رغم صعوبتها على البالغين..أطفال يتقنون الفصحى.
استغل الطفل "محمد هاني" الإجازة الصيفية قبل دخوله عامه الدراسي الأول في متابعة قناة "نيكولوديون" التي تبث برامج الأطفال باللغة العربية الفصحى، وتقمص دور الشخصيات التي تتردد في تلك القناة، حتى أصبح يتحدث لغتهم داخل أسوار بيته وأمام بعض أقاربه.
دخل محمد المطبخ ليجد والدته تصنع قالب الكيك للاحتفال بعيد ميلاد شقيقه الأكبر، فسألها بلغة فصحى: "ماذا تفعلين؟ لمن هذا الذي تصنعين؟"، فغرت والدته فاها وهي تسمع منه هذه الكلمات وسرعان ما تحولت الدهشة إلى موجة من الضحك، فلم يسبق لها ولزوجها أن تحدثا بالفصحى أمام أولادهما.
فضائيات الأطفال
أم عبد الله والدة محمد سارعت بإخبار والده عن هذا التقدم في أسلوب حديث ابنها مقتنعة بضرورة إبعاده هذا الشيطان الذي يغير فكر الطفل وطريقة حديثه لأنه سيصبح مثار سخرية لإخوته وأبناء عمومته قبل أبناء مدرسته، ورغم اطمئنان والديه بأن المدرسة ستنسيه هذا التقمص إلا أنها علقته بها أكثر نظراً لغيابه عنها فترة الدراسة, وتتحدث أم عبد الله "للرسالة نت": عاد محمد إلى البيت في اليوم الأول للمدرسة يبكي بحرقة وعندما جلست إليه لأسمع شكواه قال: "زملائي في المدرسة سخروا مني لأنني أتحدث اللغة الفصحى"، وعندما أتحدث يضحكون، وعاد يقول بنفس أسلوب القناة وشخصياتها: "أنا لا أريد العودة للمدرسة ثانية".
جلست الوالدة حائرة في إيجاد حل لمشكلة طفلها الذي كره المدرسة من اليوم الأول لما تعرض له من سخرية، وتوجهت لأخصائية تربوية علها تجد الحل واهتدت إلى أن يقتصر حديثه بالفصحى في المنزل.
نفس المشكلة يعاني منها الموظف "أحمد رجب" مع طفله "عبد الرحمن" الذي يتقن اللغة الفصحى في اغلب حديثه ويختلف عن سابقه أن عبد الرحمن جاوز التسع أعوام واستقى ألفاظ الفصحى من القصص التي يقرأها وبعض البرامج التعليمية على جهاز الحاسوب والفضائيات.
يقول والده: عبد الرحمن ذكي بالفطرة، فهو يحب قراءة القصص منذ طفولته، ولاحظت تغير أسلوب حديثه للفصحى منذ الصف الأول إلا أنني كنت انصحه بألا يتحدث بها أمام زملائه في الصف حتى لا يسخروا منه.
وأضاف: في الوقت الذي كانت "لغته العربية" مثار إعجاب من بعض المدرسين كانت مثار "سخرية" من زملائه ووصفوه بالـ "فليسوف صغير"، خاصة أن لسانه ينطق بما لا تنطق به ألسنتهم من عربيةٍ فُصحى نادراً ما تجد طفلاً يتقنها.
وذكر والده أن تلك "النعمة" انقلبت نقمةً على عبد الرحمن عندما رأى نظرة السخرية والاستهزاء على وجوه زملاء الدراسة فكثيراً ما كان يرفض الذهاب للمدرسة حيث تنهال عليه عبارات السخرية: "عبقري فارغ.. فيلسوف.. فصيح" وكان يصاب بالحرج وتنتابه لحظات البكاء، ورغم ذلك فلم يتوقف عن التحدث بالفصحى.
لغة مخالفة للكتب المدرسية
وترجع السيدة "سهى عبد القادر" سبب تحدث الأطفال باللغة الفصحى إلى اندماج الأطفال "اللامعقول" بما تبثه قنوات الأطفال من رسومٍ متحركة تحاكي خيالاتهم بلغة عربية فصحى.
وأضافت أن أطفالا آخرين يدخلون المدرسة وهم لا يعرفون إلا اللهجة العامية، ولكنهم يجدون لغة الكتاب مختلفة تماماً، فمثلاً يقرأ الطفل هذه الجملة البسيطة ولا يفهمها وهي: "جلست البنت بجانب النافذة" ويُضطر المدرس إلى أن يترجمها له بالعامية فيقول: "قعدت البنت جنب الشباك"، وبالتالي يكره الطفل العربي القراءة ويكون تعلمه بطيئا، ورغم كل "الذرائع" في تعلم العربية بالنسبة للأطفال، تبقى المشكلة في صعوبة اندماج الطفل "المتحدث بها" مع جماعة أقرانه الموازين له في العمر والتفكير.
توسع مدارك الطفل
ومن جانبها تؤكد الأخصائية النفسية والتربوية سماح زيارة أن الطفل الذي وصل به حد التأثر بشخصيات الكرتون المحببة لديه، لا يقتصر على تقمص لغتهم وشخصيتهم، بل وحياتهم أيضاً، فالمخ البشري يصل إلى أعلى مقومات النمو عند سن السادسة ويستطيع أن يتعلم حقائق ومعلومات ويختزنها في ذاكرته ويتحقق نموه بالرغم من التعقيدات المرتبطة بعملية تعليم اللغة، والطفل يستطيع التمكن من لغة واحدة أو أكثر عند سن الثالثة أو حتى أصغر.
مشيرة إلى أنه في سن الثالثة –أي بداية النطق- يستطيع تعلم واختزال الكلمات التي تقال أمامه خاصة إذا كانت من شخصيات يحبها كوالديه أو البرامج التي يتابعها على فضائيات الأطفال أو أن يكون حديث الجدة، موضحة أنه كلما كان الطفل صغيراً كانت عملية التعلم سهلة وأكثر تلقائية, وعندما يكبر الطفل تصعب عملية تعلم اللهجة الصحيحة، فتعلم الطفل لغات مختلفة في مراحل مبكرة يوسع مدارك الطفل العقلية.
وتستطرد الأخصائية زيارة: الرسوم المتحركة التي تثب عبر فضائيات الأطفال تسهم إسهاماً غير مباشر في نمو الطفل المعرفي، ومتابعة الرسوم الكرتونية في سن صغيرة يشجع الطفل على تعلم اللغة العربية الفصحى التي ينطق بها، والتي تقدم إليه ولا يجدها في الغالب في محيطه الأسري, مما ييسر له تصحيح النطق وتقويم اللسان وإتقان اللغة.
وتضيف: التقليد وسيلة تمكن الطفل أن يتعلم من خلالها سواء كما ذكرنا سابقاً من والديه أو جدته أو حتى الرسوم الكرتونية، ويرى أنه يمكننا مساندة الطفل ليتعلم الفصحى وذلك من خلال توجيه الأطفال لمشاهدة مجموعة من البرامج والأفلام التربوية والتعليمية, ليتعلم منها اللغة العربية الفصحى.
وعما يواجهه الطفل من سخرية محيطه وزملائه خلال حديثه بالفصحى تجيب زيارة: من الطبيعي أن يتعرض الطفل للسخرية ونعته بألفاظ تثير سخطه ما يسيء لنفسيته فيتأثر تربوياً وتعليمياً ونفسياً، لذا يأتي دور أسرته والمدرسة كمؤسسات تربوية في تعزيز هذه القدرة عند الأطفال وتشجيعهم على تطويرها.
ونوهت إلى أن هناك رياض أطفال خارج فلسطين تعلم تلاميذها اللغة الفصحى، متمنية أن يكون مثلها في غزة، لأن ذلك سيؤدى إلى نمو اللغة عند الطفل وتقويتها ليستكمل المدرس تعزيز هذه اللغة, وتختم حديثها قائلة أن أفضل سن لتعليم الأطفال الفصحى قبل السادسة ففي هذه السن يستطيع الطفل أن يتعلم الفصحى في الروضة، والعامية في البيت من أبيه وأمه جنبًا إلى جنب حتى ينمو متمسكاً فيها.
تجربة "الدنان"
بينما كان للدكتور الفلسطيني عبد الله مصطفي الدنان المقيم في سوريا، تجربة لإكساب الطفل اللغة العربية الفصحى بالفطرة، حيث اقتنع الدنان بأن الفشل في تعليم العربية الفصيحة لا ينبع من صعوبتها بل من مناهج تدريسها, ما دفعه إلى تطبيق نظرية إكساب الطفل العربية الأدبية بالفطرة والممارسة.
وتستند رؤية الدنان في تعليم الطفل العربية الفصحى إلى الحقيقة العلمية القائلة إن للأطفال حتى سنّ السادسة قدرة فطرية ضخمة على اكتساب المهارات اللغوية.
وكان الدنان قد طبق هذه التجربة الرائدة على ابنه البكر “باسل” عندما كان ابن أربعة أشهر في بدايات العام 1978، أي مخاطبته بالعربية الفصيحة المشكولة أواخرُها أيضاً، في حين تحدثت الوالدة إليه بالعامية الدمشقية.
ولوحظ أن الابن بدأ بالاستجابة للكلام الفصيح فهماً عندما بلغ عمره عشرة أشهر, كما ظهر في اثني عشر شريطاً مسجلاً لهذه التجربة، وفي سن الثالثة كان باسل قادراً على التواصل بالفصحى دون أخطاء.