أثر المخاطَب
في بناء التراكيب النحوية
عند سيبويه
د/ المتولي محمود المتولي عوض حجاز(*)
إنَّ وظيفة التواصل والإفهام لم تغِب عن أذهان النحاة العرب، بل كانت هذه الوظيفة هي الأساس الذي بنوا عليه قواعدهم وتحليلاتهم، ولذا نراهم يُحَذِّرون مِن الوقوع في اللبس على المخاطَب في مواضع متعددة، ولقد كان اهتمامهم بالمبنى والشكل في المقام الأول حيث انطلقوا منه لفهم المعنى، فصار المعنى حينئذٍ تابعًا للمبنى وتاليًا له عندهم، ولقد أَوْلَوا المخاطَب اهتمامًا كبيرًا؛ لذا نجدهم قد "أقاموا صرح علم النحو العربي على دراسة دور المتلقي لا دور المتكلم، إذ جعلوا منهجهم في دراسة بناء الجملة يبدأ من المبنى للوصول إلى المعنى، أي في اتجاه معاكس لما يسير فيه نظام الحدث الكلامي في عملية الاتصال اللغوي حسب النظرية الحديثة"(4).
تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن أثر المخاطَب الفَعَّال في بناء التراكيب النحوية عند النحاة العرب، كما تهدف إلى دراسة التراكيب المُحَوَّلة في العربية، وما يعتريها مِن حذف وزيادة وتقديم وتأخير... إلخ تبعًا لحال المخاطَب، وقد اقتصرت في عنوان هذه الدراسة على:- "أثر المخاطَب في بناء التراكيب النحوية عند سيبويه" لأمور منها: أنَّ سيبويه - إمام النحاة- والنحاة بعده أحسبهم لم يُضيفوا إلى ما قدَّم شيئًا في نظريته حول المخاطَب والتراكيب النحوية، فَمِن المعلوم أنَّ سيبويه لم يُشغل بصياغة القواعد، ووضع المصطلحات، وإنما كان هدفه الأسمى الكشف عن مقاصد العرب في كلامهم، وبيان خصائص التراكيب العربية ودلالاتها بعكس النحاة المتأخرين الذين شُغلوا برصف القواعد ووضع الحدود والتنظير اللغوي، فسيبويه كما يقول الشاطبي: "... وإن تكلَّم في النحو، فقد نَبّه في كلامه على مقاصد العرب، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أنّ الفاعل مرفوع والمفعول منصوب، ونحو ذلك"(7).
إنَّ كتاب سيبويه يمثل قمة الدرس اللغوي في العربية إذ لم يقتصر على بيان الأحكام النحوية والأوزان الصرفية وصفات الحروف ومخارجها، بل كان هذا الكتاب ولا يزال يحوي طرائق في التفكير العلمي، ورَبْط اللغة بالمجتمع والحياة، فهذا هو الجرمي، من علماء الحديث، يقول:- "أنا منذ ثلاثين سنة أُفتي الناس [في الفقه] مِن كتاب سيبويه"(8)، وقد "فَسَّروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث، وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش"(9).
ترجع ريادة سيبويه في كتابه إلى أنه لم يكن يَصِفُ ما يجب أنْ يتكلمه الناس فقط، كما هو الحال عند النحاة المتأخرين، بل قد اعتنى عناية فائقة بوصف ما يتكلم به الناس بالفعل، ولذا لم يكن معياريًا فقط، بل جمع في كتابه بين المعيارية والوصفية في نسق فريد(10)، فسيبويه قد اعتنى بوصف الموقف الاستعمالي الذي يدور فيه الخطاب فَوَصَف حال المتكلم والمخاطب ولم يُغْفِل سياق الحال، وهو المقام الخارجي الواجب إدراكه كي يتم التواصل اللغوي الذي هو الوظيفة الاجتماعية الأساس للغات.
وهذه الدراسة لأثر المخاطب في بناء التراكيب النحوية عند سيبويه تجعلنا ندرك أنَّ مفهوم الجملة عند النحاة لا يتحقق دائمًا، إذ قد يُضمِر المتكلم بعض الكلمات أو أحد أطراف الإسناد، ويستغني عن ذكر البعض لعلم المخاطَب أو استخفافًا أو لكثرة ذلك في كلامهم أو مراعاة لمقتضيات سياق الحال والقرائن المصاحبة. إلا أنَّ نظرية العامل في النحو العربي ومنظومة الإسناد في التراكيب النحوية جعلت كثيراً مِن النحاة ينشغلون بالبحث عن أثر العامل و المعمول وطرفي الإسناد... إلخ مما صرف أذهانهم عن إدراك مقاصد العرب في كلامهم التي ذكرها سيبويه في كتابه، وحرص على بيانها، ولم يقتصر في كتابه على نحو القواعد، بل استقى سيبويه استدلالاته بلغة التخاطب من مصدرين رئيسين: أولهما: لقاؤه بالأعراب في البصرة ومشافهتهم والسماع منهم، وثانيهما: أخذه عن شيوخه: عيسى ابن عمر، ويونس بن حبيب، وأبي عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد... إلخ، وعباراته الدالة على السماع مِن الأعراب ومشافهته لهم كثيرة منها: سمعت مَنْ أثق به من العرب، وسمعنا العرب الفصحاء يقولون"(13).
أثر المخاطب في بناء التراكيب النحوية عند سيبويه موضوع لم أعلم أحدًا قد أفرده ببحث مستقل، وكل ما نجده في الدراسات الحديثة إشارات عابرة هنا وهناك عن أثر المخاطَب في تعدد الأوجه الإعرابية أو بناء التراكيب أحيانًا، ولم يطرق هذا الموضوع بطريقة علمية منهجية -في ظني- إلا الدكتور/ نهاد الموسى في كتابه "نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديث"(14)، وبحثه عن "الوجهة الاجتماعية في منهج سيبويه في كتابه"(15)، وبحث ثالث له بعنوان "منزلة السياق في نظرية النحو العربي"(16)، إلا أن دراسات الدكتور/ نهاد الموسى تدور حول سياق الحال أو اللسانيات الاجتماعية في كتاب سيبويه وغيره من الكتب التراثية، ومنها دور المخاطَب في بناء التراكيب النحوية، أما بحثي هذا فإنه يحاول الكشف عن تَغيَُر بنية التراكيب النحوية عند سيبويه بتغير حال المخاطَب رغبة في معرفة مقاصد العرب في كلامهم، تلك المقاصد التي نثرها سيبويه في كتابه وأهملها النحاة بعده.
أما خطة هذا البحث فتشتمل على مقدمة، وتمهيد، وستة مباحث، وخاتمة، وثبت بهوامش البحث، وآخر بالمصادر والمراجع.
أولاً:- المقدمة:
وفيها إشارة إلى حاجة الباحثين العرب إلى التنقيب عن كنوز تراثهم، وبيان لوظيفة اللغة في التواصل والإفهام، ومراعاة النحاة العرب لحال المخاطب في بناء التراكيب النحوية، وإلماحة عن هدف الدراسة ألا وهو: الكشف عن أثر المخاطَب الفعَّال في بناء التراكيب النحوية عند سيبويه، وعن تَغيُّر بنية التراكيب النحوية بتغير حال المخاطب. وختمت تلك المقدمة بحديث مُقتَضب عن أهمية كتاب سيبويه في الدرس النحوي، والشروط الواجب توفرها لتحقيق التواصل اللغوي السليم، ثم دعوة للبحث والتنقيب في كتاب سيبويه للكشف عن مقاصد العرب في كلامهم.
ثانيًا:- التمهيد :
وفيه إلماحات سريعة عن المخاطَب في التراث العربي، والمخاطَب في الدرس اللغوي الحديث رغبة في معرفة منزلة المخاطّب عند سيبويه مقارنة بحاله في التراث العربي والدرس اللغوي الحديث.
ثالثًا:- المبحث الأول: (المصطلحات الدالة على المخاطب عند سيبويه).
رابعًا:- المبحث الثاني: (المخاطَب ومقاصد العرب في بناء تراكيبهم).
خامسًا :-المبحث الثالث: (المخاطَب وتَغَيُّر التركيب النحوي).
سادسًا:- المبحث الرابع: (المخاطَب وصِحَّة التركيب النحوي).
سابعًا:- المبحث الخامس: (عقيدة المخاطَب وأعراف الخطاب والتركيب النحوي).
ثامنًا:- المبحث السادس: (سمات المخاطَب عند سيبويه).
تاسعًا:- الخاتمة: وفيها ذكر لأهم نتائج البحث.
عاشرًا:- هوامش البحث.