نحلة- بتنقل عناصر الإشارة من المكان إلى ما يسمى بالمسافة العاطفية أي الوجدانية بعدًا أو قربًا.
وقد يكون للتقابل الإشاري(2) أثرٌ حاسمٌ في فهم بعض الأفعال الشائعة الاستعمال مثل "يأتي" و"يذهب". فالفعل "يأتي" يتضمن حركة نحو المتكلم، والفعل "يذهب" يتضمن حركة من المتكلم إلى غيره.
* وعن التَداوليّة المكانية بالمفهوم المعنوي لا الحسي، يقول الرضيّ(3): "فلا تقول يا هذاك، كما لا تقول: يا غلامك، ولا: غلامك قلتَ كذا، فالكاف توجب كون ما وليته غائبًا في التعبير عنه، نحو: (غلامك قال كذا)، وإن لم يمتنع حضوره، إذ ربّما قلت هذا مع حضور غلام المخاطب، فلما أَوْرَدَتِ الكافُ في اسم الإشارة معنى الغيبة، وقد كان كالموضوع للحضور (من حيث كونه موضوعًا للمشار إليه القريب)، صار مع الكاف بين الحضور والغيبة، وهذا هو حال المتوسط، فإذا أردت التنصيص على البعد، جئت بعلامته وهي اللام فقلت: ذلك".
--------------------------
1- نحلة، محمود، آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، ص 21-23.
2- السابق ص 22.
3- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 3/ 228.
فاسم الإشارة (هذا) موضوع للمشار إليه القريب، أي (قرب المخاطب من المتكلم)، ويشار بـ (الكاف) إلى ما هو بعيد عن المتكلم، وباجتماع (هذا) و(الكاف) في قوله"يا هذاك" يتشكل حال المتوسط الذي يجمع بين الحضور والبعد وكأن الشخص قريب وبعيد في نفس الوقت.
د- إشاريات الخطاب
يذكر محمود نحلة(1) أنّ من الإشاريات التي تعد من خواص الخطاب العبارات التي تذكر في النص مشيرة إلى موقف خاص بالمتكلم فعندما يتحير في أمر معين فإنه يقول: (ومهما يكن من أمر)، وعندما يستدرك على كلام سابق أو يضرب عنه يستخدم (لكن) و(بل)، وإذا أراد الإضافة إلى ما قاله سابقًا يقول (فضلا عن ذلك)، وقد يعمد إلى تضعيف رأي فيذكر صيغة التمريض "قيل"، وفي حال ترتيب أمر على أمر يقول: (مِن ثَمّ).
* الجمع بين (من) الاستغراقية و(بل) الاستدراكية
يقول الرضيّ(2) : "ويجوز العدول عنه للقرينة، نحو: ما جاءني رجل بل رجلان، وما جاءني مِنْ رجل نصٌّ في الاستغراق فلا يجوز: ما جاءني من رجل بل رجلان".
لم يُجِز الرضيّ (ما جاءني من رجل بل رجلان) لأن الإضراب يكون بإلغاء ما قبل بل وإثبات ما بعدها، وهذا أمر بديهي يعرفه المخاطب وكون هدف المتكلم إفهام المخاطب؛ لذا لا يتكلم المتكلم بما يتعارض مع مدركات السامع.
----------------------
1- انظر نحلة، محمود. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، ص 24-25 .
2- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 1/291.
2- الأفعال الكلاميّة
يعد الفعل الكلامي أحد المفاهيم الأساسية في اللّسانيات التَداوليّة(1) والمقصود به "الوحدة الصغرى" التي بفضلها تحقق اللغة فعلا بعينه (أمر، طلب، تصريح..) غايته تغيير حال المتخاطبين. فالفعل الكلامي فحواه أنّه(2): كلُّ ملفوظٍ ينهض على نظام شكلي دلالي إنجازي تأثيري، ويعدّ نشاطًا نحويًا يتوسل أفعالا قولية لتحقيق أغراض إنجازية (كالطلب، والأمر، والوعد والوعيد...)، وغايات تأثيرية تخصّ ردود فعل المتلقي (كالرفض والقبول).
ومن ثمّ فهو فعل(3) يطمح إلى أن يكون فعلا تأثيريًا، أي يطمح إلى أن يكون ذا تأثير في المخاطب، اجتماعيًا أو مؤسساتيًا، ومن ثم إنجاز شيء ما.
فإن منطلق تحليلات الفعل الكلامي(4) هو فكرة أنّ شخصا ما -عند الكلام- يعبر لغويًا وليس من خلال الحركات، ويقول شيئًا، وعادة يتحدث إلى شخصٍ ما هو شريك الحديث. وبالفعل الكلامي يتأثر بالموقف التواصلي ويؤثر في شريك الاتصال. ويتحقق الفعل الكلامي عندما يدرك السامع مراد المتكلم ويستجيب لمراده. و قد تأسست نظرية الأفعال الكلاميّة على مبدأ أساسي هو(5) أنّ الكلام فعل إنجازي، ولكن هذا الإنجاز لا يقتصر على ظاهر القول وإنما يتعداه إلى مجال أوسع من عملية القول ذاتها. وقد رأى مؤسس هذه النظرية (أوستن) أن للملفوظ أفعالا تنجز لحظة عملية التلفظ، فقسم الأفعال إلى أنواع ثلاثة: "الأعمال القولية"، و"الأعمال المقصودة بالقول"، و"الأعمال التأثيرية بالقول".
------------------------------------
1- مانغونو، دومنيك. المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب.ط1.ترجمة محمد يحياتن، الدار العربيّة للعلوم،2008، ص 7.
2- صحراوي، مسعود.التَداوليّة عند العلماء العرب، ص 40.
3- السابق، نفس الصفحة.
4-بونتج،ديتر كارل. المدخل إلى علم اللغة.ط1.ترجمة سعيد حسن بحيري. مؤسسة المختار،2003، ص295،ص298.
5- الميساوي، خليفة."خطاب الفرد- خطاب الطبقة". أعمال ندوة قضايا المتكلم في اللغة والخطاب. جامعة القيروان، دار المعرفة: تونس،2006، ص ص66.
ويرى (أوستن) -كما ذكر محمود نحلة(1)- أن الفعل الكلامي مركب من ثلاثة أفعال تؤدى في الوقت نفسه الذي ينطق فيه الفعل الكلامي، فهي جوانب مختلفة لفعل كلامي واحد لا يفصل بينها إلا لأغراض الدراسة، وهي:
أ- الفعل اللفظي: ويتكون من النطق بأصوات لغوية ينتظمها تركيب نحوي صحيح ينتج عنه معنى محدد هو المعنى الحرفي أو الأصلي المفهوم من التركيب، وله مرجع يحيل إليه.
ب- الفعل الغرضيّ أو الإنجازي: ويقصد به ما يؤديه الفعل اللفظي من وظيفة في الاستعمال كالوعد، والتحذير، والأمر ...
ج- الفعل التأثيري: ويقصد به الأثر الذي يحدثه الفعل الإنجازي في السامع أو المخاطب تأثيرًا جسديًا كان أو فكريًا أو شعوريًا.
فقد اهتم (أوستن)(2) بالفعل الإنجازي أكثر من الفعل اللفظي الذي لا ينعقد الكلام إلا به، وأكثر من الفعل التأثيري الذي لا يلازم الأفعال جميعها، ومنها ما لا تأثير له في السامع أو المخاطب. فقد عمد ( أوستن)(3) في كثير من الأحيان إلى تسمية نظريته بنظرية (الفعل الإنجازي) أو (النظرية الإنجازية) على أن الفعل الإنجازي يرتبط عنده ارتباطًا وثيقًا بمقصد المتكلم، وعلى السامع أن يبذل الجهد الكافي للوصول إليه، ولهذا يقوم مفهوم قصد المتكلم الذي يعبر عنه بالإنجاز بدور مركزي في نظرية الفعل الكلامي.
____________________
1- نحلة، محمود. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، ص67-68.
2- السابق، ص 69
3- السابق، نفس الصفحة.
و لقد أدرك علماء النحو العربيّ والبلاغة العربيّة(1) منذ عدة قرون شيئًا من نظرية (الحدث الكلامي) المنسوبة إلى (أوستن) حين قسموا الجملة إلى (جملة خبرية)، و(جملة إنشائية).
و قد ربط خالد ميلاد (الخبر) و(الإنشاء) بمقاصد المتكلم في قوله(2): "إن في ربط الإنشاء والإخبار بمقاصد المتكلم إشارة إلى مسائل ذات أهمية، منها ما يتصل بعلاقة اللفظ بالمعنى الخبري أو بالمعنى الإنشائي، فمن الألفاظ ما وضعت للخبر وقصد باستخدامها الإنشاء. ومنها ما يتصل باللفظ وما ينجزه المتكلم من أعمال بحسب السياقات المقامية والأعراف الاجتماعية والمواضعات اللغوية ".
* الجملة الخبرية
يقول الرضيّ في سياق حديثه عن وصف النكرة بالجملة(3): "وإنما وجب في الجملة التي هي صفة أو صلة كونها خبرية، لأنك إنما تجيء بالصفة والصلة، لتعرِّف المخاطب بالموصوف والموصول المبهمين بما كان المخاطب يعرفه قبل ذكرك الموصوف والموصول من اتصافهما بمضمون الصفة والصلة، فلا يجوز أن تكون الصفة والصلة جملتين متضمنتين للحكم المعلوم عند المخاطب حصوله قبل ذكر تلك الجملة، وهذه هي الجملة الخبرية، لأن غير الخبرية إمّا إنشائية نحو: بعتـ وطلّقت، وأنت حر، ونحوها أو طلبية كالأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض، ولا يعرف المخاطب حصول مضمونهما".
------------------------
1- شاهر، الحسن. علم الدلالة السمانتيكية والبراجماتية في اللغة العربيّة، ص 182.
2- ميلاد، خالد. الإنشاء في العربيّة، ص 237.
3- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 3/26.
* الجملة الإنشائية
يقول الرضيّ في سياق حديثه عن أفعال المدح والذم(1): "قوله: "ما وُضِع لإنشاء مدح أو ذمّ"، هذا، كما تقدم في باب الكنايات، في بيان أن "كم" الخبرية مُتضمّن للإنشاء، وذلك أنك إذا قلت: (نِعم الرجل زيد)، فإنما تنشئ المدح وتُحْدثه بهذا اللفظ، وليس المدح موجودا في الخارج في أحد الأزمنة مقصودًا مطابقة هذا الكلام إيّاه، حتى يكون خبرًا، بلى، تقصد بهذا الكلام مدحه على جودته الحاصلة خارجًا؛ ولو كان إخبارًا صرفًا عن جَودته خارجًا لدخله التصديق والتكذيب، فقول الأعرابي لمن بَشَّره بمولودة، وقال،نعم المولودة: "والله ما هي بنعم الولد" ليس تكذيبا له في المدح إذ لا يمكن تكذيبه فيه، بل هو إخبار بأن الجودة التي حكمت بحصولها في الخارج ليست بحاصلة، فهو إنشاء جزؤه الخبر، وكذا الإنشاء التعجبي، والإنشاء الذي في "كم" الخبرية، وفي "رُبَّ".
------------------------
1- شرح الرضيّ على كافية ابن الحاجب 5/253.