[right]زوجة الفدائي
نظرت إليه بذعر وذهول، وهو ينبري إلى الداخل كالسهم، و اعتراها شعور غامض بأن شيئا
ما سيحدث ؛ وأزت رصاصات فوق السطح، فامتزج في صدرها الشهيق بالزفير وتمتمت :
- اللهم اجعله خيرا..
وقدم نحوها مزبّدا..
- أين هو؟
فقالت في دهشة :
- من؟
صرخ بحنق..
- الفدائي ..
- الفدائي؟!
وارتعدت فرا نصها..
- الفدائي ؟!
ولفّها نسيج من الحيرة والذهول، واصطدمت عيناها بقبعته الخضراء و ازداد ارتعادها فصرخ
في وجهها قائلا:
- أين هو؟
جابهته بصمت فأردف :
- قلت لك أين ذهب ؟
واصلت صمتها فدمدم:
- خبأته؟!
- كلا.
- ذهب إلى الجحيم؟!
- لست أدري .
- طار.. له جناحان ؟!
هزت رأسها بالنفي ..
- لم أره.
حدق في وجهها فخفضت عينيها، ثم قال:
- أتخشينه؟
- من؟
- الفدائي.
- كلا.
- فلماذا لا تقولين أين ذهب؟
- لم أر أحدا.
- لا تخافي.
- والله العظيم..
- سنحميك منه، لم الخوف إذن؟
ثم شجّعها أكثر:
- سنحميك منهم جميعا.
- لم أر أحدا .
جذبها بقوة وقال بحدّة:
- تكذبين؟..
- لا أكذب..
تأملها بعين فاحصة ثم قال:
- شاهدته يتجه إلى هنا .
- لقد رأيت البيت بنفسك..
احتواها بنظرة اشمئزاز، ثم همس:
- اسمعي، اسمعي.. إذا ساعدتنا فلن تندمي.
- و الله، لم أر أحدا.
- خذي إذن!
ورنت الصفعة على خدّها ، فاصطدم ظهرها بالجدار، وانبعث في أعماقها شهيق حاد.
فوجدت نفسها تبكي.. فقال:
- لعل هذا يعلمك شيئا من الصدق..
وهي تبكي:
- والله..
قاطعها بصوت حاد:
- ها قد عدنا إلى الكذب ثانية ..
أحسّت بأشباح سوداء تحوم حول رأسها وقالت :
- والله...
قال مهدّدا
- إياك والكذب هذه المرة !
وجعل يمرر يده على رأسها،، فارتعشت واشتدت ضربات قلبها، الخوف يكاد يشلّ أطرافها،
وقالت في قرارة نفسها: يا رب فوّت هذا اليوم بخير ... وقال:
- ماذا تقولين ؟
- لقد قلت لك.
- لم تقولي شيئا مفيدا
- لم أر أحدا..
انتفض بشدة:
- لم تري أحدا ، لم تري أحدا ...
ثم بلهجة غاضبة:
- لم تحفظي سوى هذه العبارة ..
- و الله لم أر أحدا.
- ملعونة..
ودفعها إلى الغرفة .. تعثرت بذيل ثوبها، فتدحرجت إلى الداخل، انتابها شعور بتعاسة
متشعبة، وتمنت الموت العاجل، و تحدّرت دموع حارة على وجنتيها.
نظر إلى الداخل .
- تعشين لوحدك؟
- نعم.
اصطدمت عيناه بمعطف رجالي، فأشار إليه بسبابته.
- إذن، فقد كنت كاذبة.
- أنا؟..
- عبثا تحاولين الإنكار ..
- و الله لم أقل إلا الحق.
يهز رأسه:
- تظنوننا مغفلين.
- والله ..
- اسمعي.
- نعم.
بلهجة هادئة:
- قولي بصراحة، مع من تعيشين؟
صمتت .. لم يحظ بجواب. ماذا تقول؟ غرقت في دوامة من الحيرة، فغيّر صيغة السؤال:
- متزوجة؟
انتفضت وقالت بدون تردد:
- نعم .
فقال بلهجة واعدة بالشرّ:
- أين زوجك؟
- الله أعلم.
- أحقّا لا تعلمين؟
- والله...
- تظنين أني أصدقك.
- لا أدري.
- أما أنا فأدري ..
فهل يدري حقا؟ وإذا كان يدري فلم يعذبني؟ وقال:
- كيف لا تدرين؟
- لأني لم أره..
- منذ متى؟
- منذ شهر وثمانية أيام..
- آه .. يعني قبل التمرد بأسبوع.
- لا أدري..
قهقه ثم قال:
- تعرفين ما معنى ذلك؟
- كلا.
فقال بغضب متزايد:
- هذا يعني أنه فدائي..
قالت منفعلة:
- كلا..
- هل عندك دليل؟
تذكرت ابتسامة زوجها سالم، وهو يخرج في ذلك الصباح، كانت مشبعة بالسعادة...هبّ
صفوة شباب البلدة لتلبية النداء، للذود عن الأرض، وقالوا: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
وقبل أن يخرج قبّل جبينها، و أوصاها بنفسها خيرا، وحينما ذهب، ظلّت تتابعه بنظرها إلى أن
توارى بين الأزقة.
- لماذا السكوت؟
- ماذا عساني أقول ؟
- تفكرين في كذبة جديدة؟
- لقد قلت لك الحقيقة.
- لا تجعليني أستخدم العنف.
- لا أدري..
- وزوجك ..
- ما له؟
- أين هو؟
- لا أعرف.
- فدائي ؟
- كلا
- كيف عرفت أنه غير فدائي؟!
نظرت إلى الأسفل،.. عندما انتهت المعارك عاد الكثيرون ولكنّه لم يعد، قلت في نفسي
سيعود ما دام الجميع عاد، ولما عاد جارنا تأكدت أنه سيأتي، ولكن زوجة جارنا قابلتني في صباح
اليوم الموالي، وهي تطأطئ رأسها فقلت:
- خيرا يا بنت عمور.؟
فردت بحزن:
- عظّم الله أجرك!
وصرخت بجزع:
- ماذا؟
وهززتها بقوة:
- قولي هل جرى لسالم شيء؟
فقالت مواسية:
- استشهد... استشهد في ميدان الشرف .
- مات سالم؟
فقالت بصوت مبحوح :
- « و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون »
أصابها ذهول، وانتابها حزن، وتردّد نعيق البوم والغربان، وغطت السماء سحب سوداء،
وهوت إلى الأرض، ثم لم تدر ماذا حدث ...
قال بسخرية:
- ... وراوده الشوق إليك فأتى!
صمتت فاستمرّ
- ولكنه لم يأت في الوقت المناسب
أخذت تنظر إليه في ذهول... وكان يردّد:
- قد حاصرنا المدينة ..
وقالت بقوة:
- لا.
- حينما رأيناه فرّ..
- لا.
خطفت إليه نظرة ضعيفة وصرخت:
- لا.
- فرّ إلى منزله..
هزّت رأسها نافية:
- كلا.
- فخبأته.
- كلا.
- أين خبأته؟
- لم أره.
- لا تكوني عنيدة..
- أقسم بالله...
- سنعرف كيف ننتزع منك الاعتراف..
- قلت كل شيء.
- لنا وسائلنا الخاصة..
- أقسم بالله...
صرخ في وجهها:
- ستدفعين الثمن غاليا..
وماذا في ذلك؟ كل شيء يهون لقد مات سالم، ولم يعد ينفع أي شيء،،.. اجتاح الألم
قلبها فزمجرت:
- افعلوا ما شئتم!
- آه ..
وهوت يده على بطنها، فسقطت أرضا فاقدة وعيها، وأخذت تئنّ: آه.. عندما تشنق البسمة،
فإن الحياة لا تستحق أن يعيشها أحد، وقالت ذلك وهي تصعد زفرة عميقة:
- انهضي
حاولت أن تقاومه إلا أن قبضته كانت قوية خيل إليها أن يده صخرة صماء، ثم دفعها إلى
الخارج بعنف ..
- اخرجي!
- التجول محظور.
- قلت اخرجي.
قالت بإلحاح:
- أقتلني ..
رد بسخرية :
- القتل حرام.
ثم بلهجة مترجية:
- أين زوجك؟
- لن أقول شيئا.
ركلها مرة أخرى ثم دفعها إلى الأمام، ضاقت الدنيا في عينيها، بدا لها الأفق غرابا ضخما
وأمسكها من الرقبة، ثم قال:
- ألا تعترفين؟
- بماذا؟
- بمكان زوجك ..
- زوجي؟
- نعم.
- انقطعت أخباره.
- حقا؟
- نعم.
- إذن، عودي إلى بيتك..!
نظرت إليه ذاهلة .. هل صحيح ما يقوله هذا الخنزير؟ فحدّق فيها قائلا :
- اسرعي!
واستدارت إلى البيت، ثم بدأت تجري وعندما اقتربت من الباب أطلق عليها رصاصتين،
وجاء زميله يهرول:
- ماذا حدث ؟
- لا شيء..
- لقد سمعنا الرصاص يدّوي..
قال بافتخار:
- لقد قتلت الفدائي...