حين نعاين النصوص الأدبية ، نبحث فيها عن مناطق التأثير ، والغرابة ،
والجدة ، والخروج عن المألوف ، والانحراف ، وكسر التوقّع ، باختصار
الخروجات ، والتشويشات الجمالية التي تخالف التركيب الطبيعي والمألوف
للمستعمل من الكلام ؛ الذي يؤدي أغراضا وينفذ طلبات .
عندما قال أبو تمام : لا تسقني ماء الملام ...كان أمامه خياران مألوفان :
الأول هو ماء البكاء ، والثاني هو : الدموع ، لكنه عدل عنهما إلى طريق
ثالثة بينهما : ماء الملام .
ربما لا يخطر على البال أن العبادات التي نمارسها يوميا تقوم على هذا
المبدأ الإبداعي ، هناك أعمال قد نجد فيها التكرير والتشابه من الناحية
الظاهرية ، فلو دققنا النظر لرأينا أنها وهي تقوم على وحدات قارة ومتشابهة ،
تقوم أيضا على اختلاف ، كماء النهر لا يمكن ـ كما يقال ـ أن نغتسل فيه
مرتين . رغم ذلك ثمة أعمال خارجة عن الإلف والعادة ، خارقة للمعروف ،
تتجاوز التكرير ، وتقفز بصاحبها من الشقاء إلى السعادة .ثمة مثالان يمكن أن
نوضح بهما هذه الفكرة : الأول تلك المرأة المجروحة العِرْض ، حين شربت من
بئر ، فرأت كلبا يلهث من شدة العطش ، كان أمامها في هذه اللحظة خياران
سهلان ، الأول : أن تتركه وتمضي في سبيلها ، والثاني أن تؤذيه وتسيء إليه ،
لكنها اختارت طريقا ثالثة أصعب وأمتع ، وهي أن تعود للبئر ، وتملأ خفها
بالماء وتسقيه ، فكانت النتيجة أن غفر الله لها بهذا العمل الإبداعي .
والمثال الثاني عكس الأول يرتبط بامرأة أيضا ، ولكن شريرة ؛ حبست هرة وجلست
تتلذذ بتعذيبها حتى ماتت ، وكان لديها خياران أيضا : أن تطعمها ، أو أن
تتركها تأكل من خشاش الأرض ، فاختارت طريقا ثالثة ولكن في الشر ، استحقت
بها دخول النار .
اللوم والبكاء ، السُّقيا والظمأ ، الحبس والعطاء ، علاقات ضدية تكمن حركة
الشعرية في المفارقة القوية بينهما . هذا المبدأ في الوصول إلى : الشعرية ،
الجنة ، النار ، موجود في القرآن الكريم نقرأه كل يوم من غير أن نتنبّه
إليه : لم يكن ليُفتدى إسماعيل لولا أن إبراهيم أراد فعلا ذبح ابنه ! كانت
أم موسى تبحث لابنها عن الأمان فلم تجده إلا في رميه في البحر ! كما لم يجد
إبراهيم البرد والسلام ، إلا في أتون النار ! التضحية والفداء ، الخوف
والأمان ،النار والبرد ، الحياة والموت . وربما لا يوجد أقصر طريق للحياة
الأبدية غير طريق الموت ـ الشهادة وكان أبو تمام قد مزج هاتين الشعريتين في
قوله :
تردَّى ثياب الموت حمرا فما دجى لها الليل إلا وهي من سندس خضر
والموت الذي نراه هنا هو موت مشترك بين إنسان الكلمة وإنسان الفعل في
الواقع ، يجعل الإنسان في النهاية لا قيمة له عند لحظة الإبداع ، هذه
اللحظة التي تشترط في النفس أن تذوق الموت لكي تحيا الكلمة والفعل ، هذه
اللحظة التي نتحرر فيها حين يموت الشاعر والإنسان معا لكي يحيا الإبداع ،
هذا هو القانون جلي للعيان ، ولكن أين العاملون ، أين الشعراء ؟ !