قررت هذه المرة أن أطلق لقلمي العنان.. ليرصد ذلك التماهي بين لحظات قابعة تحت صدري..وأخرى يموج بها الكون حولي. يتعثر القلم أحيانا على تلك الأوراق المبللة بالندى الذي يكتسي ذلك الوقت ما بين الفجر والشروق.. هي سويعات كثيرا ما تثاقلت وتفلتت.
أسراب من تلك الطيور السوداء التي اعتدت رؤيتها في بلدتي تقتات على أكوام القمامة .. كنت لا أراها في صغري إلا في المتنزهات.. واليوم باتت تغزو أحياءنا السكنية.. حتى صار صوتها الغوغائي جزءا لا يتجزأ من سيمفونية معهودة يشوبها نداءات صغيرة لسرب ضعيف من العصافير في جو السماء..رغم سواد ريشها وتطاير أجسادها في تلك السماء البنفسجية المائجة بالبرتقالية.. أحسست للحظات أنها لا تدرك وجهتها مع علمي الراسخ بأن ثمة آلية فطرية توجهها إلى حيث تنشد.. وكيف لها ألا تصطدم بتلك الأطباق الاصطناعية الجاثمة على أسطح البنايات ترصد أنفاسنا وتمنحنا أنفاسا أخرى.. وتعجبت كيف أني أحسست يوما بحريتها في السماء في حين قد تكون تلك السماء ما هي إلا مجرد جدران شاسعة تمارس فيها آلية وحتمية حياتها كما هي الأرض للبشر.
لم أستطع أن أقاوم تلك الفكرة المباغتة.. وامتثالا لتلك الروح التي تلبستني اليوم.. أذعنت لعفويتها.. تركت قلمي..ووضعت معطفي وقفازا أسود.. وفقط بضع جنيهات فضية أودعتها حافظة جلدية بالية لازمتني منذ أيام مراهقتي الأولى في قبضتي المستأنسة .. وفي يدي الأخرى جوالا قاتلت لسنوات من أجل الحصول عليه. في شيئ من الحذر والسكون المفتعل أطلقت سراح ذلك القفل عن الباب وتسللت في خفة وأوصدته كذلك في هدوء تحت وطأة حرصي ألا أحدث أي صوت يوقظ النيام. هرولت على الدرج حتي التقفني الدرب. استعدت عادة قديمة لي كنت أمارسها في سنوات دراستي الإعدادية بشكل يومي قبيل الطابور المدرسي بدقائق معدودات.. وتساءلت هل ما يمنع في ممارستها الآن! ولرغبة جامحة تجتاحني لم أجد سوى جواب واحد. توجهت إلى إحدي محال البقالة القريبة والتي داوم صاحبها منذ سنوات على اقتناص الرزق في ساعاته الأولى.. ابتعت منه واحدة من ذلك الشيئ الحبيب المعبأ في كيس بلاستيكي اسطواني صغير وبه بعض من المياه الملونة ذات النكهات المختلفة وما أسميناها"لوليتا". أحدثت في أعلاها ثقبا صغيرا وفي نشوة بالغة أخذت امتص تلك العصارات اللذيذة.. والتي رغم ضآلة حجمها انساب بعض منها من بين شفتي اللتين تعلوهما ابتسامة منفرجة وسعادة أطيب مذاقا من تلك العصارات الملونة.
ارتدت الشوارع الضيقة الصغيرة حول مدرسة جديدة تحمل اسم "إيمان حاجو" اتخذت لنفسها مكانا حرجا بين البنايات المطلة عليها من كل جانب.. يفتش كل منها ستر الآخر.. وتنبعث من خلفها ألسنة الدخان البعيدة المنطلقة من مداخن مصانع تكرير البترول التي تحاصر المدينة في علو وبهاء وكأنها تهبنا نوعا آخر من الأوكسجين اتخذ في صدورنا سبيلا لا يجد له منازع.. وكيف أنه لم يحد عن مساره يوما. واستوقفتني لحظتها حتمية حدوث بعض الأشياء ومدى تقبلنا لتلك الحتمية..وهل هذا الحتمي هو حقا حتمي! وماذا لو لم يكن!
نبهني ذلك الألم في أسناني أنها لم تعد بنفس الحداثة التي تستوعب ما هو مثلج وما هو ساخن برحابة.. واضطررت لترك اللوليتا لبعض الدقائق حتى تسيل وارتشفها في يسر ثم احتفظ بحاويتها في حافظتي كعادتي.
تذكرت أن غيابي في تلك الساعات الباكرة لابد أن يكون معذورا حتى لا تؤزر رحلتي الصغيرة بسياط من كلمات أمي المقتضبة وحواجز القهر الذي طالما أطرتنا داخله مجتمعاتنا الشرقية دون اعتبار لعقلية وانسانية النصف الآخر من المجتمع الذي تكيف على مدار الأزمان على الانصياع الحميد والخبيث للنصف الأول. توقفت أمام إحدى مطاعم "الفلافل" وابتعت بعضا منها مع بعض المقبلات الشعبية وأرغفة الخبز الطازج. ودأبت على حمل "ذريعتي" معي في طريق العودة للبيت لأقدمها في شيئ من المن والثبات أمام التساؤلات المتحفزة والمواقف المتباينة بين أفراد أسرتي.. والتي على الأقل أضمن من بينها دعم والدي القعيد. سبحان الله.. كيف لهذه المجتمعات المتضاربة ذواتها أن يتخذ نصفاها كل محل الآخر ودوره وصلاحياته تحت وطأة المتغيرات!وكم هي باهظة تلك الأثمان التي بذلت لذلك التغير! وهل امتلك شيئا منها!
باغتني رنين الجوال الملح في يدي لأجد المتصل هو أخي الأصغر:
‏- أين ذهبت في تلك الساعات دونما إشعار لأحد؟!
‏- سأحضر بعد دقائق محملة بكل الإجابات.
أغلقت الهاتف دون انتظار لرد أخي على جملتي الأخيرة.. جففت تلك الدمعة اللاإرادية التي أحدثتها أشعة شمس الشروق المنعكسة مباشرة على عيني. تباينت خطواتي ما بين الثابتة والمتثاقلة والمهرولة في طريق عودتي.. بينما ثبت داخلي إحساس واحد فرض كيانه دون منازع
‏.... ثمة ساعات مقبلة ....

جميل جميل جميل
لطالما يعجبنى هذا الاسلوب الذى تتمازج فيه الضديات مابين مايحبه الفرد وماتقتضيه الاعراف والتقاليد ، لقد استطيعى من خلال القصة أن تثيرى العديد من القضايا عساك كنتى تقصدينها أولها أنك عرضت للحال التى تعيش فيه البطلة وظروفها الاجتماعية فى تصويرات ما أجملها وكأنها أمو تتجسد أمام القارئ ، ثانيها عرضت فى عجالة نقدك لقضية الرجل والمرأة فى مجتعاتنا وكيفية النظر لها ، ثم فارقتى بين حالتين زمنيتين من خلال بعض العادات والممارسات التى تلزم فترة ولا تتماشى مع مقتضيات أخرى ، وأخيرا أبدى إعجابى بالجملة الأخيرة فى قصتك التى لم تكتمل بعد فى قولك (تباينت خطاى مابين الثابتة والمتثاقلة والمهرولة) لتأتى معبرة الأولى عن خوفك من المصير المنتظر بالبيت والثانية عن كرهك لترك اللحظة التى تعيشينها الان والتى لطالما اسعدتك أما الثالثة فهى نظرة عاقلة تحاولين بها كسب الوقت كى لا يتزايد غضب الاهل .
تحياتى أيتها الأديبة وانتظر البقية

جلال فتحى سيد كتب:

جميل جميل جميل
لطالما يعجبنى هذا الاسلوب الذى تتمازج فيه الضديات مابين مايحبه الفرد وماتقتضيه الاعراف والتقاليد ، لقد استطيعى من خلال القصة أن تثيرى العديد من القضايا عساك كنتى تقصدينها أولها أنك عرضت للحال التى تعيش فيه البطلة وظروفها الاجتماعية فى تصويرات ما أجملها وكأنها أمو تتجسد أمام القارئ ، ثانيها عرضت فى عجالة نقدك لقضية الرجل والمرأة فى مجتعاتنا وكيفية النظر لها ، ثم فارقتى بين حالتين زمنيتين من خلال بعض العادات والممارسات التى تلزم فترة ولا تتماشى مع مقتضيات أخرى ، وأخيرا أبدى إعجابى بالجملة الأخيرة فى قصتك التى لم تكتمل بعد فى قولك (تباينت خطاى مابين الثابتة والمتثاقلة والمهرولة) لتأتى معبرة الأولى عن خوفك من المصير المنتظر بالبيت والثانية عن كرهك لترك اللحظة التى تعيشينها الان والتى لطالما اسعدتك أما الثالثة فهى نظرة عاقلة تحاولين بها كسب الوقت كى لا يتزايد غضب الاهل .
تحياتى أيتها الأديبة وانتظر البقية

‎
دائما ما أجد نفسي ممتنة لتلك الذائقة التحليلية النقدية والتي تفند الأفكار والأدوات من خلال الجزئيات الصغيرة المثقلة الكاهل بالرسائل.. تلك الذائقة التي تتمتع بها سيدي هي ما أضافت رونقا للنص والذي أزيد بها سعادة إذا ما تلقيت نقاط الضعف بالنص أيضا.
حقيقة تعمدت إلفاق عدة أفكار في قدم البطلة بصورة سريعة لتتماشى مع إيقاع النص السريع لتعبر في مجملها عن مفهوم الحرية بمعناه الواسع والذي من بينه.. الحرية الفردية والممارسة الذاتية والاجتماعية .. انطلق ذلك من خلال عدة أدوات من بينها التوق لحريات الطفولة والإشارات الرمزية كإسم مدرسة " إيمان حاجو" .. أسراب الطيور السوداء . الاطباق الاصطناعية كنافذة تعبير حر.. ومن القضايا أيضا مسألة الحتمية .. وكذلك تبادل الادوار بين شقي المجتمع.. وكلها قضايا تخدم الفكرة العامة ألا وهي الحرية.
لفت انتباهي اهتمامك بالجمل الختامية وكان ما تفضلت بذكره حولها هو إحدى تأويلاتها الصائبة وأضيف بأن التباين بين الخطى هو ذلك التغير الذى تنتوي البطلة نهجه والذي يستلزم بالضرورة التثاقل أحيانا والهرولة أحيانا أخرى وصولا إلى الثبات.. ويوجز المعنى في النهاية تلك "الساعات المقبلة" التى هي في حقيقتها ساعات أولى في مرحلة جديدة.
ممتنة جدا لمرورك المثمر.

شاكر لك إطراءك أخت مروة ولكنى حقيقة لم أجد فى قصتك مواضع ضعف لأبرزها فلطالما أبعدنى حسن الاسلوب وترتيب الافكار عن النظر رؤية الاخطاء والتى اعتقد أنها قليلة وإن لم تكن غير موجوده
تحياتى