2 ـ المصطلح ومبدأ التعارض في الممارسة
إنّ النّقد بتصوّراته واتجاهاته، قد حاول مع تفاوت في الدرجة خرق دائرة الإبداع الشّعري المغلقة، لتأسيس نظرة متكاملة عن كيفيات تمظهر الفعل الشّعري، والأسباب المولّدة له. ولا تكون هذه المحاولات مجدية، إلاّ بتبادل الحوار مع النّص وقراءته لضبط حقيقته ووظيفته، ونتج عن ذلك بروز أسئلة متنوّعة، بعضها قريب، وبعضها الآخر بعيد، يريد أن يهتدي إلى الإجابة عن سؤال جوهري وأزلي: هل هناك من تعارض بين الطّبع والصّنعة، أم أنّهما متكاملان في لحظة الكتابة وتفاصيلها؟ وهل للاختيار والفعل وجود في قراءات النّقاد؟ أم أنّ الطّبع لأنّه البداية والقطب مازال يمثل منطلق القراءات النّقدية وملتقاها؟ ويعدّ جابر عصفور، من أبرز النّقاد، الذين حاولوا إبراز مقوّمات الإبداع الشّعري وأسسه في ضوء ثنائية الطّبع/ الصّنعة التي جسّدت خلاف الثابت/ المتحول. ففي مجال النّقد الذّوقي، كان الحكم على طبع الشّاعر المحدث مشروطاً بترديد ما سبق من الشعر. وهو تصوّر غير متماسك، لأنّه يشترط التربية الشّعرية في حجر التّراث، دون قبول الانطلاق، في آفاق التجربة الإبداعية الحضارية الجديدة. وهذا الذّوق قد غلبت عليه المعيارية، لقيامه على التنميط الفكري والجمالي، ذلك أنّ التّجديد الحقيقي الذي يجب أن يسعى إليه الشّاعر لتخطّي القائم، هو العلم بالثّوابت والمتغيّرات، لا الانقياد العشوائي للفكرة القائلة، إنّ رفض المحدث، مرجعه إلى عدم اهتداء الذّوقيين الفطريين إلى مثله في جنس كلامهم. ولهذا، فهم في منظور جابر عصفور، يعتقدون جزافاً أنّ الشّاعر المطبوع المحدث هو: "الذي ينطبع بنمط الأعراب الفصحاء، فيردون شعره إلى أصل كلّ طبع، حيث (البادية) التي يعود إليها شوقاً (كلّ حذّاق المحدثين ومذكوريهم وفحولهم). هذه الدّلالة لا تتباعد بنا ـ في النّهاية ـ عن معنى (التّقليد) أو معنى (الجبر). إنّها تتضمن معنى (التّقليد) بما تنطوي عليه من مدلول يجعل من كلّ نمط متأخر مجلّى متكرر النموذج متقدّم، سابق في الوجود والزمان والرّتبة"( ). إنّ من مدلولات مصطلح الطّبع، السير على أساليب القدماء ومأثورهم الخالد في النّظم. فإنّ الشّاعر المحدث، مجبر في استبانة طريقه ورضى الذوق المتوارث، أن يستملي الفكر القديم في مثاله البدوي، حتّى ينطبق عليه فعل الطّبع في أثناء صياغته لقريضه. إنّ طبع القدماء، ليس محدّداً بزمان، فهو يملك طاقة التّأثير والتّجلي، ويسري نظمه في بيئات الحضارة والتّمدن. والشّرط ألا ينقاد الشّاعر المحدث لهذا التّحوّل الحضاري. وهكذا فإن البعد الرئيس للطّبع، تمثل القديم والتّغذي من منابعه الصّافية وإلزامية اتباعه، لأنّه ثابت غير متحوّل، إلاّ من حيث الأثر الذي يحدثه. وفي أسلوب استقرائي، تكلّم جابر عصفور عن تجليات مصطلح الطّبع في المذهب البدوي، من مرآة نمط الأعراب الفصحاء. فهذا المذهب يكمن في: "دنوّ المأخذ الذي هو قرين الألفاظ التي هي في عذوبة الماء الزّلال والمعاني التي هي أرق من السّحر الحلال"( ). ويشرح القصد من لازمة دنّو المأخذ: "فدنوّ المأخذ نقيض العمق والغموض، وقرين القرب والتّسطح في الإدراك والتلقي على السّواء؛ فهو المعنى الذي لا تستعين عليه بالفكرة، والذي ليس في حاجة إلى التّأويل؛ ولا يعتمد على الإشارات البعيدة، أو الحكايات الغلقة، أو الإماء المشكل. وهو المعنى الذي ينبسط في ظاهر الأشياء... ويبسط في ظاهر اللّفظ، فلا يتطلب جهد المشاركة الإرادية من القارئ المتلقي في إنتاج دلالة هذا الكشف أو تأويل نتيجة هذا الغموض وتفسيرها"( ). ويحكم على هذا النّوع من التفكير بالضحالة، لأنّه يجسّد النّتيجة التي يؤول إليها هذا النّقد الذّاتي المخالف للحقيقة الشّعرية ولوظيفة التّلقي. إنّ المتلقي الذي يفرض عليه هذا النّمط من المعاني، يفقد الصيغة الواضحة لمفهوم الشّعر من أنّه رؤية وكشف وبحث وغوص في أغوار الحياة السّحيقة، بأسلوب جمالي مخصوص. وقد يدفع دفعاً إلى ممارسة القطيعة الفنّية والمعرفية مع عصره وزمانه، إذا استقرّ في وعيه أنّ النّص الشّعري المحدث هو تكرار، وليس كتابة جديدة ومتعدّدة. كما أنّ الضّغط على الشّاعر، لا يخلو من تعسّف.
وسبق للنّقاد القدامى، ومنهم ابن قتيبة والقاضي الجرجاني والآمدي، أن وظّفوا عبارة (قرب المأخذ) في التدليل على الطّبع في خلوصه وسهولته. أمّا أبو هلال العسكري فقد جعل (قرب المأخذ) نعتاً للمطبوع، وتحقيقاً له، إنّه في منظوره النّقدي: "أن تأخذ عفو الخاطر، وتتناول صفو الهاجس، ولا تكدّ فكرك، ولا تتعب نفسك. وهذه صفة المطبوع"( ). ولعلّ جابر عصفور قد استعار هذه العبارة من هذا النّص أو من نصوص أخرى مماثلة لنقاد قدامى، فأبدلها (بدنوّ المأخذ). ومن قراءة جابر عصفور، فإنّ المطبوع المحدث، ينتهي إلى زمن معاير، تتلاشى بسببه العملية الإرادية لتأكيد الذّات. ولأنّ النّاقد الذّوقي مازال مفتوناً بمحتوى عبارة (نقاء الفطرة) الوقتية، التي تنشأ عنها خطأ مخالفة العادة. إنّها تستند في لبّها إلى مفاهيم أوّلية في التّلقي سماعاً وقراءة. لهذا كادت حركة نموّ المحدث أن تشلّ بمثل هذا الطّابع الصدامي، الذي تعوزه الرؤية الشمولية لمصطلح الطّبع والمطبوع. إذن، فإنّ من دلالات الطّبع أن يكون المعنى سهلاً ظاهراً، وأن تكون الألفاظ على قدر المعاني، لمواجهة عنف التجاوز الذّي يصدر عن المحدث، ضد الأصل البدوي المتعارف عليه. وفي الحقيقة أنّ الاعتياد على الشّيء يفرغه من وظيفته الشّعرية، التي يتعانق فيها النّص بالمتلقي.
إنّ الطّبع ليس من صفات القدامى فقط، إنّه قابل للتجسيد والظّهور والتّمكن في حقب زمنية أخرى، ولكن بالمعيار نفسه، والشّروط نفسها، وهكذا: "تحوّلت صفة (المطبوع) والنّعوت المصاحبة لها إلى دال يشير مدلوله إلى بعد مضمن للقيمة الأدبية التي تتردّد درجاتها بدرجات (الطّبع) من ناحية، وتباعد المطبوع عن (التّكلّف)، الذي هو قرين (الصنعة) من ناحية ثانية"( ). إنّ الناظر المتأمّل في كتابات ابن المعتز يسترعي فكره الكلام عن الخصائص المميّزة لمصطلح الطّبع، التي تقترن بالمثير أو بتلك القوى الضاغطة، الحاكمة في شكل المعتقد. وقد استخلص جابر عصفور معنى الطّبع ومقوّماته، من خلال سعيه لشرح نصوص ابن المعتز النّقدية، فهو: "يشير إلى القضاء المقضي أو (الجبر) من ناحية؛ وما يشير إلى النسخ أو المحاكاة المتكررة التي تلازم (التّقليد) من ناحية ثانية؛ إذ يشير المصطلح ـ اسماً ـ إلى ما ركّب في الإنسان من خصال لا تفارق، بغير اختيار منه أو إرادة، على نحو يغدو معه الطّبع قرين (الجبلة) و(السليقة) و(الفطرة) و(الغريزة) أو (السجية) التي خلق الإنسان عليها"( ). وينتهي إلى وضع تعريف للطّبع في إطاره النّظري، فهو: "في هذا المدلول الأسمى مبدأ الحركة من غير تعوّر، وما يقع للإنسان من غير إرادة. ويشير المصطلح ـ مصدراً ـ إلى الكيفية التي يتركّب بها مبدأ أولي للحركة في الإنسان أو الكيفية التي (يطبع) بها المطبوع ـ غير مختار ـ على قوالب ليست من صنعه، أو يحذو على أمثله على طبعه. وذلك مدلول يصل معنى التّقليد بمعنى الجبر، على نحو يجعل جبر القنية فيما هو (مطبوع) قرين نفي الإرادة التي ينطوي عليها كلّ ما هو (مقلود)، وعلى نحو يجعل صفة الفاعلية المجازية المتضمنة في (المطبوع) الذي (يطبع) على مثال قرينة تكرار الفعل الذي ينختم به (الطّبع) الواحد ـ حتماً ـ على المتعدد من الصّور"( ).
إنّ جابر عصفور، استند في تحديد معنى الطّبع وسماته ونتائجه، إلى ما سبق للمعاجم العربية القديمة أن أوردته من دلالات لصيغة (ط ب ع) مع فرق جليّ، وهو أنّ جابر عصفور، وسّع في المصطلح، ومنحه بعداً صراعياً في مخالفة الصّنعة كإرادة واختيار. فالطّبع يتلخص في لا مسؤولية الشّاعر فيما يبدع ويصف، وإزاء ما يكتب بصفة عامّة. والبعد المجازي لمصطلح الطّبع، لديه، هو الدّلالة الاعتقادية، التي تشتمل على الجبر وانتفاء القدرة الخالصة على الفعل. ومنه تشكل لديه خطّان متقابلان، لا يلتقيان:
الجبرية (الطّبع) ≠ الاستطاعة (الصّنعة)
الجبرية (النقل) ≠ الاستطاعة (العقل)
وهذا الخطان، يجسّدان جوهر الفكر الكلامي الاعتزالي، الذي آثره جابر عصفور في تقديره للتعارض بين العقل والنّقل: "ولقد ناقش المعتزلة مفهوم (الطّبع) في محاولتهم نفي التعارض النّظري بين أصلي (العدل) و(التّوحيد) في فلسفتهم، وذلك في سياق ميّز به بين المبدأ الأوّلى الذي يخلقه الله في الإنسان، كما يخلق الآلة أو الأداة أو الجارحة والفعل الإنساني الذي يوجّه هذا المبدأ في اتجاه يختاره الفاعل بإرادته التي هي على سبيل الحقيقة لا المجاز، والتي يتحكّم بها الإنسان في حركة طبعه كما يتحكم في آلاته أو أدواته أو جوارحه التي ليست من صنعه"( ). إنّ التّصوّر السّائد، هو أنّ الطّبع يعبّر عن الكيفية التي تتمّ بها تأدية المعنى، وشرطها الإفصاح والإفهام، ولا تتعدّى هذا الحاجز إلى الكيفية المتعلّقة بجودة الصّنعة، التي يتكثف حسنها وفعلها مع تعاقب الزمان وتدرّجه، أمّا شاعر الطّبع، فإنّ آفاقه ضيّقة، قياساً إلى الصّنعة، التي ينطوي صاحبها على صيرورة ومقاومة.
ويعود جابر عصفور، فيقرّ للجاحظ بسداد رأيه في الكلام عن الجهد الإرادي الذي يعانيه الشّاعر في عملية التّأليف. وهنا يتوازى المبدأ الكلامي بالمبدأ النّقدي في آرائه:
"عندما ردّ الشّعر من حيث مبدئه الأوّل ـ إلى (الحظوظ والغرائز والأعراق)، ولكنَّه ردّ قيمة الشّعر ـ آخر الأمر ـ إلى الجهد الإنساني الذي يكابده الشّاعر في (إقامة الوزن وتخيّر اللّفظ وجودة السبّك)، بعد أن تتوافر للشّاعر (صحة الطّبع) التي هي مبدأ أوّلي يقوّم به الشّعر ولا يقوّم به وحده: فالشّعر ـ عند الجاحظ ـ (صناعة) والصّناعة جهد إنسان يقع على مادة هي المعاني المطروحة في الطّريق... وبقدر ما يقع هذا الجهد على مادة (المعاني) فإنّه يقوم على استخدام أدوات مخصوصة بكيفية تتحوّل معها المادّة المطروحة في الطّريق ـ خلال ممارسة هذا الجهد ـ إلى نظم فريد في تآلفه الصّوتي والدّلالي الذي يشبه ـ في أثره ـ تآلف عناصر (النّسج) أو تآلف أصباغ التّصوير"( ).