الكتاب: فصول في الدّلالة ما بين المعجم والنّجو
الكاتب: الأزهر الزّنّاد (جامعة منّوبة، تونس)
التّاريخ:2010
النّاشر: محمد علي الحاميّ (تونس)، الدار العربية للعلوم ناشرون (لبنان)، دار الاختلاف (الجزائر)
مقـدّمــة
لا يخلو البحث في كلّ مجال من أن يسعى صراحة أو ضمنا إلى عدد من الأمور يهمّ بعضها الأدوات العلميّة المعرفيّة وبعضها المعطيات بما تتضمّن من ظواهر ونماذج ويهمّ بعضها التّفاعلَ ما بين النّظريّة والمعطيات، فقد تثبت النّظريّة وتستقرّ بثبات معطياتها واستقرارها وإن تطوّرت فإنّما يكون ذلك التّطوّر خطّيّا تتراكم فيه الحقائق وتُستنفد فيه الظّاهرة إلى أقاصيها، فتثبت نظريّة وتنتفي أخرى وهذا ما يحدث في العلوم الفيزيائيّة أساسا.
وقد تظلّ النّظريّة متطوّرة متبدّلة تبدّل الظّواهر المدروسة وتطوّرها وإذا ما استقرّ بعض منها استقرّ له بعض النّظريّة. وفي هذا تكون علوم الإنسان بما يكتنفها من مظاهر لغويّة ونفسيّة واجتماعيّة ثقافيّة أو ظواهر تاريخيّة وسياسيّة اقتصاديّة، وفيها يصحّ دائما جدّة الجواب لقدامة السّؤال.
وما بين الخطّين نهج في البحث يتخالط فيه الفيزيائيّ بالإنسانيّ، أو المادّيّ بالرّمزيّ اجتمع في أيّامنا – وإن كان قديم البدايات- في العلوم العرفنيّة. ومنها كون الدّماغ منتجا للفكر بما ينصهر فيه من معالم فيزيائيّة ترصَد وتُحلّل إلى أدقّ تفاصيلها وتضبط خارطتها وتقاس أنشطتها في العلوم العصبيّة، ومن معالم ذهنيّة تفلت من جميع ذلك، فالأولى دليل عليها وهذه ناتجة عنها ملازمة لها ولكنّ ما بينهما من الرّبط قياسا وتحليلا يظلّ غاية تطلب فلا تدرك – اليومَ- ولكنّها ستدرَك في يوم من الأيّام.
في هذا الإطار تتنزّل فصول هذا الكتاب وما سايرها من سائر الفصول من صاحبه في سائر مؤلّفاته، فمن الأسئلة القديمة ما اجتمع في ظاهرة الاشتراك الدّلاليّ من حيث أسبابه ودرجاته ووسائل رفعه في جميع مظاهرها الدّلاليّة والبنيويّة الشّكليّة من معارف عامّة وأخرى سياقيّة وأخرى لهجيّة، ومن أجوبتها الجديدة أنّ الاشتراك حادث بانتشار عدد من السّمات الدّلاليّة الدّنيا سدى ما بين المفاهيم تجتمع مقترنة بدالّ واحد، وهذا الانتشار على مراتب يكون في أوّلها انتشار مركزيّ أحاديّ يتلوه التحاق لعناصر حقل دلاليّ كامل على درجات ثمّ يزداد الانتشار اتّساعا فتترابط دلالات بعيدة بدلالات الواحد منها ترابطا مباشرا لا عودة فيه إلى المركز بالضّرورة. ذاك المبحث الأساسيّ في الفصل الأوّل المتعلّق بمراتب الاتّساع في الدّلالة المعجميّة (المشترك في العربيّّّّّّّّة مادّة "عين" نموذجا). ففيه أثبتنا قدرة التّحليل السّماتيّ على تفسير ظاهرة الاشتراك شريطة أن يتخلّص من الشّروط الضّروريّة والكافية. فانتشار المعنى معبره السّمات آليّةً ذهنيّة مفهوميّة لا آليّةً منطقيّة ميكانيكيّة بشكل يكون له الاشتراك بمجرّد أن تتوفّر السّمات.
وهذا المبحث نفسه مثّل جزءا من المشغل الأساسيّ في الفصل الثّالث حيث يكون للاشتراك في اللّغة العربيّة مدخل نظاميّ اشتقاقيّ يهمّ تولّد الجذور وفق آليّة الثّابت والمتغيّر وهي مؤدّية حتما إلى التّقاطع بين جداول الجذور فالاشتراك بالاستتباع. وفي المبحثين مناقشة لما انتشر اليوم في الدّراسات الدّلاليّة العرفنيّة قوامه أنّ الدّلالة موسوعيّة في أساسها وأن لا دور للسّمات في ذلك، فبيّنّا أنّ الواقع خلاف ذلك باعتماد نموذج محلّ اشتراك في أغلب لغات العالم هو "عين".
ومن الأسئلة القديمة كيف يكون التّعبير عن الكمّيّة وقد غلبت على جميع الدّراسات النّزعة الرّياضيّة المنطقيّة بعد أن استأثرت بالتّسوير فروع المنطق بنوعيه القديم والحديث. وكانت الدّراسات اللّغويّة في ذلك أسيرة لها تعيد ما قرّرت.
ومن أجوبتها الجديدة في الفصل الثّاني من هذا الكتاب أنّ الكمّيّة اللّغويّة تمثّل مظهرا لمقولة طبيعيّة ملازمة للوجود البشريّ ناشئة عنده نشوءا طبيعيّا قبل أن تستوي مبحثا صناعيّا رياضيّا. ولذلك وجب أن يكون المدخل إليها طبيعيّا أي لغويّا. فكان أن ألفيناها موزّعة ناسجة بين النّظم اللّغويّة جميعها اختصرناها في إشارة إلى توزّعها ما بين المعجم والنّحو بما يضمّ من الاشتقاق والتّصريف والأدوات جارية للرّبط وفي المحلاّت النّحويّة الإعرابيّة وما إلى ذلك من ظروف التّداول والمقام.
ومن الأسئلة القديمة ما به يكون التّضعيف (تكرار الحروف في الكلمة أو الجزء منها فيها) جاريا في معزل عن قوانين اللّغة فمثّل لذلك ظاهرة شكليّة قائمة برأسها لها قواعدها المخصوصة هي نوع من الجزيرة الغريبة المقطوعة في محيط له من القواعد نوع آخر. وقد تبيّن قصور هذا التّوجّه في القديم وفي الحديث بوجه تضمّنه ما أطلقنا عليه المنوال الاحتماليّ في انتظام الجذور في الفصل الثّالث من هذا الكتاب، وفيه يكون التّضعيف جزءا طبيعيّا من اشتغال المنظومة اللّغويّة محكوما بنفس القواعد تولِّده توليدها لما عداه من الجذور غير المضاعفة بل له ما لها من الانتظام دلالة وعملا واشتراكا وتصنيفا.
ومن الأسئلة القديمة ما طرح في نشأة اللّغة بين التّوقيف والاصطلاح قديما، وبين النّشوئيّة والتّطوّريّة التّأقلميّة في عصور قريبة. وهو أمر يصعب البتّ فيه في المطلق ما لم يكن له في المعطيات أساس ثابت وجدناه في انتظام الأصول الأحاديّة في العربيّة على أساس الأحياز يختصّ الواحد منها بدلالة جامعة هي مقولة نحويّة فكريّة مطلقة.
فتبيّنّا في الفصل الرّابع ما به كان الجمع (ربطا وعطفا واستئنافا) منتظما في إطار هذا القانون العامّ حيث اختصّ به الحيّز الشّفويّ عامّة وتقاسمت أبعاضَه الحروف الحادثة فيه كلاّ بمقطعه من المقولة العامّة. كما تبيّنّا ما به يكون الاسترسال في جميع ذلك في الحيّز الواحد ما بين الأصول وفي فضاء النّطق ما بين الأحياز.
والجواب الجديد الّذي نقترحه لذاك السّؤال القديم أنّ اللّغة منطلقها موضعيّ نطقيّ عصبيّ عضليّ يجري توطين المقولات وانتشارها في استرسال يعمّ تلك المظاهر جميعها، وهو ما أسميناه بالاسترسال الصّوتيّ- الدّلاليّ.
ومن الأسئلة القديمة وإن تشكّلت معالمها حديثا ما يكون من القيم المظهريّة جارية في اللّغات. وقد غلب على هذا المنزع الوجهةُ التّصنيفيّة تارة والوجهةُ التّقنيّة الشّكليّة في مظهر هندسيّ ظاهر طورا آخر. وهي ما لم نناقشه في الفصل الأخير من هذا الكتاب إذ يكون مشغلنا فيه تأسيس لتناول جديد قد يوفّر جوابا جديدا قوامه أنّ المظهر اللّغويّ واحدة من أدوات التّصوير الذّهنيّ تنهض به اللّغة كما تنهض به ملكات عرفنيّة أخرى أساسها إدراكيّ ذاكريّ عصبيّ ذهنيّ. ينضاف إلى ذلك ما تبيّنّاه من توزّع القيم المظهريّة خارج الأبنية التّصريفيّة في مواطن خافية – نعتقد أنّ الدّراسات غفلت عنها رغم جلائها وبروزها- في ما نطلق عليه معاني الزّيادة ولذلك كان العود بها إلى موقعها المناسب – في ما نرى- وهو منظومة القيم المظهريّة.
كما أسّسنا للمظهر أداة من أدوات المسح الذّهنيّ تصوَّر به الأحداث ذهنيّا ولكن بواسطة اللّغة، أو لغويّا ولكن بمظهر ذهنيّ واحد يحكم جميع عمليّات المسح، ومتى خرجت اللّغة عن الذّهن أو أفلت هو منها؟
وممّا كان له تأسيس في هذا الفصل الأخير من الكتاب انسباك جميع المقولات اللّغويّة النّحويّة في خطاطات عرفنيّة، ومنها الخطاطات المظهريّة، وذلك خلافا لما يظهر من اقتصار الخطاطة على ميادين من قبيل العمليّات أو الاستعارات أو المجازات، على الأقلّ في ما يدور من أفكار في حدود ما نعرف من اللّقاءات والمحادثات والكتابات العربيّة خاصّة، أو في مختلف الدّراسات الغربيّة الواقعة في تخوم التّيّار العرفنيّ.
وجميع هذه الفصول ذو منزع عرفنيّ ظهر أو بطن، تطرح فيه قضايا معهودة قديمة وتقترح في شأنها نتائج جديدة بفضل تناول آخر. فلتكن مرجعا للمبتدئ يبني عليها، ولتكن قادحا للمتمرّس يعيد النّظر في ثوابته، ولتكن لهذا وذاك دافعا إلى البحث والتّفكير وإلى طرح القديم سبيلا إلى الجواب الجديد، ولعلّ أفضل موقف في جميع ذلك أن لا نطرح القديم طرحا جديدا خشية السّقوط في التّعليب أو في إعادة التّعليب. لأنّك إن فعلت هذا قتلت ذاك.
المؤلّف
تونس، ماي 2009