الأسطورة في الشعر
تتعدد الآراء حول مفهوم الأسطورة وتختلف وجهات النظر فيها ومرد هذا إلى أن كل باحث في الأسطورة كان ينظر عليها من زاوية معينة ويقتصر على رؤية محددة فكان كل دارس يحدد مفهومها من خلال هذه النظرة وتلك الرؤية حتى أصبحت الآراء فيها تشكل خلافاً جوهرياً لا يمكن الجمع بينها والتوفيق بين تناقضاتها. فحين يرى بعضهم: أن الأساطير نتاج صبياني وأوهام وخيال مشوش، نجد آخرين يعدونها واحدة من أعمق منجزات الروح الإنسانية التي لم يفسدها الفحص العلمي ولا العقلية التحليلية(1).
وقد حاول بعض الباحثين أن يربط بين الأسطورة والجانب الديني والفكري فيها حين عدّها ( مرحلة بدائية من مراحل التفكير الميتافيزيقي، وأول تجسيد للأفكار العامة)(2).
والواضح من خلال النظر في كتابات الباحثين عن الأسطورة والمعاجم التي تفسر وتشرح للقارئ مضمونها أن الأسطورة قائمة على الخلط والمزج بين الدين والسحر، والتاريخ، والعلم، والخيال، والحلم، والحقيقة الواقعة ومن هنا عرفها بعضهم بأنها
حكاية عن كائنات تتجاوز تصورات العقل الموضوعي)(3)وهذا التجاوز للتصور العقلي ناتج عن تلك الخلطة العجيبة التي قامت الأسطورة على أساسها.
وقد يتساءل البعض ما الذي أعطى هذه الحكايات الأسطورية هذه الأهمية في الأدب مع ما فيها من سذاجة وتناقض ومخالفة للعقل والمنطق؟ إن الإجابة سهلة
حين نعلم أن الأسطورة مرتبطة بالدين والاعتقاد لدى أصحابها. وهذا ما يميزها عن الحكايات الخرافية التي لا تجد لها مستنداً دينياً وعقدياً في مجتمعها، وعليه فليس لها من الأهمية ما للأسطورة.
لقد استغل الأديب المعاصر هذه الأساطير وضمنها أدبه بعد أن تعرف عليها وفهم مضامينها حين نشر السير جيمس فريزر كتابه (الغصن الذهبي) الذي يعد المصدر الأول للأساطير في أدب هذا العصر، حيث أصبح منهلاً عذباً يرد عليه الشعراء وينهلون من معينه واجدين فيه ما يعينهم على بث أفكارهم ونشر آرائهم والتعبير عن عقائدهم ومواقفهم السياسية ومجابهة الواقع المعاش دون أن يتحمل أحدهم أدنى مسؤولية في مواقفه وآرائه تلك؛ لأن الأسطورة تقوم على مقام الرموز المركزة التي تثري التجربة الشعرية، وتمدها بالدماء، وتبث في عروقها الحياة. وعندما ننظر إلى بدايات استخدام الأسطورة وتوظيفها في العمل الشعري عند شعراء العربية نجدها بدايات ضعيفة باهتة لكنها في الوقت نفسه مهمة لأنها فتحت للشعراء مجالاً خصباً وطريقاً واسعاً للإفادة من هذه الأساطير المتعددة.
ويعد أصحاب مدرسة الديوان (العقاد و المازني) ومدرسة أبولو من أوائل من ضمن الأسطورة في أشعارهم، لكنه كان تضميناً بارداً لا يثير القارئ الذي يعيش في واقعٍ محتدم بالصراعات السياسية والفكرية المختلفة، ولا يثري واقع الحياة، ولا التجربة الشعرية عندهم . فقد كان استخدامهم للأسطورة قائماً على عرضها وتعريف القارئ بها، وإعادة صياغة قصتها، أو الإشارة العابرة لها والإفادة منها في تركيب الصورة الجزئية عند طريق التشبيه التقليدي .
وللقارئ الكريم أقدم مثالاً من استخدام الأسطورة عند العقاد حيث يقول في قصيدة بعنوان (ذكرى الأربعين) نظمها في تأبين سعد زغلول:
يتهـادى بينهم في وقفـةٍ يقف الملك لها والمالكون
إنه (زوس) على الوادي مشى يشهد الأرض سماء الخالدين
فقد وظف أسطورة (زوس) كبير الآلهة عند الإغريق - في زعمهم الفاسد- وحاكم مملكة السماء عند طريق تشبيه سعد زغلول به. وهذا توظيف بارد وباهت؛ لأنه قائم على مجرد التشبيه دون التوظيف المثري للتجربة الشعرية. إنه تشبيه تقليدي عرف في الشعر العربي منذ عصوره الأولى حيث لم يختلف إلا اسم المشبه به. ولا فرق أن نشبه الممدوح بحاتم، أو قس، أو صلاح الدين، أو غيرهم من الشخصيات المعروفة في التاريخ العربي، أو أن نستبدله بشخصية أسطورية.
وأخيراً لعله تتاح لنا فرصة أخرى لنتناول الأسطورة عند شعراء الحداثة، وكيف استطاعوا توظيفها في تحقيق أهدافهم، ونشر أفكارهم المنحرف
بقلم
إبراهيم عبد الله العتيق
المحاضر في كلية المعلمين في الرياض