العـدول
من المباحث الهامة في الدراسات الأسلوبية مبحث العدول , والعدول في الدراسات الأسلوبية هو ما يعبر عنه بالخروج على خلاف الظاهر في البلاغة العربية .
والعدول هو: رصد انحراف الكلام عن نسقه المثالي المألوف .
مبنى العدول :
العدول في التعبير مبني على أساس أن العلماء نظروا إلى اللغة في مستويين:
الأول : مستواها المثالي في الأداء العادي
الثاني : مستواها الإبداعي الذي يعتمد على اختراق هذه المثالية وانتهاكها. . .
والمستوى العادي هو الذي يعتمد النحو التقعيدي في تشكيل عناصره , كما يعتمد اللغة في تنسيق هذه العناصر . . (ينظر : البلاغة والأسلوبية 268)
ومن ذلك : أن الأصل في المبتدأ التقديم , والأصل في الخبر التأخير , والأصل في الفعل أن يتقدم ثم يليه الفاعل ثم المفعول . . . وهكذا . . .
فإذا جاء الكلام على هذا الأصل فلا يكون فيه عدول. .
والمستوى الإبداعي لا يلتزم بالأصل اللغوي في التعبير , وإنما يخالف هذا الأصل لإضافة أغراض بيانية يراها القائل . .
مظاهر العدول:
العدول في التعبير له مظاهر متنوعة منها:
1- الزيادة أو الحذف ( الإيجاز والإطناب )
2- التقديم والتأخير
3- التعريف والتنكير
4- الالتفات
5- وضع الماضي في موضع المضارع وعكسه
6- إشراب الحرف معنى حرف آخر
وسوف نتحدث الآن عن الالتفات , ووضع الماضي موضع المضارع وعكسه , وإشراب الحرف معنى حرف آخر ,أما المظاهر الأخرى للعدول فسنتحدث عنها في حديثنا عن السياق.
أولا : الالتفات :
الالتفات هو : (( العدول من أسلوب في الكلام إلى أسلوب آخر مخالف للأول)).
والالتفات له صور متعددة منها الالتفات فقد يتمثل في الضمائر , كأن يعبر بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب ثم يخالف إلى ضمير آخر. . .
كما يتمثل في العدد من حيث الإفراد والتثنية والجمع , حيث ينصرف عن المفرد إلى المثنى أو إلى الجمع . . .
كما يتمثل في النوع من حيث التذكير والتأنيث
وتتمثل القيمة التعبيرية في الالتفات في أنه يأتي بغير المتوقع لدى القارئ أو السامع, فيؤدي إلى حالة من التيقظ الذهني والنشاط العقلي , ويبعد عن المتلقي ما قد يصيبه من ملل نتيجة السير على نمط واحد من أنماط التعبير. . .
ومن ذلك الالتفات من الغيبة في أول سورة الفاتحة : ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) )) إلى الخطاب في قوله ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ))
وهذا الالتفات فيه زيادة تقرب إلى الله تعالى خاصة في سياق العبادة, إذ قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) )) تدل على قرب الله تعالى من الإنسان حتى كأنه حاضر مخاطب , وهكذا ينبغي على المؤمن أن يجعل الله تعالى حاضرا في قلبه في كل عبادة يتوجه بها لله تعالى . . .
ومن ذلك الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى
( وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) )) فصلت ...
حيث التفت من الخطاب في قوله (( ظنكم .. أرداكم .. فأصبحتم .. )) إلى الغيبة في قوله (( فإن تصبرا .. لهم .. يستعتبوا .. فما هم ..))
وهذا الالتفات ينبئ بالطرد من رحمة الله , وذلك بإبعادهم عن ساعة الحضور والمخاطبة , وأنهم ليسوا أهل لأن يخاطبوا . . .
ومن التغليب في التذكير والتأنيث قوله تعالى ((وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) )) (التحريم) إذ مقتضى الظاهر أن يقال : وكانت من القانتات , ولكن غلب جانب التذكير , وهذا فيه إشعار بأنها قد بلغت في طاعتها مبلغ أولئك الرجال فعدت منهم . . .
ومن تغليب الجمع على المفرد قوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. . .))(الطلاق) حيث الظاهر يقتضي أن يقال: إذا طلقت النساء , ولكن غلب الجمع على المفرد , لأنه حكم عام , وتشريع للأمة وليس خاصا به عليه الصلاة والسلام .
ثانيا : وضع الماضي موضع المضارع وعكسه:
قد يعبر عن المستقبل بلفظ الماضي أو العكس وذلك لأغراض بلاغية يقصد إليها المتكلم , ومن ذلك قوله تعالى : ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68))) (الزمر) ، فالتعبير بالماضي هنا يفيد تحقق الوقوع وأن ما هو واقع في المستقبل من نفخ وصعق كالواقع الآن لأنه واقع لا محالة . . .
ومن التعبير عن الماضي بلفظ المضارع قوله تعالى: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ(9))) (فاطر)، فقد عبر عن الماضي بلفظ المضارع في قوله: (( فَتُثِيرُ سَحَابًا )) استحضارا لصورته العجيبة الدالة على بديع قدرته تعالى , حتى كأنه حاضر مشاهد أمام العين .. وبذلك يكون تأثيرها أشد ووقعها أقوى . . .
والتعبير عن الماضي بلفظ المضارع يحسن في الأمور الغريبة العجيبة التي يهتم برؤيتها ومشاهدتها لغرابتها . . . ومن ذلك قول تأبط شرا يصور قتله للغول حين تعرضت له في الصحراء :
فشدت شدة نحوي فأهوت لها كفي بمصقول يماني
فأضربها بلا دهش فخرت صريعا لليدين وللجران
الجران : مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره
فهو هنا يتحدث عن أمر غريب وهو ضربه للغول , وكان مقتضى الظاهر أن يقول : فضربتها , ولكن عبر بالمضارع (( فأضربها )) استحضارا لتلك الصورة العجيبة حتى كأنه يصارعها ويضربها أمام الأعين. . .
ثالثا : إشراب الحرف معنى حرف آخر:
قد يلجأ المتحدث إلى التعبير بحرف من الحروف مع أن الظاهر يقتضي حرفا آخر , و لكن المتحدث يخالف الظاهر لسر بلاغي يقصد إليه ومن ذلك قوله تعالى على لسان فرعون مخاطبا السحرة ... ((وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ )) (طه/71)، والمعنى على جذوع لأن التصليب يكون على الجذوع وليس فيها , وإنما عبر عن ((على)) بـ (( في )) للدلالة على شدة التصليب وقوته , حتى كأنهم صاروا داخلين في الجذوع نفسها , وهذا يتلاقى مع غرضه من شدة التحذير والتخويف . . .
ومن ذلك قوله تعالى ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ)) (التوبة/60)، حيث عدل عن اللام إلى ((في)) في الثلاثة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره باللام , لأن (( في )) للدعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في الوعاء , وأن يجعلوا مظنة لها ... )) (ينظر: المثل السائر 2 / 241)
ومن ذلك قول الشاعر :
إذَا رَضِيَتْ عَليَّ بَنُو قُشَيْرٍ لَعمرُ الله أعْجَبَنِي رِضَاهَا
إذ الأصل أن يقال : رضيت عني , ولكنه عدل عن (( عني )) إلى (( علي )) لأنه أراد أن يصور غاية رضاها عليه حتى صارت مقبلة عليه , فهي إذا رضيت عنه أحبته , وإذا أحبته أقبلت عليه , فعبر بما يدل على غاية ذلك عن طريق وضع (( على )) في موضع (( عن )) .
السيـاق
السياق له أهميته التي لا تنكر في فهم القول فهما صحيحا إذ من المركوز في الطباع عند أولي الألباب من أهل العلم , أن السياق هو الذي يحدد مسار النظم ونهج القول . . .
والمقصود بالسياق : تتابع الكلام وتساوقه في الترتيب على نمط معين.
والمقصود بدلالة السياق : فهم النص بمراعاة ما قبله وما بعده , أي فهم اللفظ أو الجملة بما لا يخرجها عن السابق واللاحق . . .
وسوف نتحدث عن :
1- الفهم الصحيح وصلته بالسياق
2- تنبه العلماء لأهمية السياق
3- تجاور الكلمات وصلته بالسياق
4- الخطوات التي يتبعها القائل حتى يطابق مقتضى الحال.
أولا : الفهم الصحيح وصلته بالسياق
إذا أراد الإنسان أن يفهم الكلام فهما صحيحا لابد وأن يربطه بالسياق الذي ورد فيه , وإلا وقع في الخطأ وسوء الفهم , وليس أدل على ذلك مما ورد أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يا أمير المؤمنين : أرأيت قول الله تعالى : ((وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) ))(النساء) وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ؟ قال له علي: ادنه , ادنه ! ثم قال : ((فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141))) يوم القيامة.
فبين علي رضي الله عنه- أن محل إشكال السائل هو ظهور بعض الكافرين على المؤمنين في الدنيا و انتصارهم عليهم , بينما هذا الوعد محدد بأنه يوم القيامة بدلالة سياق الآية وهي قوله : ((فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) إذ بعدها مباشرة: ((وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )) أي في ذلك اليوم.
ومن ذلك أيضا ما ورد من رد نافع بن الأزرق على ابن عباس ـ رضي الله عنهما – أن قوما يخرجون من النار مستدلا بقوله تعالى : ((وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا)) فقال له ابن عباس : ويحك اقرأ ما فوقها [ أي: ما قبلها ] هذه للكفار))
وهذه الآية قبلها مباشرة قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(37))) (المائدة).
ثانيا : تنبه العلماء لأهمية السياق:
لاحظ البلاغيون منذ القدم ظاهرة السياق وأهميته في فهم الكلام , وذلك من خلال مقولتهم (( لكل مقام مقال , ولكل كلمة مع صاحبتها مقام ))
ومن هنا انطلق البلاغيون في مباحثهم حول فكرة السياق وربطها بالصياغة , أو ربط الصياغة بالسياق , وأصبح مقياس الكلام في باب الحسن والقبول بحسب مناسبة الكلام لما يليق به , أي مقتضى الحال .
(( فإذا كان مقتضى الحال إطلاق الحكم فحسن الكلام تجريده من مؤكداته الحكم . . . وإن كان مقتضى الحال طي ذكر المسند إليه فحسن الكلام تركه ..... وهكذا ))
وفكرتا الحال والمقام – في مفهوم البلاغيين- مرتبطان بالبعد الزماني والمكاني للكلام , وذلك أن الأمر الذي يدعوا المتكلم إلى تقديم صياغته على وجه معين , إما أن يتصل بزمن هذه الصياغة فيسمى الحال , وإما أن يتصل بمحلها فيسمى (المقام) لأن كل كلام لابد له من بُعد زماني وبعد مكاني يقع فيه , ومن هنا ارتبطت فكرة الحال والمقام بالمقال , واختلاف صور هذا المقال يعود بالضرورة إلى اختلاف الحال والمقام.
ثالثا : تجاور الكلمات وصلته بالسياق
تمتد فكرة المقام إلى علاقة المجاورة التي تكون بين كلمتين متتابعتين , فقالوا: إن لكل كلمة مع صاحبتها مقام ففي تركيب الشرط نجد الفعل الذي قصد اقترانه بأداة الشرط له مع (( إن )) مقام يختلف عن مقامه مع (( إذا )) فمقام ((إن)) يقتضي الشك , ومقام (( إذا )) يقتضي التحقيق بحصول الشيء , فإن وإذا وإن اشتركتا في أصل المعنى وهو الشرط والتعليق , فقد اختلفتا من حيث المقام . . .
كما أنه من المؤكد أن افتقاد المقام يؤدي إلى ورود مفردات متناثرة لا تمثل مقالا بالمعنى اللغوي , أو بالمعنى البلاغي , لأنها لم توضع في سياق يربط بين أجزائها بحيث تؤدي في النهاية معنى معينا. .
رابعا : الخطوات التي يتبعها القائل حتى يطابق قوله مقتضى الحال:
مراعاة مقتضى الحال لها علاقة وثيقة بالمتكلم , إذ إن المتكلم قبل أن ينشئ النص الأدبي لابد من مراعاته لعدة أشياء , منها , حيث ذكر ابن الأثير أن صاحب الصناعة يحتاج في تأليفه إلى ثلاثة أشياء :
الأول : اختيار الألفاظ المفردة , وحكم ذلك حكم اللآلئ المبددة , فإنها تتخير وتنتقى قبل النظم.
الثاني : نظم كل كلمة مع أختها المشاكلة لها , لئلا يجيء الكلام قلقا نافرا عن مواضعه , وحكم ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كل لؤلؤة منه بأختها المشاكلة لها .
الثالث : الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه , وحكم ذلك حكم الموضع الذي يوضع فيه العقد المنظوم , فتارة يجعل إكليلا على الرأس , وتارة يجعل قلادة في العنق , وتارة يجعل شنفاً في الأذن , ولكل موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصه )) (المثل السائر لابن الأثير 1/210)
فكما أن صانع العقد ينتقي الجواهر والدرر أولا التي يريد استعمالها , ثم ينظمها بطريقة معينة بناء على حسن التشاكل والتجاور بين الدرر , وهذا النظم يتلاقى مع الذي يريد أن يصنعه عقدا كان أو تاجا أو شنفا في الأذن . . . فكل نوع له طريقة معينة في النظم.
وهكذا الأمر بالنسبة للأدب , فإن الأديب يختار أولا الكلمات التي يريد استعمالها , ثم ينظمها بطريقة معينة , وهذا النظم لابد وأن يتلاقى مع الذي يريد أن يقوله , إذ الشعر له طريقته , والنثر له طريقته , والتأليف له طريقته. . .
ومن خلال حديثنا عن السياق سوف نذكر من السياقات :
1- سياقات الحذف والذكر
2- سياقات التقديم والتأخير
3- سياقات التعريف والتنكير
أولا : سياق الحذف والذكر :
تناول البلاغيون السياقات التي يرد فيها حذف أحد أطراف الإسناد , وذلك من منطلق أن المعنى يدل على وجوده , ولكن المتكلم يعمد إلى إسقاطه من اللفظ ...
سياق الحذف :
والحذف لا يظن أن فيه إفسادا للمعنى , أو إنقاصا له , ولكن هو زيادة في الأداة, ومطلب للسياق لا يمكن العدول عنه , ولذلك تراهم يقولون : (( ترك الذكر أفصح من الذكر , والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة , وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق , وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن )) (دلائل الإعجاز صـ170ـ)
شروط جواز الحذف :
وضع البلاغيون شرطين لجواز الحذف وهما :
الأول : وجود ما يدل على المحذوف من القرائن
الثاني : وجود سر يرجح الحذف على الذكر
الأول : الدلائل على الحذف :
أ_ قد يكون الدليل على الحذف هو ربط نسق الكلام بطبيعة المتحدث , كما في قوله تعالى : ((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)) (يوسف/82) فلو جاء هذا المعنى في غير القرآن فلا يمكن القطع بوجود الحذف , لجواز أن يكون كلام رجل مرَّ بقرية قد خربتْ وباد أهلها , فأراد أن يقول لصاحبه واعظا ومذكرا , أو لنفسه متعظا و معتبرا : سل القرية عن أهلها , وقل لها : ما صنعوا ؟ على حد قولهم : سل الأرض من شق أنهارك , وغرس أشجارك , وجنى ثمارك , فإنها إن لم تجبك حوارا ,أجابتك اعتبارا ، وذلك أمر يرجع إلى غرض المتكلم ( أسرار البلاغة صـ267)
ب _ وقد يكون الدليل على الحذف راجعا إلى الصياغة الفنية ذاتها , فلزوم الحذف يكون من أجل الكلام لا من حيث غرض المتكلم به , وذلك كأن يكون المحذوف أحد جزئي الجملة , كالمبتدأ في نحو قوله تعالى : ((فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)) (يوسف/83) فلابد من تقرير محذوف , لأن المعنى لا يتم إلا بإسناد والإسناد لا بد له من جزأين , والصفة والموصوف شيء واحد , والشيء الواحد لا يفيد حتى يضم إلى غيره , وعلا ذلك فلا بد من تقرير كلمة محذوفة يتم بها المعنى.
- سياقات الحذف عند الإمام عبدالقاهر:
ذكر الإمام عبدالقاهر السياقات التي يكثر فيها حذف المسند إليه وهي تأتي في موضعين :
الأول : عند ذكر الديار والأطلال :
وذلك كما في قول الشاعر :
اعتاد قلبك من ليلى عوائدَه وهاج أهواءك المكنونةِ الطللُ
ربع قواء أذاع المعصرات به وكلُّ حيرانَ سارٍ ماؤه حَضِلُ
إذ تقدير الكلام : ذلك ربع قواء , أو هو ربع قواء.
ومنه أيضا قول الآخر:
هل تعرف اليوم رسم الدار والطللا كما عرفت بجفن الصيقل الخللا
دارُ لميةَ إذ أهلي وأهلهم باكانسية نرعى اللهو والغزلا
إذ التقدير: تلك دار . . .
الصيقل : السيف المصقول , والخلل : مفردها خلة وهي جفن السيف المبطن بالجلد ونحوه , والكانسية : موضع.
ولعل السر في حذف الشاعر للمسند إليه عند ذكره للديار والأطلال هو كراهيته أن تنسب هذه الرسوم والأطلال التي أصبحت قفرا بعد أن كانت عامرة بالأحباب ... كراهيته أن تنسب إلى جبينه نسبة صريحة .
كما أن الشاعر عند ذكر الديار والأطلال يكون ممتلئ النفس , حزينا باكيا , وتلك الحالة تقتضي الحذف وتدعو إلى طي الكلمات وإيجاز القول .( ينظر : علم المعاني د/ بسيوني فيود 1/98 )
الثاني : عند القطع والاستئناف :
وهذا يتأتى إما في سياق المدح أو في سياق الذم
فمثال القطع والاستئناف لقصد المدح قول الشاعر :
وعلمتُ أني يومَ ذاك منازلٌ كعبًا ونهدًا
قومٌ إذَا لَبِسُوا الحَدِيـ دَ تَنَمَّرُوا حَلَقَاً وقِدَّا
أي : هم قوم .
وقوله :
هم جلوا من الشرف المعلى ومن حسب العشيرة حيث شاءوا
بناة مكارم وأساة كلم دماؤهم من الكلب شفاء
أي : هم بناة مكارم . . .
ومثال القطع للذم قول الشاعر :
سريع إلى ابن العم يلطم وجهه وليس إلى داعي الندى بسريع
حريص على الدنيا مضيع لدينه وليس لما في بيته بمضيع
أي : هو سريع – هو حريص..
ولعل السر في الحذف هنا هو رغبة المتكلم في أن تتميز هذه المعاني وتظهر كأنها صنوف متباينة وألوان مختلفة , وأجناس متغايرة , فهذه المعاني تكون قائمة بنفسها غير مرتبطة بما قبلها وهذا يفيد كمال المبالغة في المدح أو الذم ... (د.بسيوني 98 ,99)
كما ذكر الإمام عبدالقاهر سياقات حذف المفعول به , وذلك يكون في عدة سياقات منها :
- قصد التعميم ، وذلك كما في قوله تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) (الزمر/9)، وقوله: ((وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43))) (النجم)
- قصد الإيهام حتى كأن المفعول غير مقصود ، ومنه قول البحتري :
شَجْوُ حسّادِه و غيظُ عداهُ أن يَرى مبصرً ويسمع واع
إذ تقدير الكلام : أن يرى مبصر محاسنه , ويسمع واع أخباره وأوصافه)).
- حذف مفعول المشيئة:
الغالب أن يحذف مفعول فعل المشيئة بعد لو وبعد حرف الجزاء , ومن ذلك قول البحتري:
ولو شئتَ لم تُفسد سماحة حاتم كرمًا ولم تهدِم مآثِرَ خالد
والأصل : لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها. . .
ويستثنى من ذلك إذا كان مفعول المشيئة أمرا عظيما أو غريبا , فيكون إظهاره هو الأحسن كقول الشاعر :
ولو شئتُ أن أبكي دما لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
فالإظهار هنا أحسن , وسبب ذلك أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما , فلما كان ذلك , كان الأولى أن يصرح بذلك ليقرره في نفس السامع . (دلائل الإعجاز 179 , 184)
أغراض حذف المسند إليه عند البلاغيين
يحذف المسند إليه عند البلاغيين لأغراض كثيرة منها:
1- الاحتراز عن العبث :
وذلك حينما يكون ظاهرا ظهورا بينا بحيث يكون ذكره عبثا , ومن ذلك قولنا عن شخص معين: (( حضر ))
ويكثر هذا في جواب الاستفهام كما في قوله : ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)) )(القارعة)، أي : هي نار حامية .
وكذا بعد القول كما في قوله تعالى ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)) )(الذاريات) أي : أنا عجوز ...
2- ضيق المقام :
ويكثر هذا في مقام التوجع والتألم كما في قول الشاعر :
قالَ لي كَيفَ أنتَ قُلتُ عَليلٌ سَهَرٌ دَائمٌ وحُزنٌ طَويلُ
أي: أنا عليل.
كما يكثر في الخوف من فوات فرصة كقولنا للصياد : غزال ...
3- تيسير الإنكار عند الحاجة:
وذلك عندما يتكلم الإنسان بشيء قد تدعوه الحاجة إلى إنكاره فلا يصلح بالسند إليه كما إذا تحدث عن إنسان فقال : فاسق ظالم . . .
4- تعجيل المسرة بالمسنَد، نحو : دينار – ثروة ...
ويحذف المفعول عند البلاغيين لأغراض كثيرة منها :
1- إرادة التعميم ، كما في قوله تعالى : ((وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ)) (يونس/25)
2- استهجان ذكره والتصريح به ، كما في قول السيدة عائشة رضي الله عنها: (( كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فما رأيت منه ولا رأى مني ))
3- عدم تعلق الغرض بذكره , وذلك كما في قوله تعالى : ((وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) )) (القصص)
سياقات الذكر :
يذكر المسند إليه لأغراض كثيرة منها :
1- زيادة التقرير والإيضاح كما في قوله تعالى: ((أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5))) (لقمان)
2- الرغبة في إطالة الكلام وبسطه كما في قوله تعالى : ((وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) )) (طه)
3- التلذذ بذكره وهذا يكثر في سياق الأحبة كما في قول الشاعر :
ألا ليت لبنى لم تكن لي خلة ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هي
4- قصد التسجيل على السامع حتى لا يتأتى له الإنكار.
وذلك كما يقول القاضي للشاهد : هل أقَرّ خالد هذا بأن عليه لمحمد كذا ؟ فيقول الشاهد : نعم خالد هذا أقر بأن عليه لمحمد كذا . . .