[right] الثلج قصة بقلم:عبدالله بوقصة
رمى القرية بنظرة دقيقة ، الثلج يحول الرصيف إلى بساط ناصع ، يتزحلق فوقه الناس.. فكّر
مليّا في منظر هذا الثلج، ثم قال وهو يطلّ من النافذة:
- ماري..
- نعم .
- ما رأيك في الثلج ؟
- بارد.
- هل تحبينه ؟
- لا .
- لماذا ؟
- لأنه يجعلني أرتجف بردا .
ضرب كفا بكف، ثم ألصق خده بالزجاج، فيما مضى احترقت قريتنا بالجفاف، و شحت السماء..
فانتفض الناس ، ثم خرجوا في مسيرة احتجاج على فظائع الجفاف – علت شفتيه ابتسامة عجب –
وحينما تساقط الثلج تأفّف الناس من البرودة... زفر في سخرية ، هؤلاء أناس لا يعجبهم شيء...
عندما تجود السماء أمطارا وثلوجا يشتكون من البرد، و عندما يحلّ بهم الجفاف يقولون: الطامة
الكبرى ..
- فيم تفكر يا أحمد
تحوّل إليها معتذرا..
- آسف يا ماري..
ابتسمت
- تفكّر في الثلج؟
- كلا.
- بشيء يذكرك؟
- نعم
- ما هو؟
- تراجع مسرعا ..
- لا شيء
- أريد أن أساعدك.
- على ماذا؟
- قلت لك.
- لا أفهم ما تقصدين!
نظرت إليه بودّ وقالت :
- وددت أن أمدّ لك يد العون..
- ولكنّي لست في أزمة.
- وهل يكون التعاون إلا في الأزمات؟
لوح بيده:
- دعينا من هذا النقاش ..
- ولكنّي زوجتك!
احتواها بنظرة متوترة ثم قال :
- تريدين مساعدتي حقا ؟
- نعم .
- إذا ساعديني بصمتك من فضلك !
والناس في الشارع أعجبتهم لعبة التزحلق على الثلج، هكذا كانت مسيرتهم الماضية بـاردة ،
لكن الجفاف لم يهزمها، فهل هذي بداية لمسيرة جديدة ؟... أم تراهم يودون أن يأتي الصيف ليلفحهم
بهجيره؟
ثمة فتـاة تجلببت في الشقة المقابلة ذات النافذة المفتوحة ، اقتنع أنه لا بدّ أن يرتـدي معطفـه،
و قبل أن يفعل سألها:
- ألست بردانة؟
- بلى..
ثم قالت مستفسرة :
- و أنت ؟
- أريد أن ألبس المعطف..
- و لماذا لا تفعل ؟
- وأنت ألا تشعرين بالبرد ؟
- وأنت معي ؟
- وما سبب إقحامي أنا في الموضوع ؟
- لما تكون معي أحس بالدفء ..
- هكذا .
- و أكثر..
لو لا أن الثلج يشغله لكان الحديث عذبا، و أسفاه للشيء الذي يأتي في غير أوانه!
و أشار بيده للنادل:
- ماذا تشربين؟
- كوكاكولا..
- في مثل هذه البرودة ؟
- وماذا في ذلك ؟
- أطلبي شيئا آخر .
- ماذا تريد أن تشرب؟
- شاي..
- و أنا مثلك .
- ثمّ للنادل :
- شاي من فصلك ..
وفي الغرفة المقابلة للفندق، الفتاة تجلس على الكرسي أمام الموقد،، وفي الخـارج تواصلـت
المسيرة وتكاثف الناس و اعتلى شاب الأكتاف، السحب تغطي السماء وعندما وصلت المسيرة إلى
مكان ما..سقط الشاب برصاصة طائشة،، ثم تلاشت الجماهير تماما،و التفت الشرطة حول جثّة
الشاب، كان فمه يفصح عن حبّ كبير للثلج الأبيض، وبعد لحظة صاح الضابط في غضب:
- أحملوه!
ركب الضابط سيارة الشرطة، واقترب شرطيان من القتيل وانحنى أحدهم يتأمل الشاب
ويرتجف، ما له يتنسم هواء مشبعا ببرودة الثلج؟ تمتم موجها كلامه إلى زميله:
- مسكين لقد قتله الثلج..
- لم يعرف كيف يموت!
- وهل توجد موتة أفضل من هذه؟
- ما معنى موته؟
- لقد ظل يهتف بحماس للثلج..
- فقتله.
- أعجبت بثباته..
- لكنه كان ينطح الصخر.
- المهم القضية..
- وبعد ذلك.
- كم تمنيت أن أكون مثله.
- فتموت!
- على الأقل ، أكون قد فعلت شيئا..
- ويموت أولادك من الجوع.
وفي الشارع بدأ الزحام ، والثلج يندلف على المارة... ترى لو ظل الشاب حيّا ماذا عساه
يقول؟ لم يحتمل النظرالى كثبان الثلج إلا للحظات.. وتمتم لنفسه: إنه سيظلّ يحبه ولو قتله..
وسكنت عينيه نظرة، تمعن ثم دمدم:
- لأجل الثلج..مات.
- من؟
- الشاب.
- الشاب؟
- قتله سدنة الجفاف مكرا.
- لا أفهم..
- كانوا يظنون أنهم بقتله يسود الجفاف، ويمنع المطر، ويذوب الثلج..
ويتنهد ثم يواصل:
- ويغتال اللون الأبيض..
قالت مترجية:
- ما لك تتحدث إلى نفسك؟
نهرها بقوله:
- لا تكوني ميتة الحواس..
في المساء سمعا النسوة يضربن صدورهن..
- يا خسارة شبابه.
قال شيخ كان يقف بجوارهن:
- قتلك الهمجيون..
- يا لأعداء الثلج..
تساءلت الصبية:
- لماذا يا عمي؟
- لأنه يحبّ الثلج..
فتأوّهوا ثم هتفوا جميعا:
- يا لأعداء الثلج..
وصاح شاب أسمر وهو يلوح بيده:
- الويل لأعداء الثلج..
وسارت مسيرة احتجـاج باتجاه غير محـدد، وتلطخ بياض الثلج ببقع سوداء، واختلطـت
الهتافات بالسحاب، وهاهي ذي الفتاة التي في الشرفة المقابلة تشترك في المسيرة..ويرتفع صوتها
الحنون بلهيب متدفـق:
- لا حياة لأعداء الثلج!
انتفض صارخا:
- لا حياة لأعداء الثلج..
استفسرت بانزعاج:
- أحمد ! ما بك؟
وهو يجلس القرفصاء:
- لا تسأليني شيئا..!
- من هم أعداء الثلج؟
- قلت لا تسأليني .
فقالت معاتبة:
- أنا زوجتك وشريكة حياتك.
ويثور في وجهها:
- فكيف لا تحبين الثلج؟..