علم الأسلوب ( تعريفه وأنواعه )
تعريف الأسلوب :
قبل الخوض في علم الأسلوب , وبيان الأسس والقواعد التي يقوم عليها هذا العلم , وبيان كيفية تطبيق هذا العلم على النصوص المراد تحليلها , وبيان مالها وما عليها . . .
قبل هذا كله يجب أن نعرف معنى الأسلوب , وتطور الحديث عن الأسلوب عند العلماء الأوائل . . .
الأسلوب لغة :
كلمة أسلوب تدور في اللغة حول عدة معان , فقد جاء في لسان العرب : ((يقال للسَّطْر من النخيل: أُسْلوبٌ. وكلُّ طريقٍ ممتدٍّ، فهو أُسلوبٌ.قال: الأُسْلوبُ الطريق، والوجهُ، والـمَذْهَبُ؛ يقال: أَنتم في أُسْلُوبِ سُوءٍ، ويُجمَعُ أَسالِـيبَ. والأُسْلُوبُ: الطريقُ تأْخذ فيه.
والأُسْلوبُ، بالضم: الفَنُّ؛ يقال: أَخَذ فلانٌ في أَسالِـيبَ من القول أَي أَفانِـينَ منه؛ وإِنَّ أَنْفَه لفي أُسْلُوبٍ إِذا كان مُتكبِّراً )).
ويقول الزمخشري : (( سلكت أسلوب فلان : طريقته وكلامه على أساليب حسنة . . . ومن المجاز . . . . يقال للمتكبر أنفه في أسلوب إذا لم يلتفت يمنة ولا يسرة . . . ))
وفي الوسيط : (( يقال : سلكت أسلوب فلان في كذا ؛ طريقته ومذهبه , وطريقة الكاتب في كتابته))
والذي ينظر في هذه المعاني اللغوية يتبين له أمران :
الأول: أن الأسلوب في كلام العرب يطلق على الاتجاهات الحية والمعنوية , والشكلية .. فسطر النخيل , شيء حي مدرك بحاسة البصر , وحاسة اللمس , وكذا الطريق الممتد.
أما المعنوية فتتمثل في ربطها بأساليب القول وأفانينه , كما قالوا : سلكت أسلوب فلان . أي : طريقته وكلامه على أساليب حسنه , فالمذهب , والفن القولي والفكري كلها أمور عقلية ذهنية.
وأما الشكلية ففي الكتابة حيث يكنى عن المتكبر بأن أنفه في أسلوب , وهذا يرتبط بالشكل أي لا يلتفت يمينا أو يسارا. وهذا له صلة له بالطريق الممتد أي : يلتوي يمنة أو يسرة . . .
ومن المعلوم أن المعاني الحقيقية سابقة في الوضع اللغوي على المعاني المعنوية والمجازية وما في حكمها كالكتابة والتعريض ، فالمعنى الحقيقي وضع أولا , ثم حدث له شيء من التطور الدلالي فكانت المعاني الثانية كالمجاز والكتابة.
وهذه حقيقة لها ما يؤيدها في واقعنا المعاصر , فالقنبلة _ مثلا _ أطلقت أول ما أطلقت على نوع معين من السلاح المدمر , ثم طرأ عليها تطور دلالي فأصبحت تطلق مجازا على الكلمة أو الخبر المذهل الذي يكون له دوي في الأذهان والمشاعر, فيقال : فلان أطلق قنبلة مدوية , إذا قال كلمة كان لها صدى كبير , أو أذاع صحفي خبرا غير عادي فحرك به المشاعر وشغل الأذهان .
(ينظر في ذلك : علم الأسلوب في الدراسات الأدبية والنقدية د.عبدالعظيم المطعني : مكتبة وهبة الطبعة الأولى 1422 هـ _ 2001 م البلاغة والأسلوبية د/ محمد عبد المطلب ص 9 ، 10)
الثاني : الصلة الوثيقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي على تعدد مستوياته . . . كما سيتضح بعد قليل .
تعريف الأسلوب اصطلاحا :
الأسلوب في الاصطلاح عرِّف بتعريفات متعددة , ولكنها – على كثرتها وتنوعها – تتقارب في مدلولاتها ... ومن ذلك :
1- أن الأسلوب هو : طريقة الأداء , أو طريقة التعبير التي يسلكها الأديب لتصوير ما في نفسه , أو لنقله إلى سواه بهذه العبارات اللغوية .. (ينظر : الأسلوب أحمد الشايب 44 مكتبة النهضة المصرية الطبعة السادسة 1966م )، أو هو الصورة اللفظية التي يعبر بها عن المعاني .
2- الأسلوب : هو الوسيلة اللازمة لنقل أو إظهار ما في نفس الأديب من معان (الأسلوب للشايب ص 12 ).
3- الأسلوب : دلالة على منحى محدد في هذا النشاط أو ذاك , يحمل قواعد وخصائص غيره عن غيره . (ينظر: الأسلوب والأسلوبية بين العلمانية والأدب الملتزم بالإسلام د/ عدنان على رضا النحوي ص71، دار النحوي للنشر والتوزيع, الأولى 1419هـ -1999م)
4- أو هو العبارة اللفظية المنسقة لأداء المعاني.
5- طريقة الكاتب أو الشاعر الخاصة في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام . (دفاع عن البلاغة ، أحمد حسن الزيات ط عالم الكتب ، مصر 1967م)
6- ويمكن أن نعرف الأسلوب تعريفا يجمع ما سبق فنقول : هو طريقة التعبير, باختيار الألفاظ المناسبة , لقصد الإيضاح وإيصال المعلوم , أو التأثير في الملتقى .
وهذا التعريف يشمل الأسلوب بنوعيه , العلمي , والأدبي ,فالعلمي يهدف إلى إيصال المعلومات المجردة إلى المتلقي , بينما الأسلوب الأدبي يهدف إلى التأثير في المتلقي.
والصلة بين هذه المعاني , وبين المعنى اللغوي واضحة , إذ السطر من النخيل يأخذ شكلا معينا , مستطيلا أو دائريا, وكذلك الطريق الممتد على الأرض , كالطرق الصحراوية وغيرها . . . فإن الأسلوب الفني أو طريقة التعبير تشبه الطرق المختلفة , فالشعر مثلا له أسسه وقواعده التي تلزم الذي يقوله بأسسه وقواعده من الالتزام بالوزن والقافية بحيث لا يحيد عنها , فكذا الطريق الممتد يلزم السائر فيه باتجاهه . . . ولذا يقال في النصح العام , سر أو در مع الطريق كيفما دار .
أنواع الأسلوب :
يتنوع الأسلوب إلى نوعين رئيسيين هما:الأسلوب العلمي , والأسلوب الأدبي , وكل منهما له أسسه وقواعده وخصائصه التي تميزه عن غيره . . .
وقبل الحديث عن كل من الأسلوب العلمي والأسلوب الأدبي ينبغي التعرض لبيان الأسباب التي تؤدي إلى تنوع الأساليب.
هذه الأسباب أشار إليها ابن قتيبة (ت276 هـ) حيث جعل تنوع الأساليب يرجع إلى اختلاف الموقف , ثم طبيعة الموضوع ثم مقدرة المتكلم وفنيته . (ينظر: البلاغة والأسلوبية ص12 تأويل مشكل القرآن ص 10 , 11 )
وهذا كلام صحيح فهذه الأشياء لها أثر واضح في تنوع الأساليب :
_ فاختلاف الموقف له أثره : فموقف الدفاع يختلف عن موقف الهجوم , وخطبة النكاح غير خطبة الحرب , وهذا يتلاقى مع ما قيل : لكل مقام مقال . والبلاغة مطابقة . .
_ اختلاف الموضوع : فموضوع المدح يختلف عن الهجاء , وعن الرثاء , وموضوع التهنئة يتطلب أسلوب يختلف عن أسلوب العزاء . . .
_ واختلاف المقدرة الفنية لدى المتحدث لها أثرها الواضح في تنوع الأساليب, فالمقدرة التعبيرية عند الأديب تختلف عن الرجل العادي , والأدباء يتفاوتون فيما بينهم . . .
أولا: الأسلوب العلمي :
هو الأسلوب الذي يهدف إلى إظهار حقائق العلوم والفنون , أيا كانت هذه العلوم : تاريخا أو فلسفة أو طبا أو رياضة أو هندسة أو كيمياء أو طبيعة أو فقها أو تفسيرا أو حديثا أو نحوا أو صرفا ... أو فلك أو جغرافيا .. فموضوع الأسلوب العلمي هو حقائق العلوم .
والكاتب في الأسلوب العلمي منهجه خبري , أي مخبر عن واقع يقيني أو محتمل , والخبر قيمته في صدقه , وجماله في صحة العبارة عنه.
والكاتب في الأسلوب العلمي مطالب بأن يلتزم بحقائق العلم الذي يتحدث عنه في أمانه ووضوح وجلاء . . . ولذا عليه أن يلتزم بعدة أمور وهي :
أولا: أن تكون ألفاظه وجمله وتراكيبه واضحة لا غموض فيها ولا احتيال .
ثانيا: أن يخاطب العقل والفكر .
ثالثا: أن الغاية عنده هي الإقناع بالحقائق التي يتحدث عنها , ولذا يكثر من الدلائل والبراهين التي تضع أمام العقل الحقيقة العلمية سالمة من الشك , بريئة من الطعن .
رابعا: أن تكون لغته بعيدة عن المجازات معتمدة على حقيقة اللغة.
وبالإضافة إلى ذلك يتسم الأسلوب العلمي بالهدوء بعيدا عن الإثارة والانفعال , كما يكثر في الأسلوب العلمي التقسيم والتبويب , والتنظيم , وسوق الحجج العقلية والمنطقية والقياس والتمثيل العلمي والاستقراء ... (ينظر: علم الأسلوب 14)
ومثال الأسلوب العلمي ما قيل في وصف الشمس : (( الشمس كوكب مضيء بذاته , وهي أعظم الكواكب المرئية لنا منظرا وأسطعها ضوءا , وأغزرها حرارة , وأجزلها نفعا للأرض التي نسكنها والشمس كرة متأججة نارا , حرارتها أشد من حرارة أي ساعور أرض , ويبلغ ثقلها ثلاثمائة وزن من ثقل الأرض , وهي أكبر منها جرما بثلاثمائة ألف وألف ألف مرة , وتدور الشمس على محورها من الغرب إلى الشرق مرة واحدة في نحو خمسة وعشرين يوما , وتبعد عنا بنحو اثنين وتسعين ألف ألف ميل و خمسمائة ألف ميل , وهي مع كل هذا العظم الهائل لا تعد من النجوم الكبرى , بل إن أكثر ما نشاهده من النجوم الثابتة شموس أكبر من الشمس بألوف , والشمس بسياراتها تابع من توابع أحدها )) (أحمد الاسكندري : نزهة القارئ 1/166 وينظر الشايب 50)
فالكاتب هنا حريص على إظهار الحقائق القيمة الدقيقة , والإكثار من الأرقام الحسابية التي تساعده على تقرير المعلومة بشكل دقيق . . .
ومن المعلوم أن الحقائق العلمية واحدة لا تختلف عند أمة عنها عند أمة أخرى ؛ ولذا فالأسلوب العلمي يتفاوت من كاتب لآخر ليس في الحقائق المعروضة , وإنما يتفاوت من حيث الوضوح والغموض , وسوق البراهين .
ثانيا : الأسلوب الأدبي :
هو الذي يعرض الأفكار بصورة أدبية جميلة لقصد التأثير في المتلقي .
والأسلوب الأدبي لا يقف عند حقائق العلوم , وإنما يتجاوز هذه الحقائق لينقل رؤية المتحدث لهذه الحقائق , فينقل إلينا أفكاره ومعارفه و رؤياه نحو الأشياء المختلفة.
ومثال الأسلوب الأدبي ما قيل في وصف الشمس : (( سل الشمس من رفعها نارا , ونصبها منارا , و ضربها دينارا , ومن علقها في الجو ساعة , يدب عقربها إلى قيام الساعة , ومن الذي أتاها معراجها , وهداها أدراجها , وأحلها أبراجها, ونقّل في سماء الدنيا لمسراجها ؟ الزمان هي سبب حصوله, و منشعب فروعه وأصوله , وكتابه بأجزائه وفصوله , ولد على ظهرها , ولعب على حجرها , وشاب في طاعتها وبرها , ولولاها ما انسقت أيامه , ولا انتظمت شهوره وأعوامه , ولا اختلف نوره وظلامه , ذهب الأصيل من مناجمها , والشفق يسيل من محاجمها , تحطمت القرون على قرنها , ولم يعلُ تطاولُ السنين بسنها , ولم يمح التقادم لمحة حسنها . . . )) (أسواق الذهب صـ2ـــ أحمد شوقي , الشايب 51 )
فهذا النص يتفق مع النص الأول في الموضوع , وهو وصف الشمس ولكن الاختلاف بينهما ظاهر.
فالأول وقف عند الحقائق والعبارات , وصاغ منها الأسلوب العقلي الخالص,
والثاني تجافى عن الحقائق التفصيلية الدقيقة كالأعداد والمقاييس ووقف عند رءوس الأفكار وأهمها :
تصوره لها على أنها أشياء جميلة لإعجابه بها , وصورها بخياله فكانت جميلة مؤثرة, فالشمس دينار مضروب , وساعة معلقة ، عقرباها الليل والنهار , وهي كتاب الزمن ومهده وأمه , وهذا الأصيل ذهب من مناجم الشمس , والشفق سائل من محاجمها . . . إلى غير ذلك من الصور والأخيلة التي جاءت في هذا الأسلوب .
ومثال وصف الشمس شعرا قول حافظ إبراهيم :
لاح منها حاجب للناظرين فنسوا بالليل وضاح الجبين
ومحت آياتُها آيتهُ وتبدت فتنة للعالمين
هي أم النار والنور معا هي أم الريح والماء المعين
هي طلع الروض نورا وجنىً هي نشر الورد طيب الياسمين
هي موت وحياة للورى وضلال وهدى للغابرين
وضاح الجبين : القمر . (ديوان حافظ 1/207)
فإلى جانب العاطفة والخيال نجد أسلوب الشعر يلتزم بالوزن والقافية , وهذا يعطيه نغما موسيقيا خاصا يميزه عن غيره .(ينظر : الشايب 51 ,52 )
ويمكن أن نتلمس الفرق بين الأسلوب العلمي والأسلوب الأدبي في النقاط التالية:
1_ الأسلوب العلمي يخاطب العقل وموضوعه الحقائق الثوابت أو المحتملة ,أما غايته فهي الإقناع. والأسلوب الأدبي يخاطب العاطفة , وموضوعه الأحاسيس التي يفيض بها وجدان الأديب و رؤاه الخاصة, وغايته الإمتاع.
2_ اللغة في الأسلوب العلمي: تعتمد على المعاني الوضعية وتحديد المعاني بكل دقة, وتنأى عن الزخارف , إطارها الهدوء والموضوعية . أما في الأسلوب الأدبي: فتميل اللغة إلى التصوير الخيالي بغية التأثير, وتفخيم العبارة في إطار دافئ يثير العواطف ويثري الوجدان , ويبعث في النفوس النشاط والحركة.
3_ الأسلوب العلمي : يدور في إطار محدد , لا يملك الخروج عنه. أما الأسلوب الأدبي : فله حرية واسعة يتنقل بين فنونها وأفنانها , ولذلك تختلف الرؤى الأدبية من أديب لآخر , بينما تكون الحقائق العلمية واحدة وإن اختلفت الطرق المؤدية إليها , والمناهج الكاشفة عنها .
4_ يعتمد الأسلوب العلمي على التبويب والتقسيم والتنظيم و الأرقام أحيانا . بينما يرتكز الأسلوب الأدبي على التصوير والخيال وتوليد الألفاظ معاني خاصة, مع التأنق في العبارة وسعة التصرف في التركيب .