المعاني الواردة في لسان
العرب للجذر ( شعر ) تدل على الشعور ، والعلم ،والدراية ، غير أن التعمق في
الأمثلة والتفصيلات ، يدل على أن هناك جانبين أساسيين لهذه العملية :
الأول باطني يخص القلب ، والفؤاد ، وهو ما يمثله الفعل شعر والثاني ظاهري
يخص الحس ، والجسد ، وهو ما يمثله الفعل علم . فالرجل يستشعر خشية الله ؛
أي يجعلها شعارا لقلبه وتنطق بها جوارحه ، كما يستشعر الحب ، والكره ،
والخير ، والشر والعواطف كلها ، ونقول أشعر الهم قلبي ، أي لزق به كلزوق
الشعار من الثياب بالجسد ، والشعار هو الثوب الذي يلي جسد الإنسان مباشرة
ويقابله الدثار ، والرسول يقول عن الأنصار : أنتم الشعار والناس الدثار .هذه
الثنائية التي نراها في كلمة شعر ولوازمها : الشعر / والعلم ، القلب /
والجسد ، الشعار / والدثار ، الداخلي / والخارجي ... تبدو غير منفصلة عن
أزواجها في تكوّن وحدات وعلامات الشعر : الشعر ، المعرفة ، اللباس ...لذلك
كان اتحادها ممثلا في العلامة : ( الشعار ) الذي يقول عنه اللسان : "
فالشعار العلامة في الحرب ، وشعار القوم علامتهم في السفر "لدينا
إذن معرفة شعرية هي وحدة جانبين أساسيين : داخلي وخارجي ، قلبي وجسدي ،
غائب وحاضر ، حدسي وحسي ،غير أن الجانب الأول في هذه المعرفة تكون له
الهيمنة فيما يبدو ، فالشعور ، والظن ، والتخمين ، والحدس ، وكل المعاني
التي تنافي التقرير ، والحسم ، واليقين ، والحقيقة ، هي الفاعلة هنا
والمحددة للشعر .هذا التركيب الثنائي يبدو أصغر وحدة بنائية يمكن أن
تبدأ منها شعرية ما على مستويات معرفية جمالية متعددة : الكلام ، والناس ،
والكون ، يمكن أن نرى أمثلة متعددة عليها :ففي مستوى الكلمات :
يمكن أن نأخذ مثالا بسيطا : ( لهيب النار ) هذا التركيب مكون من كلمتين
تنتميان للعلم والحس أكثر من الشعر والقلب ، ولكي يكون التركيب ذاهبا نحو
الشعرية يمكن استبدال كلمة : ( النار ) بكلمات مثل الحب ، الكره ، الخير ،
الشر ... وثمة صور تركيبية لسانية مختلفة لا شك لهذه النواة الشعرية في
قوانين اللغة مثل : لهيب الحب ، الحب لهيب ، رأيت الحب لهيبا ، يحرقني الحب
... حتى تنتظم الكلمات انتظاما شعريا جديرا بأن يعلق عقدا في عنق القارئ .وفي
مستوى الخرزات : هذا الأمر يمكن أن نراه بين المعادن النفيسة والأحجار
الكريمة : الذهب والفضة ، والعقيق والفيروز ...تنتظم الحبات بعضها تلو
الأخرى في عقد من الذهب ، أو الفضة ، لكن هذا الانتظام لكي يكون أجمل فإننا
نستبدل الحجر الكريم : العقيق أو الفيروز ببعض حباته ، وثمة صور كثيرة
لهذا التعشيق بين الفضة والفيروز مثلا ليعطي لنا أشكالا تركيبية فنية جميلة
تزين صدر الحسناء .وفي مستوى الناس : ربما كانت أصغر وحدة تكوينية
هي : (الذكر) و ( الأنثى ) ، فالذكر العنصر الثابت القار ، والأنثى العنصر
المختلف والمستبدل ، غير أن تركيبهما ( الزواج ) يعطي أشكالا جمالية من
الأبناء والبنات . وللتباعد في النوع ، بينهما أهمية في زيادة الشعرية
وتقويتها : ( الزوجة الغريبة ، أو القريبة ) اغتربوا لا تضووا . وقد تنبه
إلى هذه الخصيصة شاعر كأبي تمام فبنى شعره على التباعد والاختلاف ، كما
أشار عبد القاهر الجرجاني إلى أهمية فكرة التباعد بين عنصري التشبيه ،
ودوره في صنع الشعرية .وفي مستوى الكون : ربما أبرز مثال هو الشمس
والقمر والنجوم ، فالشمس الأصل ، والقمر التابع الجميل المستمد الضوء نورا
من الشمس ، والنجوم خرزات في هذا العقد الجميل ، والحقيقة أن مستوى الناس
والكون يتداخلان شعريا في الرؤية ، وأبرز تداخل لهما في رؤيا يوسف حين رأى
الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا تسجد له ، فكان التأويل الأب والأم / الخالة ،
وأحد عشر أخا . ولا أرى الإصرار على الدخول من أبواب متفرقة إلا تحقيقا
لبقاء كل نجم في مساره الطبيعي ، على أن تصوير الإنسان بالنجم أمر قديم في
الفن نراه في ملحمة جلجامش كما نراه في القرآن في سورة النجم .وفي
هذا المستوى أيضا يمكن أن نشير إلى شعرية أخرى ممثلة في العلاقة بين السماء
والأرض ، الماء والتراب ، وما يحدث في التقائهما من زوج بهيج من النباتات
والزروع والثمار ، زينة الزرع والخضرة والنبات ، وقد وُصف الأولاد في
القرآن بالزينة ، كما وُصفت النجوم المصابيح في السماء بالزينة .بقي
أخيرا الحديث عن ناتج التقاء هذين العنصرين المختلفين المتباعدين في علاقة
التزاوج والتركيب والبناء هذه ، لاشك أن هناك هزة كهربائية تسبق ولادة
النور ، أو الولد أو النبات ، ومتعة يحسها الشاعر والقارئ معا في العقد ،
والقصيدة ، والنبات ، والنجوم ...هي نتيجة التقاء العمودي : السماء ، الرجل
، الشمس ، الكلمة ، بالأفقي ، الأرض ، المرأة ، القمر ، الكلمة . ربما
تمثلها لنا صراحة الآية : " وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء
اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " وهذه الهزة في الحقيقة هزة معرفية
عميقة هي ناتج التقاء الثنائيات المختلفة وهي تتوالد من جديد في شعرية
جمالية تمثلها الآية الأخرى "الله نزّل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني
تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله "أظن
هذه نواة فكرة الشعرية العربية ، متمازجة في اللغة ، والإنسان والكون ،
موجودة في تراثنا في تفصيلات تحتاج إلى تأمل وتدبر أحببت أن أعرضها هنا
بدون إثقالكم بالهوامش والمراجع والإحالات على أمل إعادة صياغتها من جديد .