الإنسان والحضارة ... مغزى العلاقة
عمر طرواية 13-11-2013
تاريخ الفلسفة هو تاريخ تفكير ومشكلات أساسية قد ظهرت والوجود الإنساني ، فكل حقبة زمنية أو عصر من هذا التاريخ إلاّ ويتميز بطابع فكري فلسفي يتميز عن سابقيه من العصور الأخرى ، وهذا من أجل فهم هذا الإنسان وموضوعه ، ذلك الكائن ( المجهول ) – أليكس كاريل – الذي يريد أن يثبت وجوده ومكانته في هذا العالم ومن ثمّ تحقيق مستقبله على أحسن وجه . لذا فإنّ مسألة مستقبل الإنسان نفسه ، صورته الاجتماعية المقبلة ، قد شكلت إحدى المسائل الرئيسية التي شغلت ومازالت تشغل اهتمام المفكرين والفلاسفة ، وبالتحديد مع مطلع القرن العشرين أي مع الفلسفة المعاصرة التي تميزت بظهور عدّة مذاهب ومدارس فلسفية قامت على مبادئ و أسس غايتها حل جذري المعقدة يعيشها الإنسان الأوروبي والوجود البشري عموما . فبعدما كانت الطبيعة – في البداية – تشكل بالنسبة له كعائق أمام تحقيق مشروعه وهي ( الحضارة ) ، فما لبث أن اكتشف العكس و أنما هي بمثابة نقطة انطلاق التطور الإنساني وهو جزء منها ، فالوحدة المتكاملة بينها تجعل نشؤ وتطور الحضارة أمرا واقعيا لا غنى عنها.
ولكن مع تغير التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية وتغير معنى الحضارة في حد ذاتها وتأثيرها المستمر على واقع الإنسان ، تعامل المفكرين مع مشكلة هذا الأخير بمنظور ورؤى مغايرة ، عندما اكتشفوا أن المشكل لم يبقى على مستوى علاقة إنسان – طبيعة ، وهي علاقة وإنما تعددت إلى مستوى جديد وأكثر غموض وهي علاقة إنسان – إنسان ، وهي علاقة ظهر معها تصور يقول بإنعدام احتمال تحسن وضع الإنسان - الذي يسعى إلى تحقيق حضارة إنسانية – في العالم ومن انسداد آفاق المستقبل ، حيث تسأل الفلاسفة : هل يستطيع الإنسان من خلال هذه العلاقة – سواء على المستوى الفردي أو الجماعي – أن يغيّر العالم ، ومن ثمّ تحقيق حضارة قائمة على السلام العالمي بالمفهوم الكانطي ؟
إشكالية تطرق إليها العديد من الفلاسفة المعاصرين في أوروبا ، ونذكر بالخصوص – على سبيل المثال - أحد الفلاسفة الألمان الذي ذاع صيته في ألمانيا وفي كل أرجاء أوروبا ، وأخذ اهتمام المفكرين به من خارج القارة الأوروبية . ألاّ وهو " آكسل هونيث "من مواليد 1949 الفيلسوف الذي يعدّ حاليا من الركائز الأساسية لأصحاب النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت . وانطلاقا من مفهوم ( الاعتراف ) سيتعامل صاحب كتاب " الصراع من أجل الاعتراف " مع مشكلة الإنسان بقراءة جديدة عنه مقدما لنا فلسفة تعود بنا إلى الفلسفة الغربية الحديثة وبالضبط مع " هيقل " في جدلية ( السيد والعبد )، إضافة إلى الاضطلاع على بعض أفكار علماء الاجتماع وعلماء النفس المعاصرين . وهي خطوة يوضح فيها السبل المناسبة – حسب رأيه – إلى التقدم بالإنسان نحو حريته واستقلاليته وشموليته ، " لأن – كما يقول انجلز- كل خطوة إلى الأمام في ميدان الحضارة قد كانت خطوة إلى الأمام في اتجاه الحرية ."1
ولهذا الموضوع أهمية كبرى ، والتي تبرز داخل هذه العلاقة الجدلية ( الإنسان والحضارة ) ، فإنها تعمل على تكوين الإنسان وصيرورته كشخصية يكشف عن أهمية العلاقات الاجتماعية وطرق تقدم الشخصية ، إضافة إلى الكشف عن الأسباب الاجتماعية التي تؤدي إلى استعباد واغتراب الإنسان وأنواع الاحتقار التي تسلب حريته . لأن الحضارة لا تتحقق إلاّ بعد فهم هذا الإنسان انطلاقا من جميع قواه الجوهرية ( المادية والروحية ) وتفعيلها بشكل ايجابي داخل النسيج الاجتماعي، وهذا الأخير بدوره يكون خال من جميع أشكال التبعية والخضوع والاستبعاد ، ولكن يتسم بأشكال الاعتراف المتبادل و التسامح وإدراك حقوق الإنسان إدراك جيدا ، وبالتالي فإنّ الإنسان بتغييره للظروف المادية و الروحية لوجوده ، يغيّر في الوقت ذاته هو أيضا .
هذه هي العناصر الأساسية التي كانت بمثابة مشروع مستقبلي مرتبط بالوجود البشري عموما، قد صاغها في ثلاث أشكال معيارية : الحب والحق والتضامن . أشكال تمثل في الوقت نفسه دعائم براديغماه ( الاعتراف ) ، محاولا بهذا المفهوم – على حد قول الدكتور كمال بومنير – " تأسيس نظرية في الأخلاق الاجتماعية التي تستند في كثير من الأحيان على التحليل ( الفينومينولوجي ) للإهانات الأخلاقية وأعظمها الاحتقار ( الفيزيائي ) كالاغتصاب والتعذيب وهما شكلان أساسيان من الاستعباد الذي قد يتعرض له الإنسان ويحرمه من نمط العلاقة التي تربطه بذاته المستقلة وبجسده ، فتقضي على جانب من ثقته الأساسية بمحيطه . "2
هذه الإشكال الثلاثة التي صاغها "هونيت"ضمن فلسفته النقدية هي بمثابة تجاوز وتحديث لمفهوم الاعتراف عند هيغل وأكثر من ذالك كانت بمثابة توسيع للنظرية التواصلية عند "هابرماس" التي كانت " تمثل اسهاما واضحا في تشكيل الأفق المعرفي للنظرية ومدّها بوسائل التجدد والتقدم الدائمين ، من خلال عقل تواصلي كشفي يقوم على تحليل الواقع الاجتماعي وتجديد علائقه المتشابكة القائمة بين النظرية والواقع ، بين النظرية والتاريخ ، بين العلم والعمل ، وهذا لكي يصل ( هابرماس ) _ في آخر المطاف _ إلى إظهار الأدوار المتبادلة بين ( النحن ) و ( الأخر ) على أساس حواري لغوي بين فئات المجتمع المتعددة والمتباينة ايديولوجيا وطبقيا " 3
وهذه الفكرة الأخيرة لم يتقبلها تلميذه ( هونيث ) بأن لايمكن حصر شكل واحد - وهي اللغة - يكون كمعيار نفهم به ما بداخل الإنسان وعلاقته الاجتماعية مع أخيه الإنسان . فاللغة غير كافية لتبرير ما يحدث في المجتمع البشري من صراع وعنف واحتقار للذات واستعبادها ، فحدود اللغة يجعلها تكشف فقط ما هو خارجي وظاهر من سلوكات الإنسان وانفعالاته لا غير. وكأن بـ ( هونيث ) له حظ أوفر من التفاؤل مقارنة بأستاذه ( هابرماس ) في اشكالية العلاقة القائمة بين مختلف فئات المجتمع وما ينتج عنها من مشاكل سوسيو- ثقافية وأخرى دينية و اقتصادية ، ساعدت الفيلسوف أن يستخلص من هذه المظاهر معاني اللاعنف والتسامح وتقدير الذات والاعتراف بالآخر ، ومن ثمّ تحقيق ( حضارة إنسانية ) بمعنى الكلمة تقوم على مبدأ يتوازن فيه بين ما هو اتيقي وما هو مادي .
ولعل أن هاجس الواقع العربي وما يعيشه من تمزقات سياسية ودينية واجتماعية ... الخ ، والتي زادت من حدّة التوتر بين أفراد المجتمع الواحد يعود سببه إلى عنصر ( اللغة ) . وهذه الأخيرة عندما منحنا لها قيمة كبرى أكثر من حقها جعلت حوارنا مجرد كلمات وحروف ( رنانة ) تطرب آذان مستمعيه ، وذلك بهدف تحقيق مصلحة أو مصالح معينة ، أي أصبح الحوار – في شتى علاقاتنا الاجتماعية – ظرفي مؤقت غير دائم لا يعترف بقيمة الإنسان أو بالبعد الأخلاقي الذي ينبغي على المخاطب أن يدلي به كرسائل رمزية للسامع . فهذه الآفة قد تجذرت داخل ثقافتنا و فكرنا حتى أصبحنا – كما يقول عبد الكريم بكار – " لا ندري دراية حسنة بجذور مشكلاتنا والآليات التي تجعلها تستمر وتتكاثر ، كما أن خبرتنا بالخيوط التي تربط بين مشكلاتنا العديدة أيضا متواضعة . "4
وعليه ، إن تحقيق ( حضارة عربية وإسلامية ) من جديد لا يكون إلاّ من خلال الإدراك الجيد والواعي لمحاور التحضر المختلفة المتنوعة ، وتصنيفها حسب متطلبات النهضة و مقتضاياتها بدء من التركيز الأكبر على المحاور الأساسية : كالحفاظ على إنسانية الإنسان باعتباره شخص فعّال لديه رصيد أخلاقي وتواصل اجتماعي ، يؤثر ويتأثر مع كل فئات المجتمع دون قهر أو استعباد أو احتقار لشخصيته . انتقالا إلى المحاور الثانوية المتمثلة في الاهتمام بالجوانب المادية الاقتصادية التي تتوافق والجانب الأخلاقي لكي تكتمل شروط الحضارة . فهذه الأخيرة لا تحتاج إلى مؤسسات أو منظمات حقوقية تدعو إلى احترام بنودها و قرراتها المتعلقة بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ونبذ العنف والدعوة إلى التسامح وحوار الحضارات ، و أنما الحرية تأتي من داخل الإنسان الواعي الذي يحمل بداخله هم إنسانيته وهم إنسانية الآخرين كذلك.
- المراجع :
1 – فيصل عباس ، الفلسفة والإنسان : جدلية العلاقة بين الإنسان والحضارة .
2 – كمال بومنير ، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت .. من هوركهايمر إلى آكسل هونيث .
3 – عمر مهيبل ، من النسق إلى الذات .. قراءات في الفكر الغربي المعاصر .
4 – عبد الكريم بكار ، نحو فهم أعمق للواقع الإسلامي .