حوار بين فيليب نيمو وإيمانويل ليفيناس:
يعتبر الوجه عند ليفيناس المفهوم المركزي الذي تتأسس عليه الأخلاق كفلسفة أولي. وقد جاء هذا المفهوم ردا علي امبريالية الوعي عند هوسرل. الوعي الذي يكوّن الآخر والعالم الخارجي. الوعي كمصدر للمعني، وكأولوية للأنا كما طوره هوسرل في التأملات الديكارتية كما في الأفكار.
أخلاق ليفيناس، بعكس ذلك، تقوم علي أولوية الآخر، وتتأسس علي تفكيك مزدوج، تفكيك لسلطة الذات أو الوعي من جهة (هوسرل) ولحيادية الكينونة الهايدغرية وعمائها تجاه الآخر أو سباتها الأخلاقي من جهة أخري.
إن الأخلاق، أو أخلاق الأخلاق ، بلغة ليفيناس، هي التقاء بالآخر؛ الآخر المنسي، المهمش والمستعمر. لقاء لا يطلب ابتلاع الآخر واقحامه بكلية الأنا ومنطقها المونادولوجي، منطق البيوت التي لا تملك نوافذ كما هو الحال عند لايبنتز. فالفعل الأخلاقي يتحقق كقطيعة، والآخر ليس أنا ثانية alter ego. وفعل الالتقاء بالآخر فعل مباشر لا يقوم علي قانون أخلاقي محدد كما هو الحال عند هابرماس مثلا، والعلاقة الأخلاقية ليست علاقة معرفة، فالأخلاق سابقة علي النظرية، فقبل الكوجيطو تأتي التحية، يقول ليفيناس. وكما يكتب دريدا في الميتافيزيقا والعنف : صحيح أن الأخلاق عند ليفيناس هي أخلاق بدون قانون ومفهوم، وهي لا تحافظ علي طهارتها اللا ـ عنيفة إلا قبل تحديدها في قوانين ومفاهيم. ليس الأمر هنا اعتراضا: لا يجب أن ننسي أن ليفيناس لا يريد أن يقترح علينا قوانين وقواعد أخلاقية، إنه لا يريد تحديد الأخلاق ولكن جوهر العلاقة الأخلاقية عموما .
إن الأخلاق خروج excendance من الكينونة ومن حياديتها تجاه الموجود. إنها خروج إلي الآخر. لم يكن هذا الآخر ممكنا في الفلسفة الغربية إلا كصورة طبق الأصل للأنا، فاللحظة الأنطولوجية التي تتحقق عبر الفلسفة، كما يري ليفيناس في الكلية واللانهائي ، تقوم علي ابطال أو تحويل غيرية الآخر، وبلغة أخري، علي تعميم حضور الشبيه أو الحرية. الحرية كسيطرة، والأنا العارفة كمصدر لكل معني وبوتقة لهذا التحويل. غير أن وجه الآخر لا يمكن اختزاله في معني. إنه تحد لعنف الوعي ومنطق الشبيه. فهو اللانهائي بامتياز.
نص الحوار:
نيمو: في الكلي واللانهائي تتحدثون طويلا عن الوجه. إنه من المواضيع التي تتكرر عندكم. مم تتكون فينمينولوجيا الوجه هذه وما فائدتها؟ وبلغة أخري: هذا التحليل لما يحدث حين أبصر بالآخر وجها لوجه؟
ليفيناس: لا أعرف إن كان بالإمكان الحديث عن فينمينولوجيا للوجه، بما أن الفينمينولوجيا هي وصف للظاهر. في نفس الوقت، أتساءل إن كان بالإمكان الحديث عن نظرة موجهة إلي الوجه، ذلك أن النظرة معرفة وإدراك حسي. أعتقد، خلافا لذلك، بأن السبيل إلي الوجه هو في الواقع أخلاقي.
فحين ترون أنفا، عيونا، جبينا، ذقنا، وتستطيعون وصفها، فإنكم تنظرون إلي الآخر نظركم إلي موضوع. أفضل طريقة للقاء الآخر هي أن لا يتبين المرء حتي لون عينيه فحين نبصر لون العينين، لا نكون في علاقة اجتماعية مع الآخر. وطبعا يمكن للعلاقة مع الوجه أن تكون محكومة بالإدراك الحسي، ولكن ما هو خاصة وجه، هو ما لا يمكن اختزاله. هناك بداية صفاء الوجه ذاته، ظهوره الواضح، دون دفاع. جلد الوجه هو ما يظل الأكثر عريا، الأكثر فقرا. الأكثر عريا حتي لو كان عريا محتشما.
الأكثر فقرا أيضا، لأن هناك في الوجه فقرا أساسيا، ودليل ذلك أننا نحاول دائما أن نلبسه قناعا من الفقر، ونحن نتصنع أشكالا، هيئة. الوجه معروض، مهدد، كما لو أنه يدعونا إلي فعل عنف. وفي نفس الآن، الوجه هو ما يمنعنا من اقتراف القتل. نيمو: يوميات الحروب تخبرنا بأنه من الصعب قتل انسان يحدق فينا بعينيه وجها لوجه.
ليفيناس: الوجه دلالة. دلالة لا سياق لها. أريد بذلك أن أقول بأن الآخر في استقامة وجهه، ليس شخصا في سياق. عادة ما نمثل شخصا ما: أستاذا في السوربون، نائبا للرئيس في مجلس الدولة، ابن فلان أو علان، كل ما يوجد في الجواز، طريقة اللباس والظهور، وكل دلالة في المعني العادي للكلمة، تتعلق بسياق ما:
معني شيء ما يرتبط بعلاقته مع شيء آخر. هنا يحدث العكس. الوجه معني مستقل بذاته. أنت هو أنت. بهذا المعني، يمكن أن نقول أن الوجه ليس مرئيا . إنه ما لا يمكن احتواؤه، يقودكم إلي الماوراء. ولهذا فإن دلالة الوجه تخرجه من الكينونة، من الكينونة المرتبطة بالمعرفة. بالعكس فإن الرؤية بحث عن التطابق، إنها ما يبتلع الكينونة بامتياز. لكن العلاقة مع الوجه هي بدءا أخلاقية: الوجه هو ما لا يمكن قتله، أو علي الأقل ما يقوم معناه علي جملة: لن تقتل .
القتل هو فعلا عمل تافه: يمكن أن نقتل الآخر، الواجب الأخلاقي ليس ضرورة أنطولجية. منع القتل لا يجعل القتل مستحيلا، حتي لو كانت سلطة المنع تبقي مرتبطة بعذاب الضمير الذي يعقب فعل السوء ـ إنه مكر الشر. والمنع يظهر أيضا في الكتابات التي تبدو انسانية الانسان بالنسبة إليها، مكشوفة في العالم أكثر منها التزاما فيه. لكن في الواقع فإن الظهور في الواقع لهذه الأخلاق الغريبة ـ انسانية الإنسان ـ هو تصدع للكينونة. إنها ذات دلالة حتي ولو كانت الكينونة تتوحد وتعود إلي ذاتها من جديد.
نيمو: الآخر وجه. لكن الآخر يكلمني أيضا وأكلمه. أليس الخطاب الإنساني هو أيضا طريقة للقطع مع ما تسمونه كلية ؟
ليفيناس: لا ريب في ذلك. الوجه والخطاب يرتبطان ببعضهما البعض. الوجه يتكلم. يتكلم بما أنه هو من يجعل الخطاب ممكنا ومن يبدأه. رفضت قبل قليل استعمال مفهوم الرؤية من أجل وصف العلاقة الأصلية مع الآخر. إنه الخطاب، وبالضبط، الجواب أو المسؤولية من يمثل هذه العلاقة الأصلية.
نيمو: ولكن بما أن العلاقة الأخلاقية هي ماوراء المعرفة، ومن جهة ثانية هي أصلا ينهض بها الخطاب، فهذا يعني أن الخطاب نفسه لا ينتمي إلي نظام المعرفة؟
ليفيناس: لقد ميزت دائما في الخطاب بين القول والمقول (2). وأن يتضمن القول مقولا هو ضرورة من نفس النظام الذي يفترض مجتمعا بقوانينه ومؤسساته وعلاقاته الاجتماعية.
لكن القول يعني أنني أمام الوجه لا أكتفي فقط بتأمله، بل إني أجيب سؤاله. القول هو طريقة لالقاء التحية علي الآخر، لكن إلقاء التحية علي الآخر هو قبلا تحمل مسؤولية هذا الآخر. من الصعب الخلود إلي الصمت في حضور الآخر. هذه الصعوبة تجد أصلها النهائي في الدلالة الخاصة بالقول، كيفما كان المقول. يجب أن نتحدث عن شيء ما، عن المطر وعن الجو الجميل، ليس مهما، ولكن أن نتكلم، أن نجيبه وأن نتحمل مسؤوليته.
نيمو: في وجه الآخر، يوجد كما تقولون نوع من العلو . الآخر أكثر علوا مني. ما الذي تريدون قوله بذلك؟
ليفيناس: لن تقتل البتة هو الكلمة الأولي التي ينبس بها الوجه. لكن ذلك أمرٌ. إن في ظهور الوجه نوع من السلطة أو الإمرة، كما لو أن سيدا يكلمني. ومع ذلك، فإن وجه الآخر هو في نفس الآن عار. إنه الفقير الذي أستطيع من أجله فعل كل شيء، والذي أنا مدين له بكل شيء. وأنا، كيفما أكون، ولكن أنا كمتكلم، هو من يبحث عن موارد من أجل تلبية النداء.
نيمو: نرغب في القول لكم: أجل، في بعض الحالات... ولكن في حالات أخر، العكس هو الصحيح، فاللقاء بالآخر يحدث كعنف وحقد واحتقار.
ليفيناس: بالتأكيد. لكني أعتقد أنه كيفما كان الحافز الذي يفسر هذا التناقض، فإن تحليل الوجه الذي قمت به، والذي يتضمن سلطة الآخر وفقره، طاعتي وغناي، يملك الأسبقية علي كل ذلك. إنه ما تقتضيه كل العلاقات الإنسانية. لو لم يكن الأمر هكذا، فلن نقول مثلا أمام باب مفتوح: من بعدك، سيدي! . إن هذه الجملة الأصلية من بعدك، سيدي! هي ما حاولت وصفه.
تحدثتم عن عاطفة الحقد. كنت أخشي اعتراضا أكبر من ذلك. مثلا: كيف يمكننا أن نعاقب وأن نقمع؟ ولماذا توجد عدالة؟ وأجيب بأن واقعة تعدد البشر، حضور الثالث بالقرب من الآخر، هي من تحدد القوانين وتؤسس العدالة. إذا ما كنت لوحدي برفقة الآخر، فإني مدين له بكل شيء. لكن هناك الثالث. هل أعرف ما الذي يمثله الآخر بالنسبة للثالث؟ هل أعرف إذا ما كان الثالث يعيش في وفاق معه أو هو ضحيته؟ ومن هو قريبي؟ يجب، نتيجة لذلك، أن نزن، نفكر، نصدر حكما، عن طريق مقارنة ما لا يمكن مقارنته. العلاقة البيشخصية التي أقيمها مع الآخر، يجب أن أقيمها أيضا مع الآخرين. إذن، فهناك ضرورة لتلطيف امتياز الآخر هذا. ومن هنا تأتي العدالة. العدالة التي تنهجها المؤسسات ـ هذه المؤسسات التي لا مفر منها ـ هذه العدالة يجب دائما أن تتم مراقبتها من طرف العلاقة البيشخصية الأولية.
نيمو: هذه إذن هي التجربة الأساسية في ميتافيزيقاكم. التجربة التي تسمح بالخروج من أنطولوجيا هايدغر، أنطولوجيا الحياد، أنطولوجيا بلا أخلاق. هل انطلاقا من هذه التجربة الأخلاقية تبنون أخلاقكم ؟ لكن الأخلاق تتكون من قواعد. يجب بناء هذه القواعد إذن؟
ليفيناس: مهمتي لا تكمن في بناء أخلاق. أحاول فقط بحث معني هذه الأخلاق. لا أعتقد بأنه يتوجب علي كل فلسفة أن يكون لها مشروع أو برنامج. هوسرل خصوصا من انتصر لفكرة الفلسفة كمشروع. لا غرو أنه بالإمكان بناء أخلاق اعتمادا علي ما قلته، لكن ليس ذلك موضوعي.
نيمو: هل يمكن أن توضحوا لماذا اكتشاف الأخلاق في الوجه يقطع مع فلسفات الكلية؟
ليفيناس: المعرفة المطلقة كما بحثت عنها الفلسفة ووعدتنا بها وأوصت بها، هي فكر الشبيه. فالكينونة تدرك نفسها في الحقيقة. وحتي لو تم اعتبار الحقيقة كشيء غير قطعي، هناك وعد بحقيقة أكثر اكتمالاً ومطابقة. لا ريب أن الكائن النهائي الذي نمثله، لا يستطيع، في نهاية المطاف، اتمام مهمة المعرفة.
لكن، عند الحد الذي تتحقق فيه هذه المهمة، يتحول الآخر إلي شبيه. في المقابل، فإن فكرة اللانهائي تتضمن فكرة المغاير. أنطلق من فكرة اللانهائي الديكارتية، أو موضوع هذه الفكرة، وأعني به ما تؤشر عليه هذه الفكرة، هو أكبر بشكل لانهائي من الفعل الذي نفكر عبره فيه. هناك تباين بين الفعل وبين ما يفضي إليه هذا الفعل. بالنسبة لديكارت، فهذا دليل من أدلة وجود الإله: الفكر لم يستطع انتاج شيء يتجاوزه. يتوجب إذن أن يكون هذا الشيء قد زرع بداخلنا. يجب إذن القبول بوجود إله لانهائي، زرع فينا فكرة اللانهائي.
لكن ليس هذا الدليل الذي بحث عنه ديكارت ما يهمني في هذا المقام. أفكر هنا، وفي دهشة، بهذا التباين بين ما يسميه الواقع الموضوعي و الواقع الصوري لفكرة الإله، بمفارقة هذه الفكرة ذاتها ـ الضد ـ إغريقية إلي أبعد الحدود ـ المزروعة بداخلي، في الوقت الذي يعلمنا سقراط أنه من المستحيل وضع فكرة في فكر ما، دون أن يكون هذا الفكر نفسه من وجدها.
لكن في الوجه، كما وصفت مقاربته، يتحقق نفس التجاوز للفعل عن طريق ما أفضي إليه. ففي عملية الالتقاء بالوجه هناك، بالطبع، التقاء بفكرة الإله. عند ديكارت تظل فكرة اللانهائي نظرية، نوع من التأمل، معرفة. أعتقد، بالنسبة إلي، بأن العلاقة مع اللانهائي ليست معرفة، بل رغبة (3). لقد حاولت وصف الاختلاف بين الرغبة والحاجة. الرغبة لا يمكن إشباعها، فالرغبة تقتات علي جوعها وتزداد مع إشباعها.. إن الرغبة مثل فكر يفكر أكثر مما لا يفكر، أو أكثر مما يفكر. بنية مفارقة لا غرو، ولكن ليست أكثر مفارقة من هذا الحضور للانهائي في فعل نهائي.
هوامش المترجم:
(1) النص الذي نقدم اليوم ترجمته مأخوذ من كتاب الأخلاق واللانهائي، وهو عبارة عن محاورات فلسفية مع ليفيناس، يمكن اعتبارها مقدمة أو توطئة لفلسفته الثالثة. وقد اخترنا هذا النص بالضبط، نظرا لمركزية مفهوم الوجه عند ليفيناس، هذا المفهوم السابق علي كل مفهوم آخر، فبه وعبره تتأسس اللغة، أصل كل علاقة مع الآخر، ذلك أن اللغة أو الكلام المنطوق يحتاج دائما إلي مخاطب، بعكس الوعي الفينمينولوجي الذي يظل أحادي البعد في علاقته مع الآخر، أحادي، كما يقول أقطاب الفلسفة الحوارية توينيسن وفالدنفلز، لأن كل شيء يتحقق بداخل الذات، ولأن الذات هي من تكسب الآخر معني وحقيقة، ولأن حركة هذه العلاقة تتجه دائما من الأنا إلي الآخر كما عبر سارتر أيضا في الوجود والعدم. عنوان المصدر بالفرنسية:
ƒthique et infini, Fayard 1982, p :79-87
(2) Le dire/ le dit
القول والمقول: القول سابق علي الدلالة أو المنطق النحوي. إنه تعرض للآخر، أو هو الوجود من أجل الآخر. إنه لغة سابقة علي الكلمات، أو ما يسميه ليفيناس: دلالة الدلالة . أو المؤسس لكل دلالة. في حين أن المقول هو ما ينتج عن موضوع وما يتأسس داخل المنطق النحوي. إنه ماهية بعكس القول الذي يسبق كل ماهية. إن القول هو الأمر الأخلاقي كما يتحقق في الوجه.
(3) Dژsir/ besoin
الرغبة والحاجة: العلاقة مع اللانهائي تحقق حسب ليفيناس كرغبة. إنها علاقة حسية وليست نظرية. ولكن ليفيناس يسم الرغبة بصفة الميتافيزيقي وذلك من أجل تمييز الرغبة عن الحاجة التي هي شيء اجتماعي. الحاجة صفة الأنا الأنانية التي تبحث عن سعادتها. الرغبة تتحقق كآخر، والمرغوب فيه لا يمكن بلوغه من طرف الأنا. إنه في حالة هروب دائمة.
ـ من أجل اطلاع أوسع علي مصطلحات الفلسفة الليفيناسية يمكن الرجوع إلي المعجم التالي:
Le vocabulaire de Lژvinas, ellipses 2002.