تأليف محمد محمد يونس علي
يفرق بول قرايس Paul Grice بين نوعين أساسيين من المعنى: المنطوق والمفهوم، ويقصد بالمنطوق (أو المعنى الوضعي للجملة) محتواها الدلالي الذي يشمل مجموع المعاني القواعدية (الصرفية والنحوية) والمعاني المعجمية التي تتضمنها، والتي يشير مجموعها إلى النسبة الخارجية (الموجودة خارج الذهن). كما يشمل أيضا تحديد الأوقات والمراجع التي تحيل عليها التعبيرات المشيرة.[3] وقد درج اللسانيون إلى مساواة معنى الجملة الوضعي بنسبتها الخارجية أو اشتراط صحتها its truth condition كما يعرف في اللسانيات. ويمكن أن يمثل لذلك بـ (1) التي لا يمكن أن تكون صادقة إلا إذا كانت لبريطانيا ملكة وكانت من أثرى سيدات العالم. وهذا المعنى يفهم من مجموع المعاني القواعدية والمعجمية التي تتضمنها الجملة ولا يحتاج استنباطه إلى استدلالات منطقية ولا اعتماد على أصول تخاطبية.
(1) ملكة بريطانيا من أثرى سيدات العالم.
ويتسم المعنى الوضعي كما يذكر قراندي Grundy بعدم قبوله للإلغاء أو الإبطال دون الوقوع في تناقض،[4] إذ لا يمكن أن نضيف على الجملة السابقة العبارة (2) مثلا دون أن نقع في تناقض بين (1) و (2).
(2) ولكنها فقيرة.
وإذا ما أُقِرّ معيار قبول الإلغاء هذا لاكتشاف المعنى الوضعي، فسيصبح كلٌّ من التضمن والافتراض داخلين في تعريف المعنى الوضعي، ويبدو هذا ما ذهب إليه معظم الأصوليين عندما أقروا بأن دلالة التضمن من قبيل المعنى الوضعي، وإن خالف في ذلك الرازي وأتباعه.[5] وذلك لأن التضمن والافتراض أيضا لا يقبلان الإلغاء كما سنبين في موضع الحديث عنهما.
وهكذا فإن ما يقصده قرايس بالمنطوق what is said إنما هو المحتوى المنطقي للقولة اللغوية أو النسبة الخارجية the truth condition التي تشير إليها في الخارج. وكل ما يخرج عن هذه النسبة فهو داخل في المفهوم implicature. ومن الواضح أن تعريف المفهوم عنده إنما هو تعريف سلبي يشمل مجموعة غير متناغمة من المعاني لا يجمع بينها غير كونها لا تدخل في المنطوق.[6]
ويرتبط تفريق قرايس بين المنطوق والمفهوم كما يذكر هورن Horn بالتفريق التقليدي بين صيغة الجملة المرتبطة بنسبتها الخارجية ومحتواها الذي لا يرتبط بنسبتها الخارجية.[7] ومن ناحية أخرى يرتبط التفريق بين المنطوق والمفهوم كذلك بين علم الدلالة semantics وعلم التخاطب pragmatics، فبينما ينتمي الأول إلى الدلالة يندرج الآخر في إطار التخاطب.
وقد قدم قرايس بعض المعايير التي تميز المفهوم التخاطبي conversational implicature بوضوح من التضمن entailment ونحوه من المعاني المنطقية والوضعية يمكن تلخيصها في الآتي:
(أ) أن المفهوم التخاطبي يحتاج إلى ‘تأمّل’ worked out[8] تحكمه أصول التعاون ‘Cooperative Principles’.
(ب) أنه قابل للإلغاء cancelability أو للإبطال [9]defeasible وهو يعني أنه من الممكن إبطاله، كما في (3) التي ينشأ عنها المفهوم (4) حيث يمكن إبطاله أو إلغاؤه كما في (5)، خلافا للتضمن الذي لا يمكن فيه ذلك دون الوقوع في تناقض صريح كما في (6) التي تتضمن ضرورة (7)؛ ولذا لا يمكن إلغاء ما تتضمنه بقولنا (8) إلا بالوقوع في تناقض بين (6) و(7).
(3) أحمد يملك سيّارتين.
(4) أحمد يملك سيّارتين فقط لا غير.
(5) أحمد يملك سيّارتين، لا بل ثلاث.
(6) قابيل قتل هابيلا.
(7) هابيل مات.
(8) قابيل قتل هبيلا، ولكن هابيلا لم يمت.
(ت) أنه غير قابل للانفكاك non-detachability،[10] ويقصد به أن تغيير صيغة القولة لفظا مع عدم المساس بالمعنى لا يؤدي إلى إلغاء المفهوم التخاطبي؛ لارتباطه بالمعنى وليس باللفظ؛ فأي تغيير في القولة (9) إلى أي من مرادفاتها الممكنة لا يؤول إلى إلغاء مفهومها في (10).[11]
(9) في الغنم السائمة زكاة.
(10) ليس في الغنم المعلوفة زكاة.
(ث) أنه ليس جزءا من الصيغة المنطوقة، أي أنه ليس وضعيا، ولذا فإن المنطوق قد يكون صادقا والمفهوم كاذبا.[12]
(ج) أنه لا يستمد من المنطوق بل من الطريقة التي نطق بها.[13]
(ح) أنه ظني الدلالة indeterminate.[14]
ويمكن أن نضيف إلى ذلك
(خ) قابلية التأكيد reinforceability، ويقصد بها إمكان تأكيد المفهوم الذي يفهم من قولة ما دون الوقوع في الحشو. ويمكن أن يمثل لذلك بـ (11) التي يفهم منها (12) حيث أضيف إليها المؤكد ‘لا في المعلوفة’ في (13) دون أن تكون الإضافة حشوا، خلافا للتضمن الذي لا يكون تأكيده إلا حشوا كما إذا ما أكدنا (15) المفهومة بدلالة التضمن من (14) بـقولنا (16)، فيؤدي ذلك إلى حشو جلي غير مقبول.
(11) في الغنم السائمة زكاة.
(12) ليس في الغنم المعلوفة زكاة.
(13) في الغنم السائمة، لا في المعلوفة، زكاة.
(14) قتل قابيل هابيلا.
(15) مات هابيل.
(16) فمات هابيل.