ردود عقلانيه على دعاوى الإلحاد ونقد المذاهب الالحاديه الغربية(1)
د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه بجامعه الخرطوم
أولا: ردود عقلانيه على دعاوى الإلحاد
تمهيد: ظاهره الإلحاد فى المجتمعات المسلمة : هذه الدراسة هي محاوله لتقديم ردود عقلانيه على دعاوى الإلحاد ، وهى تنطلق من مسلمه مضمونها أن الإسلام يشكل الهيكل الحضاري للمجتمعات المسلمة ،لان الأمم والشعوب المسلمة تكونت في ظل الإسلام كدين وحضارة ، واستنادا إلى هذه المسلمة فإننا نرى أن مشكله الإلحاد غير مطروحة في المجتمعات المسلمة على المستوى الجماهيري ، وان كانت مطروحة على المستوى النخبوي ، فعلى مستوى الجماهير المسلمة فانه " لا يرد سؤال أو تساؤل أو حوار أو جدل حول وجود الله ، فمحال في أن يتصور احدهم ولو تصورا أن ثمة من يلحد أو يشرك بالله..."( د. عصمت سيف الدولة، مذكرات قرية ،دار الهلال ، ص66 ص70)، وطبقا لهذا المستوى فقد فشل – وسيفشل - الإلحاد في المجتمعات المسلمة في" أن يفتح ثغره في جدار الرفض الحضاري، أو أن يغرى بشرا أو أن يكسب أرضا ". لكن مشكله الإلحاد مطروحة على مستوى النخبة من المثقفين والمتعلمين، وهى تساهم في استمرار - وتعميق – مشكله تحول بعض المثقفين والمتعلمين فى المجتمعات المسلمة من طليعة لمجتمعاتهم ، إلى نخبه معزولة عن مجتمعاتها، وبالتالي تصبح هذه النخب احد أسباب استمرار تخلف النمو الحضاري لمجتمعاتهم ، لأن المثقفين والمتعلمين هم قاده التطور في كل المجتمعات
دعاوى الإلحاد والرد عليها:
الرد على دعوى تعارض الإيمان بالغيب مع العلم والتفكير العلمي : فهناك دعوى أن الإيمان بالغيب (والذي يتضمن قضيه إثبات وجود الله تعالى ) يتناقض مع العلم والتفكير العلمي، وبالتالي فان الإلحاد ( الذي مضمونه إنكار أو الشك في وجود الله تعالى ) يتسق مع العلم والتفكير العلمي. والرد على هذه الدعوى يتضمن عده نقاط:
الإلحاد أجابه – خاطئة من ناحية ميتافيزيقية –غيبيه -- على اسئله تطرحها الميتافيزيقا ولا يطرحها العلم : إن الإلحاد هو اجابه - خاطئة من ناحية ميتافيزيقية – غيبيه - كما سنوضح لاحقا- على اسئله تطرحها الميتافيزيقا ، ولا يطرحها العلم ، هذه الاسئله هي: كيف بدأ الوجود؟ وكيف سينتهي؟ وماهية القوة التي تحركه؟ والاجابه على هذه الاسئله غير قابلة للتحقق بالتجربة والاختبار العلميين ، وان كانت قابله للتحقق بالاستدلال والبرهنة العقلية من ناحية معرفيه (عقليه – منطقيه ). يقول د. عصمت سيف الدولة (ولكل إنسان أعلن هذا أو أنكره، اجابه خاصة علنية أو خفيه،على ما تطرحه الميتافيزيقا من اسئله عن سر الوجود ، إن لديه قوه ما ، مهما يكن اسمها ، فهو يسند إليها ما لا يعرف سببه ، وهو يؤمن بصحة إسناده إيمانا غيبيا، لأنه لا يستطيع أن يثبته علميا ، وفى مشكله الالوهيه بالذات ليس الملحدون اقل إيمانا من غيرهم، غيرهم يؤمن بان الله موجود ، وهم يؤمنون أن الله غير موجود، وكلهم عاجزون عن إثبات إيمانهم بالاختبار والتجربة العلمية، وكلهم فيما يؤمنون متدينون ، واقلهم وعيا بمدى تدينه أو بمدى تعصبه الديني ، أولئك الذين يوهمون أنفسهم أنهم قد حلوا مشكلة الدين عندما أنكروا وجود الله ) ( النظرية، الجزء الأول ، ص 83 ).
اسبقيه الإيمان - الغيبي- على الاستقراء- التجريبي - العلمى : و الإيمان بالغيب كأساس للدين (أو الميتافيزيقا بالمصطلح الفلسفي الغربي) سابق كل نشاط علمي ، ذلك أن العلم بما هو الكشف عن القوانين الموضوعية ، التي تحكم حركة الأشياء والظواهر والإنسان، يقوم على التجربة والاختبار العلميين ،ولكنه في ذات الوقت يقوم على مفاهيم سابقة على التجربة العلمية ، وبالتالي غير خاضعة لها مثل الموضوعية والحتمية، فهي مسلمات غيبيه – ميتافيزيقية بهذا المعنى .…
اسبقيه اتصال وليست اسبقيه انفصال : غير أن اسبقيه الإيمان الغيبي( الذي هو أساس الدين )على الاستقراء التجريبي( الذي هو أساس العلم) – هي اسبقيه اتصال وليست اسبقيه انفصال، بمعنى أنها اسبقيه تقوم على أساس الإقرار بوجود علاقة بينهما وليس نفى وجود اى علاقة بينهما.
العلاقة بين الدين والعلم علاقة تكامل و تحديد وليست علاقة تناقض وإلغاء: وتتمثل اسبقيه الاتصال هنا في كون العلاقة بين الدين( القائم على الإيمان الغيبي) والعلم ( المستند إلى الاستقراء التجريبي )، هي علاقة تحديد وتكامل وليست علاقة تناقض وإلغاء ، اى أن الدين بالنسبة للعلم ، بمثابة الكل للجزء ،يحده فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه ، فكل من الدين والعلم يتناولان – من ناحية معرفيه - ذات الوجود، لكن على مستويات متعددة (أي منظور إليه من جهات متعددة)، فالدين يتناول الوجود على مستوى ماهوي أي يجيب على السؤال ما هو الوجود؟ (أي ماهية القوة التي تحرك الوجود، بداية الوجود، نهايته)، أما العلم فيتناول الوجود على مستوى كيفي، أي يبحث في ضوابط الحركة في الكون واتجاهاتها. لذا فان لكل من الدين والعلم مشاكل خاصة يحاول أن يضع لها حلول، ومنهج خاص لحلها ، دون أن يعني هذا أنها قائمة بذاتها ومستقلة عن المشاكل التي يطرحها واقع الناس المعين في الزمان والمكان، بل يعني أن هذه المشاكل ما هي إلا محصلة لتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين لكن على مستوى معين (أي منظور إليها من جهة معينة).فالدين يتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ، ولكن على مستوى معين ، اى منظور إليها من جهة معينة ،هي علاقتها من حيث جزء من الواقع المحدود بالمطلق، فالمطلق لا يلغي المحدود بل يحده، وبه تصبح حركة الإنسان ليس مجرد فعل غائي ، اي مجرد تطور يتم خلال حل المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ، بل تتحول إلى فعل غائي محدود بفعل مطلق (الربوبية) وغاية مطلقة (الإلوهية)، أي كدح إلى الله بتعبير القرآن، فيحدد للإنسان نوع المشاكل التي يواجهها ،وطريقة العلم بها ، ويحدد نمط الفكر الذي يصوغ هذه الحلول، كما يحدد أسلوب العمل اللازم لتنفيذها، كما أن للدين منهج خاص في تناوله لهذه المشاكل ، يقوم على التسليم بصحة الوحي ، اى يقوم على الإيمان بما هو التسليم بصحة مجموعه من المفاهيم والقيم والقواعد الكلية ،لا يمكن إثباتها بالتجربة والاختبار العلميين، ولكن من الممكن البرهنة علي صحتها عقليا ، لأنها مطلقه عن قيود الزمان والمكان، وهذه المفاهيم والقيم والقواعد الكلية مصدرها الوحي كوسيلة لمعرفه عالم الغيب ، المطلق عن قيود الزمان والمكان ، فهو يستند إلى الوحي كوسيلة تحدد ولا تلغي الحواس كوسيلة لمعرفه عالم الشهادة المحدود بالزمان والمكان. أما العلم فيتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ، لكن على مستوى جزئي عيني، أي منظور إليها من جهة معينة هي البحث في قوانين تحول الطبيعة وتطور الإنسان ،والتي لابد أن تأتي حلول هذه المشاكل على مقتضاها لتكون صحيحة.وهذه المشاكل الخاصة تقتضي منهج خاص في تناولها هو المنهج العلمي، والذي يتصف بخصائص أو مراحل معينة هي أولا: الملاحظة أي مراقبة مفردات الظاهرة ورصدها خلال حركتها ، ثانيا:الافتراض: أي محاولة افتراض قانون لتلك الحركة من أطوارها على قاعدة واحد في ظروف مماثلة، ثالثا: التحقق: إذ الممارسة هي اختبار مستمر لصحة القانون.
ظاهره التناقض بين الدين والعلم طارئة وتاريخيه وليست أصليه وذاتيه: بناءا على ما سبق فانه لا يمكن أن يحدث تناقض بين الدين والعلم ، مادام كل منهما مقصور على تناول مستوى معين من مستويات الوجود (أي ينظر إلى الوجود من جهة معينه) ، و يتناول مشاكل خاصة ويلتزم بمنهج خاص لحلها ، ولا يتجاوز ذلك إلى تناول مستوى الوجود الذي يتناوله الآخر، (أي ينظر إلى الوجود من الجهة التي ينظر منها الآخر ) ، او يتناول المشاكل الخاصة بالآخر ، أو يتبنى المنهج الخاص الآخر.وهذا يعنى أن التناقض بين الدين والعلم طارئ وتاريخي " مرتبط بتجاوز اى منهما لمجاله المعرفي " ، وليس أصلى وذاتي " فهو لا يحدث في حاله التزام كل منهما بمجاله المعرفي "، ونجد نموذج لهذا التجاوز في ما حدث في أوربا في العصور الوسطى، حين جعل بعض رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية بعض النظريات العلمية جزء من الدين المسيحي، وحين ثبت خطئها حدث تناقض (زائف) بين العلم والدين.
الرد على دعوى تجاوز الإسلام لمجاله المعرفي بتناوله لمظاهر الطبيعة وتفسيرها: وهنا نجد دعوى مضمونها تجاوز الإسلام لمجاله المعرفي ، بتناوله لكثير من مظاهر الطبيعة وتفسيره لبعض هذه المظاهر ، وهذه الدعوى يترتب عليها دعوى أخرى هي أن العلاقة بين الإسلام كدين والعلم هي علاقة تناقض وإلغاء.
الخلط بين النص القرانى ومذاهب تفسيره :هذه الدعوى تقوم على أساس الخلط بين النص القرانى بما هو وضع الهي ثابت ، ومذاهب تفسيره كاجتهاد انسانى متغير بتغير الزمان والمكان
أولا: النص القرانى والآيات العلمية والكونية : ففيما يتعلق بالنص القرانى ، فان غاياته في الآيات العلمية والكونية هي أولا: هداية الناس إلي الله تعالى، واتصافه بالربوبية والإلوهية، وذلك من خلال الاستدلال القرآني ،القائم على الانتقال من عالم الشهادة (مقدمة)، إلي عالم الغيب (نتيجة).ثانيا: هداية الناس إلي العلم ، واستخدام العلم في تسخير الطبيعة ، باعتبار ذلك جزء من المفهوم العام للعبادة في مجال العلم ، ولتحقيق هاتان الغايتان انقسم النص القرآني إلي قسمين:
الأصول : هي الآيات ذات الدلالة القائمة بذاتها ، والتي يمكن اعتبارها غايات، يتحقق من خلالها غايات النص القرآني في الآيات الكونية والعلمية السابقة الذكر، وتتضمن هذه الأصول الآيات الكونية القطعية الدلالة(التي لا تحتمل التأويل)، المتضمنة لتفسير بعض الظواهر الطبيعية ، وهي بمثابة أدله لإثبات إعجاز القران ، وفى نفس الوقت أمثلة مضروبة للناس ، من أجل حثهم على البحث العلمي في السنن الإلهية ،التي تضبط حركه الوجود التسخيرى "الطبيعي" والاستخلافى "الإنساني"، وليس الاكتفاء بما في القرآن. و كما تتضمن الآيات التي تبين أسس المنهج العلمي ، كتقرير أن الكون ومفرداته ذو وجود موضوعي مستقل عن معرفتهم، وقابل للمعرفة بالحواس والعقل والدعوة إلي معرفته، اى قاعدة الموضوعية كما في قوله تعالى ﴿ وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم﴾ (الذاريات: 20- 21) ، وتقرير أن حركة هذا الكون منضبطة بسنن لا تتبدل، اى قاعدة السببية كما فى قوله تعالى﴿ فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً ﴾ (فاطر:3 )...الخ.
الفروع : وهى الآيات ذات الدلالة غير القائمة بذاتها ، بل القائمة بدلالة الآيات السابقة ، فهي بمثابة وسائل لتحقيق الغايات التي تضمنتها آيات الأصول ، وتتضمن هذه الفروع الآيات الكونية الظنية الدلالة(التي تحتمل التأويل) ، والآيات التي تتحدث عن وصف مشاهد الكون المختلفة.
يترتب على ما سبق أن النص القرانى لم يتجاوز مجاله المعرفي ، في آياته العلمية والكونية ، وبالتالي فان علاقته بالعلم ليست علاقة تناقض وإلغاء.
ثانيا :مذاهب تفسير الآيات الكونية والكونية: أما مذاهب تفسير الآيات الكونية والعلمية فهي مذهبين :
المذهب الأول:رد الأصل إلى الفرع: وهو المذهب الذي لا يميز بين آيات الأصول ، والمتضمنة للآيات الكونية القطعية الدلالة، وآيات الفروع والمتضمنة للآيات الكونية الظنية الدلالة ، هذا المذهب يقوم على محاوله استنباط كل النظريات العلمية من القران الكريم وليس من الكون ، وهو هنا يخالف غايات النص القرانى في الآيات الكونية ، والتي تتضمنها آيات الأصول ، المتضمنة لتفسير بعض الظواهر الطبيعية ، وهى انها بمثابة أدله لإثبات إعجاز القران ، وفى نفس الوقت أمثلة مضروبة للناس ، من أجل حثهم على البحث العلمي في السنن الإلهية ،التي تضبط حركه الكون، وليس الاكتفاء بما في القرآن، وهذا المذهب يقوم بتأويل النص القرآني ليتفق مع النظريات العلمية الجديدة، وهو ما يترتب عليه اعتبار أن العلم هو الأصل (المطلق ) والقران هو الفرع (المحدود)، فضلاً عن أن النظريات العلمية (كشكل من أشكال المعرفة الإنسانية) محدودة بالزمان والمكان نسبية فيهما لذا تحتمل الصواب والخطأ ، وبالتالي فإن اعتبار هذا المذهب أن هذه النظريات جزء من القرآن يؤدي إلي نسبة هذا الخطأ إليه. وإذا كان هذا المذهب يحاول إثبات صحة النص القرانى وعدم تعارضه مع العلم، فانه - في واقع الأمر- يؤدى إلى الإيحاء بان النص القرانى يتجاوز مجاله المعرفي ، وبالتالي فان علاقته بالعلم هي علاقة تناقض وإلغاء ، وقد وجه كثير من علماء الإسلام النقد لهذا المذهب ، يقول الإمام الشاطبى (جاءت الشريعة على معهود العرب ،وما تعرفه من علوم ولم تخرج مما ألفوه ، وان كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القران الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكره المتقدمين والمتأخرين... وكان السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا اعرف بالقران وعلومه وما أودع فيه ولم يبلغنا أن تكلم منهم احد من شيء من هذا المدعى سوى ما تقدم من أحكام التكاليف وأحكام الاخره... وقال المراد بقوله تعالى ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ باللوح المحفوظ)، كما وجه الإمام الغزالي النقد إلي بعض الذين حاولوا الانتصار إلي أو نقض بعض النظريات العلمية من منطق ديني وليس من منطلق استقرائي "حسي" استدلالي "عقلي" (القسم الثاني ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين... كقولهم أن كسوف القمر عبارة عن انمحاء ضوءه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جني على الدين وضعف أمره ،فإن هذا أمر تقوم على براهين هندسية وحسابية ،لا تبقى معها ريبة في من يطلعه عليها.. ومن ظن وإذا قيل له أن هذا على خلاف الشرع لم يسترب في الشرع، وضرر الشرع بمن تنصره بغير طريقة ، أكثر ممن يطعن عيه بطريقه).
المذهب الثاني: رد الفرع إلى الأصل: وهو المذهب الذي يميز بين آيات الأصول، التي تتضمن أسس المنهج العلمي ، والدعوة إلى استعماله ، والآيات الكونية القطعية الدلالة ، والتي هي بمثابة أمثله مضروبة للناس، لاستعمال هذا المنهج العلمي ، للكشف عن السنن الالهيه في الطبيعة والإنسان، وآيات الفروع التي تتضمن الآيات الكونية ظنية الدلالة ( تحتمل التأويل)، والتي يمكن تفسيرها بما ينتهي إليه البحث العلمي ،من نظريات أثبت صحتها بالتجربة والاختبار، مع تقرير أن هذا التفسير اجتهاد انسانى محدود، يحتمل الصواب والخطأ ، وطبقا لهذا تصبح هذه النظريات العلمية هي جزء من هذا التفسير، وليست جزء من النص القرانى .هذا المذهب يبرز حقيقة أن النص القرانى في أن النص القرانى لم يتجاوز مجاله المعرفي ، في آياته العلمية والكونية ، وبالتالي فان علاقته بالعلم ليست علاقة تناقض وإلغاء ،ولكنها علاقة تحديد وتكامل
موقف الإسلام الايجابي من العلم على المستوى التطبيقي : أما على المستوى التطبيقي فقد ظهر الإسلام في منطقه يسود فيها التخلف العلمي ، ممثلا في سيادة أنماط التفكير الخرافي فيها حينها ، وعندما جاء الإسلام هدى الناس إلي أصول منهج البحث العلمي، وترك لهم الاجتهاد في وضع فروعه واستعماله، ولم يحتاج المسلمون إلي كثير من الوقت لاحتلال المراتب الأولى في كثير من العلوم، كما ساد انتهاج الأسلوب العلمي في التفكير والحركة. غير انه نتيجة لعوامل داخليه وخارجية متفاعلة ، دخلت هذه المجتمعات فى حاله من تخلف النمو الحضاري بكل أشكاله ، فظهر نتيجة لذلك تخلف النمو العلمي فى هذه المجتمعات ، ممثلا في شيوع نمط تفكير مختلط (علمي/ خرافي ) فيها.
الرد على دعوى تعارض الإيمان بالغيب مع العقل والعقلانية : وهناك دعوى أن الإيمان بالغيب (والذي يتضمن قضيه إثبات وجود الله تعالى ) يتناقض مع العقل والتفكير العقلاني، وبالتالي فان الإلحاد ( الذي مضمونه إنكار أو الشك في وجود الله تعالى ) يتسق مع العقل والتفكير العقلاني. والرد على هذه الدعوى يتضمن عده نقاط:
اسبقيه الإيمان على الاستدلال : إن الإيمان بالغيب كأساس للدين (أو الميتافيزيقا بالمصطلح الفلسفي الغربي) سابق كل نشاط عقلاني" فلسفي "، ذلك أن التفكير العقلاني – ومن أشكاله التفكير الفلسفي – يستند إلى المنهج الاستدلالي – الاستنباطي ، والاستدلال – أو الاستنباط هو عمليه الانتقال " الصوري "من مقدمه عقليه إلى نتيجة عقليه ، وهو ينطلق من مسلمه ، اى مقدمه "مسلم "بصحتها ، لأنها غير قابله للتحقق من صحتها بالتجربة والاختبار العلميين " لأنها مجرده وليست عينيه "، ولأنها سابقه على عمليه الاستدلال وبالتالي غير خاضعة لها " فعمليه الاستدلال مقصورة على الانتقال منها إلى النتيجة" . وعقليه هذه المقدمة متصلة بشكلها (صورتها) ، اى كونها خاضعة لمعيار الاتساق " المنطقي "، وليست لها صله بمضمونها (مصدرها)، اى لا يلزم ضرورة ان يكون مصدر هذه المقدمة العقل (كما ترى الفلسفة العقلانية ألغربيه ) إلا في حاله الأفكار الفطرية ، فقد يكون مصدرها الحواس كما في حاله تناولها لعالم الشهادة (وهو الأمر الذي قررته الفلسفات التجريبية الغربية ) ،وقد يكون مصدرها الوحي في حاله تناولها لعالم الغيب(وهو الأمر الذي قررته الأديان والفلسفات الدينية ) ، بناء على ما سبق فان كل مذهب فلسفي- بما في ذلك المذاهب التي تدعى رفض الميتافيزيقا والدين - إنما ينطلق من مسلمات – ميتافيزيقية – غيبيه – لأنها غير قبله للنفي أو الإثبات بالتجربة العلمية "باعتبار أنها نظريه " ،وسابقه على النشاط الاستدلالي لواضعه ،" باعتبار أن الاستدلال مقصور على استنباطه نتيجة معينه من مقدمه معينه يسلم بصحتها.
تعدد أبعاد الوجود الانسانى وتفاوت درجه شمولها هو عله الاسبقيه المعرفية للإيمان بالغيب : ومرجع هذه الاسبقيه المعرفية للإيمان بالغيب (الذي هو أساس الدين )على الاستقراء الحسي (الذي هو أساس العلم ) والاستدلال العقلاني (الذي هو أساس العقل ) أن للوجود الانسانى أبعاد متعددة ، متفاوتة في درجه الشمول، فكل بعد بالنسبة للبعد الذي يليه بمثابة الكل للجزء ، يحده فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه ، وهذه الأبعاد هي البعد الروحي" الذي يتناوله الدين" ، فالبعد العقلي" الذي يتناوله التفكير العقلاني من أشكاله التفكير الفلسفي "، البعد الوجداني " الذي يتناوله الفن والأدب"، البعد المادي العضوي و الغريزي " الذي يتناوله العلم.
الإلحاد اجابه خاطئة من الناحية الميتافيزيقية – الغيبية ، وخاطئة أو لا يمكن القطع بصحتها من الناحية المعرفية : بناء على ما سبق فان الإلحاد –كما سبق ذكره - هو أجابه على اسئله تطرحها الميتافيزيقا ، فهي اجابه ميتافيزيقية - غيبيه من هذه الجهة، ومن جهتي أنها غير قابله للإثبات او النفي بالتجربة العلمية لأنها مجرده ، وإنها سابقه على الاستدلال ، فالاستدلال هو الانتقال من مقدمه (مسلم بصحتها ) إلى نتيجة، وهذه الاجابه خاطئة من الناحية الميتافيزيقية – الغيبية، اى لا تتطابق مع حقيقة الوجود الغيبي المتضمن لوجود الله تعالى . أما من الناحية المعرفية فان هذه الاجابه الميتافبزيقيه – الغيبيه قد لا يليها استدلال عقلي، وهنا يكون الإلحاد اعتقاد ذاتي مرجعه عوامل ذاتيه " شخصيه " ، وموضوعيه " اجتماعيه متعددة ، وليس نتيجة لازمه لاستدلال عقلي صحيح " موضوعي"، وهنا لا يرقى الإلحاد إلى أن يكون اجابه عقلانيه - موضوعيه من الناحية المعرفية (العقلية – المنطقية) ، كما أن هذه الاجابه الميتافيزيقية – الغيبية – قد يليها استدلال عقلي لإثبات صحتها- من ناحية العقلية المنطقية ، وهنا نجد احتمالين : الأول كون هذا الاستدلال خاطئ ، وهنا يكون الإلحاد اجابه خاطئة – من الناحية المعرفية ( العقلية- المنطقية ) ، الاحتمال الثاني كون هذا الاستدلال صحيح ، وهنا يكون الإلحاد اجابه ناقصة، لان الاستدلال يستند إلى معيار الاتساق " عدم التناقض ، بينما إثبات صحة أو خطاْ هذه الاجابه يحتاج - بالاضافه إلى معيار الاتساق من الناحية المعرفية (العقلية- المنطقية) - إلى شكل من أشكال معيار التطابق مضمونه التطابق مع الوجود الغيبي ، وبهذا فان هذه الاجابه الناقصة تظل غير قابله للتحقق ( لا يمكن القطع بصحتها) في هذا الوجود الشهادى ، لان موضوعها هو الوجود الغيبي. وبناء على ما سبق فان الإلحاد هو اجابه خاطئة من ناحية ميتافيزيقية – غيبيه ، وأجابه خاطئة آو على اقل تقدير لا يمكن القطع بصحتها من ناحية معرفيه (عقليه منطقيه )..
اسبقيه اتصال وليست اسبقيه انفصال : واسبقيه الإيمان الغيبي( الذي هو أساس الدين )على الاستدلال العقلي( الذي هو أساس التفكير العقلاني والفلسفي) – هي اسبقيه اتصال وليست اسبقيه انفصال، بمعنى انها اسبقيه تقوم على أساس الإقرار بوجود علاقة بينهما وليس نفى وجود اى علاقة بينهما.
العلاقة بين الدين والعقل علاقة تكامل و تحديد وليست علاقة تناقض وإلغاء: وتتمثل اسبقيه الاتصال هنا في كون العلاقة بين الدين" القائم على الإيمان بالغيب والإقرار بوجود الله تعالى" والعقل والتفكير العقلاني ومن إشكاله التفكير الفلسفي ، هي علاقة تحديد وتكامل ، وليست علاقة تناقض وإلغاء، اى أن الدين بالنسبة للعقل والتفكير العقلاني ، بمثابة الكل للجزء ،يحده فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه ، فكل من الدين والتفكير العقلاني يتناولان – من ناحية معرفيه - ذات الوجود، لكن على مستويات متعددة (أي منظور إليه من جهات متعددة)، فكما سبق ذكره فان الدين يتناول الوجود على مستوى ماهوي أي يجيب على السؤال ما هو الوجود؟ (أي ماهية القوة التي تحرك الوجود، بداية الوجود، نهايته)، أما التفكير العقلاني فيتناول الوجود على مستوى لماذي (أي الإجابة على السؤال لماذا (اى غايات الوجود الإنسان كالحق والخير والجمال..) فالمشاكل الفلسفية مثل (الوجود، أو المعرفة أو القيم). لذا فان لكل من الدين والتفكير العقلاني مشاكل خاصة يحاول أن يضع لها حلول، ومنهج خاص لحلها ، دون أن يعني هذا أنها قائمة بذاتها ومستقلة عن المشاكل التي يطرحها واقع الناس المعين في الزمان والمكان، بل يعني أن هذه المشاكل ما هي إلا محصلة لتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين لكن على مستوى معين (أي منظور إليها من جهة معينة).فالدين كما سبق ذكره يتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ، ولكن على مستوى معين ، اى منظور إليها من جهة معينة ،هي علاقتها من حيث جزء من الواقع المحدود بالمطلق، فالمطلق لا يلغي المحدود بل يحده، وبه تصبح حركة الإنسان ليس مجرد فعل غائي ، اي مجرد تطور ، بل تتحول إلى فعل غائي محدود بفعل مطلق (الربوبية) وغاية مطلقة (الالوهية)، أي كدح إلى الله بتعبير القرآن، فيحدد للإنسان نوع المشاكل التي يواجهها ،وطريقة العلم بها ، ويحدد نمط الفكر الذي يصوغ هذه الحلول، كما يحدد أسلوب العمل اللازم لتنفيذها، كما أن للدين منهج خاص في تناوله لهذه المشاكل ، يقوم على التسليم بصحة الوحي ، اى يقوم على الإيمان بما هو التسليم بصحة مجموعه من المفاهيم والقيم والقواعد الكلية ،لا يمكن إثباتها بالتجربة والاختبار العلميين ، لأنها مطلقه عن قيود الزمان والمكان ، ولكن يمكن إثبات صحتها بالاستدلال العقلي بما هو انتقال الذهن من حكم إلى آخر لعلاقة ضرورية بينهما.قال تعالى (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) (البقرة:242)، وهذه المفاهيم والقيم والقواعد الكلية مصدرها الوحي كوسيلة لمعرفه عالم الغيب ، المطلق عن قيود الزمان والمكان ، فهو يستند إلى الوحي كوسيلة تحدد ولا تلغي العقل كوسيلة لمعرفه عالم الشهادة المحدود بالزمان والمكان. أما التفكير العقلانى فيتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ،لكن على مستوى كلي مجرد ، أي منظور إليها من جهة معينة هي الأصول الفكرية (الكلية، المجردة) لهذه المشاكل،وهذه المشاكل الخاصة تقتضي منهج خاص لتناولها هو المنهج الفلسفي يتصف بخصائص معينة هي العقلانية، المنطقية، الشك المنهجي، والنقدية.
موقف الإسلام الايجابي من نمط التفكير العقلاني: تأكيدا لما سبق فقد اتخذ الإسلام كدين موقفا ايجابيا من التفكير العقلاني وخصائصه . فمن خصائص التفكير العقلاني الموقف النقدي ،القائم علي تجاوز كل من موقف القبول المطلق والرفض المطلق، إلي الموقف القائم علي البحث عن أوجه الصواب وأوجه الخطأ في الرأي المعين، وأخذ ما هو صواب ورفض وما هو خطأ، وهذا الروح النقدية حث عليها الإسلام كما في قوله تعالي (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ،وقوله (صلى الله عليه وسلم) (لا يكن أحدكم إمّعة يقول أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت وإن أساءوا أسأت ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا ألا تتبعوا إساءتهم). ومن خصائص التفكير العقلاني الشك المنهجي ، القائم علي عدم التسليم لصحة فكرة معينة لا بعد التحقق من كونها صحيحة ،هذا النوع من أنواع الشك يمكن أن نجد نموذجا له في القرآن كما في قوله تعالى( فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين .فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين .فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ) (الأنعام:76 – 78)،كما استخدمه الإمام الغزالي كما في كتابه المنقذ من الضلال .ومن خصائص التفكير العقلاني الاستناد إلي العقل كوسيلة للمعرفة، وقد حث الإسلام علي إعمال العقل كوسيلة للمعرفة ، بما لا يتناقض مع الحواس والوحي كوسائل أخرى المعرفة ، قال تعالى( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]،وقال تعالى (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. [الأعراف:179].ومن خصائص التفكير العقلاني المنطقية ،اى الاستناد إلي المنطق بما هو أنماط التفكير السليمة المستندة إلي قوانين التفكير وأهمها قانون عدم التناقض ، والذي أشار إليه القران الكريم قال تعالى (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [النساء: 82] .
تلازم الإيمان بالغيب والاستدلال العقلي في القران الكريم : كما تتمثل اسبقيه الاتصال بين الإيمان الغيبي والاستدلال العقلي في رفض القران الكريم الإقرار والتسليم بالوجود الغيبي(عالم الغيب المتضمن لوجود الله تعالى ) بدون برهان أو دليل ، وربطه بين هذا التسليم والإقرار وشكل من أشكال الاستدلال العقلي (الانتقال من مقدمه عقليه إلى نتيجة عقليه) ، القائم على الاستدلال بالوجود الشهادي المحدود (الكون)،على الوجود الغيبي المطلق (المتضمن لوجود الله تعالى)،قال تعالى (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لقوم يعقلون) (البقرة: 164). وبناءا على هذا فان المفهوم الاسلامى يقوم على – وبالتالي يدعوا إلى- البرهنة على وجود الله تعالى ، ولكنه يستند في برهنته على إثبات وجود الله تعالى على شكل من إشكال الاستدلال الذي يسبقه شكل من أشكال الاستقراء (الانتقال من مقدمه حسية إلى نتيجة عقليه) مضمونه النظر في الكون وقال تعالى(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ) (الحج: 46)، وهنا نجد احد أوجه الاختلاف بين المفهوم الاسلامى والفلسفة الغربية العقلية منذ أرسطو لأنها حاولت البرهنة على وجود الله تعالى استنادا إلى شكل من أشكال الاستدلال الذي لا يسبقه اى نوع من أنواع الاستقراء، فجاءت براهينها مستند إلى معيار الاتساق دون معيار التطابق مع الواقع .
التمييز بين الوجود والماهية: كما يميز الإسلام كدين بين وجود (عالم الغيب) وكيفيه –خصائص – عالم الغيب ،فالأول يمكن للعقل أن يدركه ويبرهن عليه ،أما الثاني فلا يمكن للعقل أن يتصوره إلا بالوحي ، لذا تضمن الإيمان بالغيب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، قال تعالى(يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)،وفي الحديث القدسي (تفكروا في مخلوقاتي ولا تفكروا في ذاتي فتهلكوا).وهنا نجد احد أوجه الاختلاف بين المفهوم الاسلامى والفلسفة الغربية العقلية التي لم تتميز في برهنتها على وجود الله تعالى بين الوجود والماهية، اى ترى إمكانية إدراك أو تصور العقل لوجود وماهية عالم الغيب ،لأنها تنظر إلى العقل باعتباره وجود مطلق ، وليس فاعليه معرفيه محدودة تكوينيا بالسنن الالهيه في إدراكه لعالم الشهادة، و تكليفيا بالوحي في إدراكه لعالم الغيب كما في المفهوم الاسلامى .
موقف الاسلام الايجابي من العقل على المستوى التطبيقي : أما على المستوى التطبيقي فقد ظهر الإسلام في منطقه يسود فيها التخلف الفكري، ممثلا في سيادة أنماط التفكير الاسطورى فيها ، ثم جاء الإسلام فهدي الناس إلي أعمال العقل، وانشأ المسلمون نتيجة ذلك أنماط متعددة من التفكير العقلاني الذي لا تناقض الأيمان أو الوحي ، وان كانت تناقض بالتأكد نمط التفكير الأسطوري. غير انه نتيجة لعوامل داخليه وخارجية متفاعله دخلت هذه المجتمعات فى حاله من تخلف النمو الحضاري بكل أشكاله ، فظهر نتيجة لذلك تخلف النمو الفكري ممثلا في شيوع نمط تفكير مختلط (عقلاني /اسطورى ) فيها .
الرد على دعوى عدم امكانيه البرهنة العقلية على وجود الله تعالى : وهناك دعوى عدم امكانيه البرهنة العقلية على إثبات وجود الله تعالى ، و هذه الدعوى تتناقض مع حقيقه أن المفكرين والفلاسفة ،على مر العصور، قد أوردوا الكثير من أدله وبراهين إثبات وجود الله تعالى ، ومرجع هذا التعدد تعدد الأساليب والطرق التي استخدموها لإثبات وجود الله تعالى، ومن أهم هذه الادله :
الدليل الغائي : قال به سقراط وأفلاطون، ومضمونه أن لكل شيء في الطبيعة غرضا، لا يمكن تفسيره إلا بافتراض وجود موجود غير مادي، يتجاوز الطبيعة وينظم كل الظواهر على نحو منسجم دليل الحركة: ووضعه أرسطو و مضمونه: أ- الحركة تحتاج إلى محرك.ب- الحركة والمحرك متزامنان.ج- كلّ محرك إما أن يكون متحركاً وإما أن يكون ثابتاً.د- كل موجود جسمي متغير ومتحرك.هـ- التسلسل والدور في الأمور المترتبة غير المتناهية محال .النتيجة: تنتهي سلسلة الحركات إلى محرك غير متحرك.
الدليل الكوني(دليل العلية): وقال به أرسطو أيضا ، ومضمونه أن الله موجود باعتباره العلة الأولى لكل الأشياء والظواهر .
الدليل الوجودي: وقد وضعه أنسلم ومضمونه: انه لا شك أن كل إنسان مهما كانت درجته ، يستشعر في عقله ضرورة أن يكون هناك موجود ليس هناك من هو أكمل منه.وفكرة الكمال تظل ناقصة ما لم يوجد لها مقابل في الخارج، ولكي تكون هذه الفكرة كاملة لابد وأن يكون هناك موجود في الخارج غاية في الكمال لا يوجد من هو أكمل منه.وهذا الوجود الأكمل على الإطلاق هو الذي نطلق عليه اسم الله(د. طه حبيشي/ أدلة الفلاسفة على وجود الله تعالى).
الدليل الأنطولوجي: وقال به ديكارت يعرف أيضا بالبرهان ألسببي، و يعتمد على مبدأ أنه : إذا وجد أي شيء فلابد من وجود شيء آخر هو سببه بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، وقد وجد ديكارت من بين أفكاره الفطرية فكرة الكائن الكامل اللامتناهي، التي لا يمكن أن يكون هو سببها لأنه شاك فهو ناقص، إذ أن الشك ينطوي على النقص، ولما كان ما هو ناقص لا يمكن أن يكون سبباً لما هو كامل ،فمن المحال أن نحصل على فكرة الكمال اللامتناهي من تراكم أفكار أشياء متناهية، لأن المتناهيات لا يمكن أن تؤدي إلى لا متناهي. وأخيراً لما كان الوجود الموضوعي الصوري للفكرة لا يمكن أن ينشأ من قبل كائن موجود بالقوة حسب، بل من قبل كائن له وجود صوري وفعلي أيضاً، فإنه ينبغي أن نستنتج أن سبب فكرة الكمال اللامتناهي هو كائن كامل لا متناهي بالفعل وهو الله. فالله باعتباره الكائن الكامل اللامتناهي موجود ضرورة.
الدليل الهندسي: وقال به ديكارت أيضا ومضمونه انه كما أن فكرتنا عن المثلث تستتبع أن تكون زواياه الداخلية مساوية لقائمتين ( 180 درجة ) ، كذلك فإن فكرتنا عن الله باعتباره كائناً كاملاً متناهياً تستلزم وجوده بالضرورة. وعليه فإذا كان من التناقض أن نقول أن الزوايا الداخلية للمثلث لا تساوي قائمتين، فمن التناقض كذلك أن نقول أن الله غير موجود، لأن الوجود متضمن في ماهية الله على نحو ما تكون مساواة الزوايا الداخلية للمثلث لقائمتين متضمنة في تعريف المثلث.
الدليل الاخلاقى : وقد وضعه كانط الذي يرى استحالة البرهنة نظريا على وجود الله ، ولكن يمكن البرهنة على وجوده من ناحية أخلاقيه، إذ يرى أن للإنسان شعور فطرى بالعدالة، والعدالة تقتضى أن يثاب المحسن ويعاقب المسيْ، ولكن في الحياة نجد أن هناك محسن لا يثاب ومسىْ لا يعاقب،لذا لابد من وجود يوم آخر يعاقب فيه هذا المسىْ ويثاب فيه هذا المحسن ، ولابد من وجود اله يوجد هذا اليوم ويحاسب فيه الناس ويحقق العدالة.
دليل الإمكان والوجوب : وقال به ابن سينا ، ويتكون من مقدمات ثلاث هي:المقدمة الأولى: إنّ موجودات هذا العالم ممكنة الوجود، وهي ذاتاً لا تقتضي الوجود؛ إذ لو كان واحد منها واجب الوجود لتم إثبات المطلوب المقدمة الثانية: كل ممكن الوجود فهو محتاج في وجوده إلى علّة تمنحه الوجود. المقدمة الثالثة: استحالة الدور والتسلسل في العلل .النتيجة: إنّ كلّ واحد من موجودات هذا العالم _ الممكنة الوجود حسب الفرض _ يحتاج إلى العلّة الفاعلية، ويستحيل أن تمتد سلسلة العلل إلى ما لا نهاية، ولا يمكن أيضاً الدور؛ إذن لابدّ أن تنتهي سلسلة العلل من ناحية البدء إلى علّة ليست محتاجة إلى علّة, وهي التي نسميها واجب الوجود، وهو المطلوب
دليل الخلق والاختراع: وهو دليل أورده المتكلمين المسلمين ، ومضمونه إن وجود المخلوقات بعد العدم دليل على وجود الخالق ، وذلك لافتقار المخلوق إلى الخالق قال تعالى : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون)،ويرتكز هذا الدليل على فكرتين بديهيتين الأولى: حدوث المخلوقات ، وهذا معلوم بالمشاهدة في آحاد الحيوان والنبات ، وبالضرورة العقلية في سائر المخلوقات ، لأﻧﻬا مسخرة ، والمسخر مخترع من قبل غيره ضرورة.والثانية : حاجة المحدَث إلى محدِث : وهذه الفكرة معلومة بضرورة العقل، فالمحدَث لابد له من محدِث لا يفتقر إلى غيره، وهو الله تعالى.
دليل العناية: وقد أورده أيضا المتكلمين المسلمين ،ومضمونه أن ما في الوجود من مظاهر العناية بالمخلوقات عامة، والإنسان خاصة، هي دليل على وجود الخالق. ويدخل في هذا الدليل كثير من صور الاستدلال، منها :أ / دلالة الإتقان : فكل مخلوق يحمل من كمال الإتقان ما يدل على وجود خالقه وكمال ذاته وصفاته، قال تعالى ( صنع الله الذي الَّذِي َأتقنَ كُلَّ شيء). ب/ دلالة التناسق : فالعالم كله يخضع لسنن كونية متناسقة ، ثمرﺗﻬا الاتساق بين المخلوقات، والاتساق مع وجود الإنسان ، قال تعالى ( وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ).
الدليل الانثربولوجى : ومضمونه انه لا وجود لمجتمع بلا دين ، وكما يقول د. عصمت سيف الدولة فان الإلحاد " ليس إلا دين الملحدين يقوم فيهم بوظيفة الدين ".
دليل المحدودية : وأخيرا نقترح دليل أخر ، يستند إلى كل من الاستقراء التجريبي والاستدلال العقلي (المنطقي) ، اتساقا مع استناد القران الكريم إلى شكل من أشكال الاستدلال الذي يسبقه شكل من أشكال الاستقراء ،ويستفيد هذا الدليل من العديد من الادله التي أوردها المفكرين والفلاسفة لإثبات وجود الله تعالى ، والتي سبق ذكرها،ومضمون هذا الدليل هو:
ثبوت المحدودية الجزئية للكون بالاستقراء: يمكن أن نثبت بالاستقراء أن الكون محدود من عده جهات ومنها:
أولا : المحدويه الزمانيه والمكانية: فهو محدود بالوجود في المكان والحركة خلال الزمان،وبالتالي خاضع للتغير في المكان، والتحول(الطبيعي ) ، و التطور(الانسانى) خلال الزمان .
ثانيا : المحدودية السببية: كما أن حركته محدود بالسببية ، اى خاضعة لقوانين موضوعيه "كليه ونوعيه "، وهذه القوانين قائمه على أساس السببية، اى تحقق الأثر بتحقق السبب ، وتخلفه بتخلف السبب.
ثالثا: المحدودية الفردية : والكون مركب من أنواع يتصف إفرادها بالمحدودية ،فالنوع الانسانى مثلا يتكون من أفراد يتصف وجودهم الفاعل والغائي بالمحدودية(الميلاد ، الموت)، فهو فعل غائي محدود. .
الانتقال من المحدودية الجزئية إلى المحدودية الكلية للكون بالاستنباط: ومن الاستقراء السابق ، الذي يثبت أن الكون محدود من عده جهات (المحدودية الجزئية ) ، يمكن أن نستنبط أن الكون محدود من كل الجهات (المحدودية الكلية )،لان القول بان الكون محدود من جهة أو جهات معينه، وغير محدود من جهة أو جهات أخرى ينطوي على تناقض منطقي"كونه محدود وفى ذات الوقت مطلق "
الاحتمالات المنطقية لكيفية إيجاد الكون المحدود: أما كيفيه إيجاد هذا الكون المحدود فتخضع لفرضيتين :
الفرضية الأولى : أن عله إيجاد الكون وجود محدود ، وتنطوي هذه الفرضية على ثلاثة احتمالات هي:
الاحتمال الأول: أن يكون الكون غير محدود " مطلق "، وهذا الاحتمال - كما ذكرنا في النقطة السابقة - ينطوي على تناقض منطقي ، مضمونه أن يكون الكون محدود وفى ذات الوقت مطلق
الاحتمال الثاني : وان الكون وجد بالصدفة ، وهذا الاحتمال يتناقض مع حقيقة أن ألصدفه هي مفهوم ذاتي – انسانى –اى مرتبط بوجود الإنسان- في حين أن وجود الإنسان تالي لنشاه الكون- فهو آخر الموجودات نشاه (بعد الجماد والنبات والحيوان )، ومضمون الصدفة كمفهوم ذاتي - انسانى هو كل حدث يحدث دون معرفه إنسانيه مسبقة، ودون قصد انسانى، ومن هذا التعريف يتضح لنا أن الصدفة هي قصور في ألمعرفه (حدوث الحدث دون معرفه مسبقة )، وقصور في الاراده (حدوث الفعل دون قصد )، فهي دليل على محدودية الوجود الانسانى، بأبعاده المتعددة " المعرفية والاراديه ..." والخلق والإيجاد كمال، وبالتالي لا يمكن أن تكون الصدفة - بما هي قصور - عله نشاه الكون.
وبثبوت خطاْ الاحتمالات الثلاثة التي تشكل الفرضية الأولى يثبت خطاْ هذه الفرضية .
الاحتمال: الثالث:أن يوجد الكون المحدود وجود آخر محدود ، وهذا الاحتمال خاضع للتسلسل (الدور) ، ذلك أن هذا الوجود الأخر المحدود مفتقر في إيجاده - بحكم كونه محدود- إلى وجود آخر ، أما أن يكون محدود أيضا وهنا تتسلسل الحجة إلى مالا نهاية ، وإما أن يكون مطلق .
الفرضية الثانية : أن عله أيجاد الكون وجود مطلق،وبالتالي غيبي اى غائب عن حواس الإنسان ، يتصف بالفاعلية (الربوبية) ،والغائية (الالوهيه).
إثبات مفهوم التوحيد (التعدد صفه الوجود المحدود): والوجود المحدود- المحسوس- يتصف بالتعدد ، أما الوجود المطلق فهو وحده الذي يتصف يتصف بالوحدة ، لأنه لو تعدد لأصبح " محدودا" بغيره ،..وبهذا يثبت مفهوم التوحيد الذي مضمونه إفراد الوجود المطلق -الغيبي - والذي عبر عنه القران بمصطلح القيوميه - لله تعالى .
التحديد التكويني والتكليفى : وهذا الوجود المطلق الغيبي يحد الوجود " المحدود" للكون تكوينيا وتكليفيا .
أولا : التحديد التكويني : ويتمثل في أن القوانين الموضوعية (الكلية والنوعية ) ، التي تضبط حركه الوجود الشامل للطبيعة والإنسان، هي- طبقا لمستواها الميتافيزيقي – الغيبي – شكل تكويني للظهور صفاتي للفعل المطلق ( الذي عبر عنه القران بمصطلح الربوبية) في عالم الشهادة . فهى طبقا لهذا المستوى سنن إلهيه وليست قوانين طبيعيه . كما ان كون الكون ذو حركه منضبطة بقوانين موضوعيه يدل على وجود محرك لهذه الحركه، ضابط"منظم" لها ،واضع لهذه القوانين التي تضبطها.
ثانيا:التحديد التكليفى: ويتمثل في المفاهيم والقيم والقواعد الكلية التي جاء بها الوحي ، والتي ينبغي إن تضبط حركه الوجود الانسانى " فردا وجماعه" باعتبارها شكل تكليفى للظهور صفاتي للفعل المطلق (الربوبيه )،وهذا التحديد التكليفى يستند إلى التميز بين وجود (الوجود المطلق الغيبي) وماهيته ( اى خصائصه )، فالأول يمكن للعقل أن يدركه ويبرهن عليه ، أما الثاني فلا يمكن للعقل أن يتصوره إلا بالوحي.
الوجود الانسانى و ضرورة الإيمان بالغيب: وطبقا للتحديد التكويني والتكليفى للوجود الانسانى ، يتحول هذا الوجود من مجرد فعل غائى " مجرد تطور " إلى فعل غائى محدود تكوينيا وتكليفيا بفعل مطلق"الربوبية " وغاية مطلقه " الالوهيه" اى يتحول إلى كدح إلى الله تعالى بالتعبير القرانى ،وهنا تبرز ضرورة الإيمان بالغيب – أو ضرورة الميتافيزيقا بتعبير كانط " للوجود الانسانى لأدراك هذه الغاية المطلقة(الالوهيه)، وهذا الفعل المطلق (الربوبيه ).
القران ومعياري الاتساق " المنطقي" والتطابق " الواقعي ": كما استند القران الكريم في إثبات صحته ، وكونه وحى من عند الله تعالى إلى معياري الاتساق المنطقي كما فى قوله تعالى (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [النساء: 82] .والتطابق الواقعي كما في قوله تعالى(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ) (الحج: 46)،ومضمون الأخير اتساق القران مع القوانين الموضوعية ، التي تضبط حركه الوجود الشامل للطبيعة والإنسان.
الرد على دعوى أن تعارض الدين مع نظريه التطور العضوي هو تعارض مع العلم : وهناك دعوى أن نظريه التطور العضوي " التي مضمونها القول بوجود تطور في عالم الأحياء، اى أن التركيب المادي (العضوي) الحالي للكائنات الحية، لم يكن كذلك منذ بداية وجود هذه الكائنات الحية، ، بل أنه محصله تطور عضوي عبر مراحل زمنيه طويلة ، وطبقا لآليات متعددة " هى نظريه علميه، وبالتالي صحيحة ، فهي تمثل العلم والحقيقة العلمية ، وبالتالي فان كل ما يتعارض معها كالدين القائم على مفهوم الخلق يتعارض مع العلم والحقيقة العلمية، والرد على هذه الدعوى يتمثل فى تقرير حقيقة أن مفهوم التطور العضوي كان موجودا في التراث الفلسفي الغربي (الاغريقى)، لكن داروين نقل هذا المفهوم من مجال الفلسفة إلى مجال العلم عندما التزم بالمنهج العلمي في تناوله للمفهوم، غير أن انتماء المفهوم للعلم لا يعنى بأنه صحيح بالضرورة ، حيث أن ما هو علمي هو محصله تطبيق المنهج العلمي على الظاهرة المعينة ، لكن ما هو علمي قد يكون صحيحا إذا وافق الواقع والسنن والقوانين التي تضبط حركته، وقد يكون خطاْ أذا خالف هذا الواقع والسنن والقوانين التي تضبط حركته، وهنا نشير إلى أن نظريه التطور العضوي هي نظريه علميه (بمعنى أنها محصله تطبيق المنهج العلمي في ظاهره الصلة بين الأنواع)، لكنها تنطوي على قدر كبير من الخطأ لعده أسباب أهمها :أولا: أنها تتناقض مع قوانين علم الوراثة ، التي تثبت أن لكل كائن حي خريطة وراثية مختلفة عن الخريطة الوراثية للكائنات الأخرى، ثانيا : أن الطبيعة حتى في عالم الأحياء تتحول ولا تتطور ، غير انه يجب تقرير أن نظريه التطور العضوي رغم أنها تنتمي إلى مجال العلم، إلا أنها تنتمي إلى فروع التي تنطوي تحت مجال فلسفه العلم(اى المفاهيم الكلية المجردة السابقة على البحث العلم في الظاهرة المعينة)،أكثر من انتمائها إلى فروعه التي تنطوي تحت مجال العلم التجريبي(اى الظواهر الجزئية العينية والقوانين التي تضبط حركتها)، لأنها لا تبحث في نوع معين في زمان ومكان معينين ، بل تبحث في الصلة بين كل الأنواع في كل زمان ومكان، فهي تعميم في الزمان والمكان، هذا فضلا عن أنها افتراض وليست قانون علمي تثبت التحقق من صحته بالتجربة والاختبار العلميين. ويترتب على ما سبق أن تعارض الدين مع نظريه التطور العضوي ( لانه يلزم منها منطقيا نفى وجود فاعل مطلق اوجد الكائنات الحية المختلفة،أو نفى فاعليه هذا الفاعل المطلق،بصرف النظر عن الاعتقاد الذاتي لمن يعتقد بصحة هذه النظرية ) لا يترتب عليه تعارض الدين مع العلم.