رابعا : فقه السياق الكلي والجزئي للنص :
سبق وأن تحدثنا عن السياق , وبينا أن الغفلة عن السياق تؤدي إلى الفهم الخاطئ للنص , وقد ذكرنا بعض الأمثلة على ذلك . . .
وحديثنا عن السياق هنا في بيان أثر السياق في معرفة النظم , وكيف إن اختلاف السياق يؤدي إلى اختلاف النظم , وأن الوقوف على سر التغاير في مشتبه النظم يرجع أولا إلى فقه السياق . . .
فإذا تلمست وجه التغاير بين قوله تعالى في سورة الأنعام: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5))، وبين قوله تعالى في سورة الشعراء : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)).
فقد ذكر (( سوف )) في الأنعام فأفاد تأخير العقوبات إلى زمن أبعد , إذ إن "سوف" أبعد في الاستقبال من السين , وذلك لمراعاة السياق العام لسورة الأنعام, والسياق الجزئي القريب من الآية. . .
ذلك أن السياق العام لسورة الأنعام مبني على تأخير الوعيد والعقوبات ويظهر ذلك جليا في السياقات الآتية:
- في قوله : (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ)(الأنعام/57) فناسب عدم الاستعجال ذكر (( سوف )) لأنها أمر في الاستقبال . .
- جائت (( سوف )) دون السين في موضع آخر من السورة وهو قوله : (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(135))(الأنعام) فذكر (( سوف )) ولم يذكر السين.
- قوله : (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ)(النعام/12) فذكر الرحمة هنا يتنافى مع تعجيل العقوبة، ثم قال: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وهذا يفيد تأخير العقوبة إلى يوم القيامة.
وهذا يخالف سياق سورة الشعراء , لأن السياق العام فيها في ذكر الأقوام الذين كذبوا أنبيائهم وعقوباتهم في الدنيا , كما في ذكر قوم نوح ولوط وعاد و شعيب ...
وهذا يناسبه مجيء السين : إشعارا لتعجيل العقوبة لهؤلاء القوم كما عجل للأقوام البائدة ..
أما ذكر ((الحق)) في الأنعام دون الشعراء فلمراعاة الجو التعبيري العام للنظم في الأنعام , فإنه تردد ذكر "الحق" في هذه السورة اثنتي عشر مرة, بينما لم ترد هذه اللفظة في سورة الشعراء ألبتة , فناسب ذكرها في سورة الأنعام دون الشعراء.
- وقد يختلف المشبه به تبعا لاختلاف السياق , ومن ذلك تشبيه أعمال الكافرين بالسراب في سورة النور ، قال تعالى
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)).
بينما شبهت أعمال الكافرين بالرماد في سورة إبراهيم ، قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ...(18)).
والسر في التشبيه بالسراب في النور _وهو مثل للخداع والوهم _ هو ملائمة حال المنافقين وتقولهم ...
والتشبيه بالرماد في سورة إبراهيم لأن التشبيه جاء متمما لوصف عذاب صاحب العمل ... قال تعالى: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17))(إبراهيم) فجاء التشبيه متمما لبيان العذاب , وهو يتلاقى مع ما صارت إليه أعمالهم من الاحتراق والتبديد والضياع . . .
كما أن الرماد مثل للموت والضياع وهذا يلائم السياق الدال على الاحتراق في النار , بخلاف ما في النور ، فالسراب يلائم حال المنافق وخداعه للمسلمين .
- وقد تختلف صفة المشبه به تبعا لاختلاف السياق كما في قوله تعالى في تصوير هلاك عاد : (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(20)) في سورة القمر , بينما جاء وصف النخل (( خاوية )) في قوله : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7)) في سورة الحاقة.
فانظر كيف اختلفت صفة المشبه به مع الاتفاق في المشبه والمشبه به, ومرجع هذا الاختلاف إلى سياق كل موضع .
ذلك لأن السياق في (( القمر )) في وصف بداية الهلاك , حيث أريد تصوير وقت دفع الريح لهم وإلقائهم على وجوههم , تدبر قوله : (تَنْزِعُ النَّاسَ) قبل التشبيه مباشرة تجد ذلك , ولذا شبهوا بالنخل المنقعر، أي : الذي قلع من قعره فألقي على الأرض . . .
بينما السياق في سورة الحاقة لتصوير الهلاك , وما آل إليه أمرهم تدبر قوله : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى) تجد أن الغرض هو تصوير الفَناء والهلاك , ولذا شبهوا بالنخل الخاوية , أي التي نخرت فيها الرياح حتى خلت من الحياة. . .
خامسا: التناسب بين ألفاظ النص وجمله ومقاطعه:
اعلم أن أساس النظم ودعامته مبني على اتحاد أجزاء الكلام ودخول بعضها في بعض واشتداد ارتباط ثان بأول . وهذا هو النمط العالي عند الإمام عبد القاهر حيث يقول:
"واعلم مما هو أصل أن يدق النظر ويغمض المسلك . أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها ببعض ويشتد ارتباط ثان بأول . وأن نحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا . وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه ههنا في حال ما يضع يساره هناك"
وتلك النظرة الكلية في النص في تناسب ألفاظه ومقاطعه شيء مركوز في الطباع عند النقاد القدامى ، حتى عدوا ذلك من عمود الشعر . كما هو عند المرزوقي في التحام أجزاء النظم والتئامه.
وقد فسر ذلك بأن تكون القصيدة منه كالبيت والبيت كالكلمة سبكا لأجزائه وتقاربا وألا يكون كما قيل فيه :
وشعر كبعر الكبش فرق بينه لسانُ دعيّ في القريض دخيل
وكما قال خلف:
وبعض قريض القوم أولاد علة يكون لسان الناطق المتحفظ
ذلك أن أبناء العلات هم بنو رجل واحد ومن أمهات شتى ، وهذا عيب في الشعر ، وكأن العلاقة في هذه الأبيات المعيبة وان كانت علاقة الأخ بأخيه لأبيه فإنها ليست هي العلاقة التي يرضاها أهل الصناعة إذ لابد أن تكون العلاقة نابعة من رحم واحد ، ربى كليهما ونماه نفس واحد وحِجر واحد وغذاه ثدي واحد، هذه هي العلاقة الحميمة التي يرضاها النقاد بين أجزاء القصيدة.
والناظر في التناسب بين أجزاء العمل يجد أنه يدور حول أمور ثلاثة :
1- التناسب اللفظي والمعنوي بين المفردات.
2- تناسب الجمل وتلاؤمها.
3- تناسب مقاطع النص .
أولا : التناسب اللفظي والمعنوي بين المفردات:
أما التناسب اللفظي فهو أن توضع الألفاظ في النظم لمراعاة لفظها وجرها حيث ترى تتابع الألفاظ في النظم للدلالة على غرض يقصد المتكلم ، ألا ترى تعمد التكرار في بيت الأعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني شاو مشل شلول شلشل شول
وكيف صور حديث السكارى المتخبط المتعثر المختلط ، وكيف أفادت هذه الموسيقى المتتابعة حكاية مشيتهم على غير هدى واستقامة وهم غادون إلى الحانوت . والحانوت : مكان بيع الخمر وشربه.
وهكذا تجد القران الكريم يراعي هذا الجانب في إبراز التناسب ، ألا ترى قوله تعالى: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ(85))(يوسف)
كيف أتى سبحانه بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها (تالله) ، فإن (والله ) و(بالله) أكثر استعمالا واعرف عند العامة من (تالله) لما كان الفعل الذي جاوز القسم أغرب الصيغ في بابه. فإن كان وأخواتها أكثر استعمالا من ( تفتأ ) وأعرف عند العامة ، ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك وهي لفظة (الحرض).
وقد نظر علماء المتشابه القرآني إلى التناسب اللفظي فعللوا به كثيرا من تشبه النظم القرآني . ألا ترى كيف نبهوا إلى اختيار (فزع) في سورة النمل في قوله تعالى
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(النمل/87)لموافقتها لقوله تعالى: (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89))(النمل) بينما آثر (صَعِقَ) في سورة الزمر في قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(الزمر/68)موافقة لقوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)))(الزمر) لان معنى (الصعق) الموت .
أما التناسب المعنوي فمبني على أن يكون اللفظ ملائما للمراد منه، فالسخيف للسخيف ،والخفيف للخفيف فلكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء ،كما ذكر الجاحظ.
وهكذا فإذا كان موضع الحديث على أنه مضحك وملهٍ وداخل في باب المزاح والطيب فاستعملت فيه الإغراب أزلته عن جهته . ألا ترى كيف أثر النظم القرآني لكلمة (ضِيزَى) مع غرابتها وبعدها عن استحسان الأذان لها. وكونها دالة على معنى فوق الجود والظلم، وذلك في قوله تعالى: ( تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)) (النجم)إذ المراد الدلالة على قبح قسمتهم تلك فدل بهذا اللفظ على ذاك.
وقد يكون للفظ وجهان في الاستعمال ، فيأتي النظم بأحدهما لإدارة معنى منه لا يأتي في غيره. وذلك كما في قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)(آل عمران/96) حيث لم يستعمل اللفظ المعروف (مكة) لشهرته وشيوعه. ذلك أنه أراد معنى لا يأتي في (مكة)، إذ (البكُّ) فيه معنى الزحام ، لأن الناس يزدحمون فيه للطواف . وهذا يتلاءم مع الحديث عن الحج في الآية التي بعدها (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(آل عمران/97) فجاء بالاسم (بكة) من لفظ (البك) الدال على الزحام لأنه في الحج يبك الناس بعضهم بعضا، أي: يزاحم بعضهم بعضا.
ثانيا : تناسب الجمل وتلاؤمها :
أما تناسب الجمل بين أجزاء النص ، فقد نص الإمام عبد القاهر الجرجاني على ذلك حين ذكر أنه يجب أن يكون المحدث عنه في إحدى الجملتين بسبب من المحدث عنه في الأخرى، كذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشبيه والنظير أو النقيض للخبر عن الأول ، فلو قلت : "زيد طويل القامة وعمرو شاعر" كان خلفا من القول ، لأنه لا مشاكلة ولا تعلق بين طول القامة وبين الشعر ، ولهذا عاب النقاد على أبي تمام قوله :
لا والذي هو عالم أن النوى صبر وأن أبا الحسين كريم
إذ لا مناسبة بين مرارة النوى وكرم أبي الحسين ، ولا وجه لتمحل مناسبة بعيدة بينهما ، إذ لا تعلق لأحدهما بالآخر ، وليس يقتضي الحديث بهذا الحديث بذاك .
ولهذا من شروط العطف بالواو وجود مناسبة تسوغ هذا العطف . بل إن القوم تعدوا ذلك إلى بيان المناسبة في الفصل ، فذكروا أن ثمّ جامعا بين أطراف الكلام ذكرت الواو أو لم تذكر.
وهذه المناسبة ربما تخفى فتحتاج إلى مراجعة دقيقة ، لمقتضى القول وقرائن الأحوال ، ألا ترى كيف خفيت العلاقة واستغلقت ، على ابن جني حتى سأل عنها المتنبي في قوله :
وما كل من يهوى يعف إذا خلا عفافي ويرضى الحِب والخيل تلتقي
حيث لم يجد مناسبة بين ذكر الحرب والتقاء الخيل ، وبين ذكر الحِب والعفاف فيه .. فأجابه المتنبي : بأن المرأة من العرب تريد من صاحبها أن يكون مقداما في الحرب فترضى حينئذ عنه.
ثالثا : تناسب مقاطع النص :
وهذا أصل مهم في النظرة الكلية إلى النظم .. ليس على أساس مفرداته وجمله فقط ، ولكن على اعتبار تكامل بنائه وإن تعددت أغراضه ، وتنوعت طرائقه .
وبهذا يكون العمل كله وحدة مترابطة متكاملة ، فتصير القصيدة كالبيت ، والبيت كالكلمة.
وبهذا تدرك كيف تترابط أجزاء القصيدة وتمتد وتنمو ، ولا تبتعد عن الأصل الذي يربط أجزاءها ، ويقوم لبناتها .
فإذا تدبرت معلقة امرئ القيس (قفا نبك) تجدها تتمدد وتنمو من قوله : (ذكرى حبيب ومنزل) فكل ما قصه علينا وأرانا إياه من صور ووقائع أو خيال وأوهام .. إنما هو ذكرى حبيب .
فإذا نظرت إلى تعدد مقاطع القرآن وتنوع أغراضه .. ثم أدرت نظرة على تلاؤمها وتناسبها .. وجدت عجبا .. حيث تراه كأنه أفرغ في قالب واحد ووضع وضعا واحدا متماسكا .
وأصل هذا ما قرره الزجاج من أن القرآن الكريم كله كالسورة الواحدة ، ولذا تتآلف مقاطعه وإن تعددت أغراضها .. ألا ترى كيف وضع الأمر بالمحافظة على الصلاة بين أحكام الأسرة في قوله تعالى : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238))(البقرة)، حيث جاء بين الحديث عن الأسرة وبيان عدة المتوفى عنها زوجها وذلك للدلالة على تكامل الحياة في جوانبها المختلفة ، فطاعته سبحانه في جوانب الأسرة تعدل طاعته سبحانه في الأمر بالصلاة ..
وكذلك تجد النهي عن أكل الربا ، والأمر بالنفقة في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(آل عمران/130) بيّن الحديث عن أحداث غزوة أحد .. وذلك للصلة بينهما ، حيث كان السبب الأكبر وراء هزيمة المسلمين في أحد استيلاء الطمع على قلوبهم وقت الظفرة والنصر .. ولهذا ترك الرماة أماكنهم طمعا في الغنائم ..
سادسا: مراعات ثقة الكلمة ومدى دلالتها على الغرض المراد :
وهذا باب عظيم في التحليل البلاغي فإنك ترى به الكلمة الواحدة تحسن بحسب دقه بنائها كأن تكون اسما أو فعلا . مفردة أو جمعا . ثم بمراعات مادتها من بين أخواتها الشبيهة بها في النظم . أو في مناسبتها وملاءمتها لجاراتها حيث تجد غرابتها أو ثقلها وخفتها متناغما مع نظم الكلمة ثم تراها تقبح إذا لم تكن كذلك.
وهكذا تكون المفردة في داخل البناء التركيبي لبنة العمل الفني كله. حيث تقوم بدور رئيسي في بيان الغرض المراد من الكلام وملاءمته النظم لذلك. هذا عمود البلاغة عند الخطابي ، إذ تظهر في وضع كل كلمة في موضعها الأخص الأشكل بها ، الذي إذا أبدل مكانها غيرها جاء منه إما تبدّل المعنى أو سقوط البلاغة .
كما أن عمود نظرية النظم عند الإمام عبد القاهر قائم على أن يكون اللفظ أخص بالمعنى وأكشف عنه وأتم له . لأن النظم عنده ليس إلا في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها .
1_ ولهذا ترى النظم القرآني يؤثر الكلمة على بقية أخواتها لخصيصة زائدة فيها ، فترى فرقا بين النظر والبصر والرؤية ، حيث يستعمل النظر في طلب ظهور الشيء ولذا يقال :
نظرت فلم أر شيئا ، إذ هو تقليب الحدقة في المرأى، لهذا يستعمل في القرآن الكريم منفيا أثره من الرؤية ، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(الأعراف/198) فذلك نظر عن يتحر دال على قله الغناء .
وهذا خلاف الرؤية فإنها إدراك المرأى والإحاطة به إذ كل رؤية تكون لمحدود أو قائم في محدود .
ولهذا كان البصر اسما للرؤية ، إذ يطلق على العلم بالشيء إذا كان جليا حتى كأنك تراه يقال: لك فيه بصرا ، يراد أنك تعلمه كما يراه غيرك .
2_ وقد تكون دقة الكلمة في اختيار بنيتها حيث ترى التعبير بالاسم يغاير الفعل، بيان ذلك : أن الاسم موضوع على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا فشيئا، أما الفعل فموضوعه على أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء .
وعلى ذلك تجد التعبير في الاسم في قول جوبه بن النفر :
لا يألف الدرهم المضروب فرقتنا لكن يمر عليها وهو منطلق
فهذا هو الحسن اللائق بالمعنى ، ولو قلته بالفعل (لكن يمر عليه وهو منطلق) لم يحسن .
وهذا بخلاف التعبير بالفعل (ينطلق) فأنه يدل على حدوث الانطلاق وتجدده وهذا دون ذاك.
ولهذا تجد القرآن الكريم يؤثر الفعل عند إرادة تكرار الحدث وتجدده آناً فآناً، فإذا نظرت إلى الحدث المتجدد تجده كثيرا ما يأتي الفعل المضارع لأنه يلائم ذلك، انظر إلى التعبير عند الإنفاق تجده في الذكر الحكيم في صورة الفعل المضارع (ينفق) وما ذاك إلا لأن الإنفاق يتكرر ويحدث، ومن ذلك قوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)(آل عمران/134) وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)(البقرة/274) فهكذا لم يأت الاسم إلا في موضع واحد في قوله تعالى: (وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ(17))(آل عمران).
وقد تجد القرآن يخالف في الموضع الواحد بين النظمين لإرادة معني دقيق من كلٍ، ألا ترى قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ(193))(الأعراف) حيث جاء بالفعل في (أدعوتموهم) ثم عدل عنه إلى الاسم في قوله (صامتون ) ولم يقل (أصمتم) وذلك لقصد المبالغة في عدم إفادة الدعاء ، لدلالة الاسم على الثبات .
3- وقد تكون دقة الكلمة في تغيير جمعها أو وزنها . لإرادة وجه معين من الكلام ، ومن ذلك ( عين ) تجمع على (عيون) لإرادة عيون الماء ، كما في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45))(الحجر) وقوله تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25))(الدخان)
بينما تجد (أعين) عند إرادة الجارحة (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)(التوبة/92)، (قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(السجدة/17)، وغير ذلك كثير .
والسر في ذلك إرادة الكثرة في عيون الماء ، إذ التكثير ظاهر في سياق كل آية ظهوراً بيانياً .
وإرادة الكثرة في جميع مواضع ( عيون ) استدعى جمع (عين) على (عيون) , في (عيون الماء) واختصاصها بذلك ، وهذا يقتضي جمع (عين) في الباصرة على (أعين) جمع قلة حتى لا تختلط دلالة الجمعين على المراد من كل منهما .
4- وقد تختلف صيغة الفعل بين الصعوبة والثقل والخفة والسهولة نظراً للغرض المراد منها , ومن ذلك قوله تعالى : (فَأَنْزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ(22))(الحجر)، تجد أن (أسقيناكموه) ثقيلة على اللسان بينما جاءت بصيغة أخرى فيها خفة وسهولة في قوله تعالى : (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا(21))(الإنسان) فقوله : (وسقاهم) فيها من الخفة والسهولة ما فيها ، وذلك لاختلاف السقي في الموضعين :
فالسقي في الآية الأولى في السقي في الدنيا وهو يحتاج إلى تعمل وتكلف في إحداثه ، بخلاف الآية الثانية فهي في السقي في الجنة _ أكرمنا الله بها _ وهو من الخفة والسهولة والسلاسة بما لا يوصف .
سابعاً : تجلية المقام والإحاطة به :
والمقام يقابل الحال عند البالغين في تعريفهم للبلاغة بأنها : مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته.
والحال هو الذي يقتضي نظماً يتلاءم معه ويتطلبه, ألا ترى أن مقام المدح يقتضي نظماً يخالف غيره من مقام الفخر .
فمقام المدح مثلاً يقتضي من المتكلم أن يخرج صفات الممدوح على أنها أمر مسلم به، لا شك فيها ولا جدال ولا إنكار ، وأن هذه الصفات الحسنة لشهرتها عند الخاصة والعامة صارت من الأمور البديهية .
كما أن مقام الفخر القبلي يستلزم نظماً وبناءً يلائمه من بنائه على ضمير الجماعة (نا) والمبالغة في تمجيد القبيلة وخصالها , ألا ترى معلقة عمرو بن كلثوم وكيف كثر فيها ضمير الجماعة .
وهذا البناء يختلف عندما يكون الفخر ذاتياً يفتخر فيه الشاعر بذاته ويـمجد نفسه، فيقول فيها ما يحب وما يهوى ، وذلك كما ترى في معلقة عنترة، إذ ترى ضمير الإفراد يشيع فيها.
كذلك تجد الرثاء يستلزم بناءً يلائمه ويتطلبه ، سواء في بنية الكلمات داخل القصيدة أو في تركيبه ونظمه ، فترى تكرار اسم المرثي نظماً مطرداً ، فيه زيادة في اللوعة والحسرة .
ترى هذا ينافي رثاء الخنساء لأخيها صخر ، حيث كررت اسم صخر تلهفاً عليه وحسرة .. انظر إلى قولها :
إن صخرا لكافينا وسيدنا إن صخراً إذا نشتوا النحار
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
تجد لتكرار اسم صخر معنى خاص بها ، حين تدرك أن التي تكرره أخت موجوعة نادبة أخا كان حامي العشيرة وسيد قومهم ، وكان باراً بها أبلغ بر ، فكأنها وهي تكرر اسمه تندب فيه تلك الخصال الكريمة والشمائل الحميدة ..
والغفلة عن مقتضيات الأحوال واختلاف المقامات وما يستلزم عنه من تطبيق القواعد البلاغية على ظاهرها .. توقع فيه الزلل والخطأ في الحكم على النص، وذلك أن اختلاف المتكلمين وما يتبع ذلك من اختلاف أحوالهم ونفوسهم ... يلزم منه اختلاف القول والنظم وإن كان المعنى العام واحداً..
إلا ترى أن مدح زهير يختلف عن مدح النابغة، وأن غزل امرئ القيس يختلف عن غزل عنترة، وكذلك الأمر بين الشعراء جميعاً، تتعدد ضروب القول عندهم وتختلف تبعاً لاختلاف أحوالهم ونفسياتهم ومقامات الكلام عندهم ...
ولهذا تجد الخطأ بيناً ظاهراً في تعميم المقاييس البلاغية على مختلف الشعراء في مختلف الأزمان لأن تعميم المقياس الواحد ينافي اختلاف الأحوال والمقامات ...
ألا ترى كيف أخطأ ابن سنان الخفاجي حين عاب على عروة قوله :
وقلت لقوم في الكنيف تروحوا عشية بتنا عندما وان رُزّح
مع علمه بأن عروة جاهلي وأن كلمة (الكنيف) كانت مستعمله في الجاهلية بما يرادف الحديقة من الأشجار، ومع هذا عابه لأنه استخدم كلمة قبيحة في السمع تكرهها الأذن ويعافها السمع .
وهذا خطأ محض لان ذلك قد نشأ من تغير دلالي للكلمة في العصر العباسي ، فصارت قبيحة الاستعمال فيه ، ولكن تعميم ذلك المقياس هو الذي أوقعه في الزلل ..
ولهذا تجد اختلاف المقام أصلا مهما عند علماء المتشابه في توجيه الاختلاف بين تراكيب المتشابه ، والنظوم المتقاربة .
ثامنا : المقارنة بين ما عليه النظم وما يحتمله في تحقيق الغرض المراد
وهذا أصل مهم وباب عظيم في التحليل البلاغي , حيث إن إجراء مقارنة بين النظم الذي تحللُه وما يحتمله من نظوم متشابهه في إبراز الغرض المراد من الكلام والكشف عن مقتضيات الأحوال يدل على مدى بلاغة المتكلم ومراتبه فيها ...
فالكلام البليغ هو الذي وضع فيه التركيب وضعا لأداء المعنى المراد للمتكلم بحيث إذا أبدلت مكانه غيره تبدل المعنى أو سقطت البلاغة . . . .
وكلما كان الكلام الموضوع دالا على الغرض المراد , ولم يكن غيره مهما دق فيه التغيير وقل مؤديا الغرض نفسه .. كان ذلك أدل على بلاغة القائل وبلوغه في القول حدا تنقطع دونه العقول ....
وهذا ما تراه في المنهج الذي سلكه الخطابي والرماني في إثبات الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم , إذ قارنا بين نظم القرآن وما يحتمله من وجوه في تحقيق الغرض المراد ... وبهذا بان فضل النظم القرآني على غيره ...
انظر إلى مقارنة الخطابي بين قوله تعالى : (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)(يوسف/17) وبين ما زعمه المعترض من أن المستعمل معه الفرس (( افترس )) وهو دق العنق , ثم استخلص منه أن عبارة القرآن أدل على الغرض المراد ؛ لأنها تدل على أن الذئب لم يترك منه شيئا , قليلا كان أو كثيرا , إذ لو قال (( فافترسه الذئب )) مثلا لطالبهم أبوه بباقي جسده , فكان قولهم ( فأكله) أدل على أنه لم يبق منه شيء ألبتة.
وكذا في قوله تعالى : (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29))(الحاقة) قارن بين ما عليه النظم (هلك) مع أن الهلاك يكون عادة مع الأعيان والأجساد, وبين (ذهب) أو ما يحتمله من معان . . . ثم بين فضل التعبير بـ (( هلك )) لأن الهلاك لا أمل معه في رجوع , بخلاف (ذهب) وما يشاكلها فإنها على أمل الرجوع ثانية.
وكذا إذا قارنت بين قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2))(الفاتحة) وبين ما يحتمله كأن يقال : المدح لله , أو الشكر لله , أو أحمد الله , أو لله الحمد أو الحمد للحي أو القادر أو العليم ...
وذلك لأن الحمد عام على الصفات الذاتية , والحمد لا يكون إلا للحي العاقل , ولذا أتبع الحمد بما يدل على استحقاقه ذلك لذاته في قوله : ((لله)) ولتفضله وإنعامه في قوله : (رَبِّ الْعَالَمِينَ) لما يفيده لفظ الرب من الإنعام والإحسان ..
وهذا بخلاف الشكر أو المدح فإنهما لا يستلزمان ما ذكرت إذ الشكر يكون على تقدم إنعام , والمدح قد يكون للجماد ... وهذان المعنيان يتناقضان مع إتباع الحمد بقوله : (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ثم ترى بناء الجملة على معنى العموم والثبات والدوام أدل على الغرض المراد من أحمد أو محمد .....
ومن ذلك قوله تعالى: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112))(النحل) فقوله ((فأذاقها )) أبلغ من لو قال : فكساها الله لباس الجوع والخوف , وذلك لأن الإدراك بالذوق يستلزم الإدراك باللمس من غير عكس , فكان في الإذاقة إشعار بشدة الإصابة بخلاف الكسوة ...
وكذلك تجدها أبلغ من أن لو قيل : فأذاقها الله طعم الجوع والخوف , ذلك لأن الطعم وأن لاءم الإذاقة , فهو مفوت لما يفيده لفظ اللباس من بيان أن الجوع والخوف عمّ أثرهما جميع البدن عموم الملابس.
تاسعا : النظر إلى العوامل الخارجية المحيطة بالنص :
وذلك كأسباب النزول في الذكر الحكيم , ومحركات القول وبواعثه وما أحاط به من عوامل , وما لابسه من وقائع , فإن هذه في العمل الأدبي إضاءات كاشفة عن الغرض المراد منه , وبيان كاشف لسلوك نظم الكلام على نسق يختلف عن نظيره عند غيره.
ودراسة تلك العوامل المؤثرة في القول عند التحليل ذات أثر في إصابة القول فيه وتحليل مقاصده ومبانيه . . .
ألا ترى أن مرحلة تاريخية عند الشاعر تقتضي معاني ومباني لكلامه لا تجدها عنده في المرحلة الأولى...
فإذا نظرت إلى المتنبي تجد الإغراب في شعره في مرحلته المبكرة جليا واضحا , حيث ترى الغريب في شعره مرتبطا بعوامل خارجية يمكن حصرها فيما يأتي :
1- إذا رجز، كأنه يحاول أن يطول رؤبة والعجاج ويغير في وجوههما، فتأتي أراجيزه حافلة بكل غريب غليظ ممعن في الغرابة . .
2- إذا مدح، أمثال سيف الدولة , لاسيما في أول اتصاله به حيث الشعراء متوافرون على بابه .. فيأتي بالمعاني الدقاق والألفاظ الغريبة للاحتفال والاحتشاد واستنباط القريحة .
3- كذلك يحتفل بالغريب في صباه , وأوائل شعره , فيقتفي أثر شعراء الصنعة فيحتذي أثرهم , ويكثر من الغريب..
وقد ترى في التطور الزمني وما ينشأ عنه من غرابة بعض التشبيهات أو استقباح بعضها وما في ذلك من دلالات متعددة ومتنوعة .. عاملا خارجيا محيطا بالنص يستلزم معه نظرا دقيقا ووجها لطيفا..
ألا ترى كيف استقبح لفظ الكنيف في العصر العباسي , وقد كان مستعملا في الجاهلية فيما يعني الحديقة من الأشجار , وكان هذا شائعا مستفيضا , انظر إلى قول عروة بن الورد :
قلت لقوم في الكنيف تروحوا عشية بتنا عندما وان رُزّح
ثم تطورت دلالتها إلى الآبار ...
فينبغي للناظر في مثل هذا أن يعتبر العصر الذي قيلت فيه , ولا يركن إلى ما تطورت إليه وآلت نحوه. . .
ومن الأمور الخارجة عن النص الخصومات التي قد تكون بين القائل والناقد , فالناظر في تحليل النصوص يحتاج إلى معرفة الخصومات الأدبية والعلمية بين منشئ النص وناقديه , ألا ترى كيف غير الصاحب بن عباد قافية المتنبي في قوله:
إني على شغفي بما في خمرها لأعف عما في سرابيلاتها
إلى قوله:
أني على شغفي بما في خمرها لأعف عما في سراويلاتها
ومن ثم عاب عليه تلك الكناية بقوله : (وكانت الشعراء لا تصف المآذر تنـزيها لألفاظها عما يستبشع ذكره , حتى تخطى هذا الشاعر إلى التصريح الذي لا يهتدي إليه غيره فقال:
إني على شغفي ............ ................. البيت
وكثير من العمر أحسن من عفافه هذا) .
وقد تجد الإحاطة بالأحداث التاريخية ما يعين على إبراز الغرض المراد من النظم لاسيما عندما يكون الكلام مصورا لها... ألا ترى كيف وقع خوف وجوع عظيمان لقريش فالخوف العظيم في عام الفيل .. حتى تركوا ديارهم وخرجوا إلى الجبال فلا طاقة لهم بأبرهة وجيشه ... والجوع العظيم الذي ذكره المؤرخون فوصفوا شدته . . .
ومن ثم تجد في التنكير في قوله تعالى : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4))(قريش)
معنى التعظيم بينًا فالغرض إلى تذكيرهم بالجوع والخوف الشديد حتى تكون المنة عليهم أعظم ، ولهذا تجد تقابلا بين ما ذكر هنا وبين قصة حادث الفيل في السورة السابقة، إشارة إلى الأمن بعد الخوف والإطعام بعد الجوع ...