الأسلوب وعلم اللغة
قبل أن نتحدث عن الأسلوب في تراث علماء العرب , و نتبين إلى أي مدى كان مصطلح الأسلوب معروفا عندهم ينبغي أن نتوقف عند بعض الدعاوى والمزاعم التي تزعم أن مصطلح الأسلوب أو علم الأسلوب ظل مرتبطا بعلم اللغة العام ولم ينفصل عنه إلا في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين على يد العالم السويسري "فرديناند سوسير" ، ت 1913م.
حيث ذكروا أن "دي سوسير" فرق بين علم اللغة وعلم الأسلوب ثم جاء تلامذته من بعده وتم على أيديهم الفصل التام بين علمي اللغة والأسلوب.
والأساس الذي قيل : إن "دي سوسير" وضعه في التفرقة بين علم اللغة العام وعلم الأسلوب هو :
- إن علم اللغة يدرس على أنه نظام مجرد , أما علماء الأسلوب فيدرسون الكلام على أنه تنوعات في إطار النظام اللغوي.
- علماء اللغة يميلون في دراساتهم إلى التعميم . أما علماء الأسلوب فإنهم يميلون إلى التخصيص.
- علماء اللغة يهتمون بإبراز قدرة اللغة على التعبير , أما علماء الأسلوب فإنهم يهتمون بالأداء العملي للغة.
وهذه الأشياء توحي بأن "دي سوسير" يجعل علم اللغة خاصًا بالوقوف عند المعاني المعجمية قبل أن تصاغ في جمل وتراكيب...
أما الأسلوب فهو التنوعات أو الأجناس الأدبية أو المقالات والمصنفات العلمية , وهي بالنسبة إلى الألفاظ كالصناعة التي أخذت الخامات الأولية (الألفاظ) وكونت منها جملا وفقرات وأساليب
إذن فاللغة كما يرى "دي سوسير" رموز ومعان مبهمة عامة , أما الأسلوب فهو الكلام المؤلف من تلك الألفاظ التي صارت تدل على معان محددة من خلال التركيب ..
فالبحتري – مثلا- حين أثنى على الربيع بقوله:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
أخذ من اللغة (( أتى )) بمعنى أقبل , وأسندها إلى الربيع , فصار الإتيان معنىً خاصًا محددًا ؛ لأنه هنا إتيان الربيع , بعد أن كان معنى عامًا مبهما في الدلالة المعجمية . . . .
وتطبيق نظرية "دي سوسير" تقول : إن عالم اللغة يهتم بالبحث عن معاني المفردات التي استعملها الشاعر في إطارها العام ؛ أما عالم الأسلوب فيتجاوز تلك المرحلة ويقف أمام المعاني المرادة للشاعر في هذه التراكيب بعينها , وبما بين هذه الألفاظ من علاقات , و ما يترتب عليها من معاني خاصة حسبما أراد الشاعر منها , وهل وُفِّق الشاعر في الإفصاح عن مشاعره . . .
هذا ما عزوه لـ"دي سوسير" مع إضافات أخرى لبعض تلاميذه , توضح المقصود من علم الأسلوب.
ولكن هل نسلم لهذه الدعوى , وأن "دي سوسير" هو أول من فرق بين علم اللغة وعلم الأسلوب ؟
الحقيقة إن هذه الدعوى مبالغة لا سند لها , بل إن الذي ينظر في تاريخ علوم العربية يجد أن الفصل بين علم اللغة وعلم الأسلوب ظاهر في كثير من مؤلفات علماء القرون الأولى.
إذ بدأت حركت تدوين العلوم العربية في عصر مبكر , وكانت حركت التدوين متخصصة في أغلب ميادين العلوم.
نعم بدأت حركة تدوين العلوم متخصصة غير مختلطة , فمثلا كتاب سيبويه كان مختصا بمسائل النحو والصرف والقراءات وشذرات قليلة من علم المعان.
وكتاب "العين" للخليل بن أحمد كان باكورة التدوين في المعجمات العربية , ثم تلاه كتاب "الجيم" للشيباني . . . ثم توالت بعد ذلك حركة التأليف المعجمي .
وكتاب "تأويل مشكل القرآن" و "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة كانا من أشهر ما عرف مبكرًا في تأويل النصوص , والتمهيد لاتساع البحث البلاغي في القرآن والسنة بصفة خاصة , والتراث اللغوي بصفة عامة .
وفي مجال الأدب و النقد ظهر كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ وكتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن لابن سلام الجمحي وكتاب "نقد الشعر" لقدامة بن جعفر, وكتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة . . .
وفي مجال علم اللغة ظهر كتاب "الخصائص" لابن جني , و"الصاحبي في فقه اللغة" و "مقاييس اللغة" لابن فارس , و "فقه اللغة" للثعالبي . . .
وهكذا في بقية العلوم , كان التأليف ينحو إلى التخصص بل , والتخصص الدقيق . . .
وعلى ذلك فليس "دي سوسير" هو الذي فصل بين علم اللغة وعلم الأسلوب بل الفصل بينهما قائم منذ القدم. (ينظر: علم الأسلوب د/ المطعني 21 -29 بتصرف)
وهذا يجرنا إلى التأمل في مؤلفات العلماء لنتعرف على نظرتهم للأسلوب .