- نظريات التواصل :
1-1- دي سوسير والتواصل:
تنطلق فكرة دي سوسور حول التواصل من منطلق تفسير دورة الكلام التي تفترض داخلها وجود شخصن على الأقل من أجل استواء عملية التواصل وهذه العملية التي تنطلق حسب دي سوسور من المرسل إلى المرسل إليه إذ يلعب فيها الدماغ باعتباره الجامع للتصورات و"المرتبط بالأدلة اللسانية أو الصور الإصغائية المستعملة للتعبير" ، فإذا فصلنا في هذه النقطة وجدنا أن الدماغ في عملية التصور يستقبل منطوق لغوي الذي هو التعبير ليتطابق مع الصورة، لذلك يكون الترابط بين الدماغ واللسان من أجل إتمام عملية النطق على وجه المطابقة للصورة الإصغائية، ويكون موجها إلى النقطة(ب) _ هي المرسل إليه_ التي تفترض في عملية التواصل أنها المتلقي ويكون جهاز الاستقبال الأذن هو أول المتلقين لما نطق به (أ) _المرسل _ ليقوم هو الآخر بدورة الكلام التي يكون فيها تبادل المواقف بين طرفي التواصل (أ) و(ب) وتتغير فيها الأدوار حسب ضرورات هذه العملية ذاتها. لكن ما أثاره سوسير يربط عملية التواصل بثلاث عناصر هي: العنصر النفسي، والصيرورة الفيزيائية، صيرورة عضوية.
-العنصر الأول: وهو يتجلى في الصورة الاصغائية أو تلك الألفاظ التي لها معنا في دماغنا أي التصورات وهي المفاهيم، "إن المقاطع التي ينطق بها المرء إنما هي انطباعات صوتية تدركها الأذن، ولكن هذه الأصوات ليس لها وجود لولا أعضاء النطق، فالصوت(n) على سبيل المثال ليس له وجود إلا بفضل هذين الجانبين (جانب النطق وجانب السمع)، فلا نستطيع أن نجعل اللغة مقتصرة على الأصوات، أو الأصوات المنفصلة المستقلة عن النطق في الفم، كما أننا لا نستطيع أن نحدد حركات أعضاء النطق من دون أن نأخذ بعين الاعتبار الانطباع الصوتي (الصورة الصوتية) في الأذن" ، وهذه الصورة الصوتية لا تنتقل إلى بوجود السيرورة الفيزيائية.
-العنصر الثاني: هي التي تتمثل في الموجات الصوتية المنقولة عبر قناة الهواء هي عملية ضرورية بالنسبة للتواصل التي تفرض طبيعة النطق وموجات انتقال هذا المنطوق اللغوي ليتحول إلى موجات صوتية تشكل المثير بالنسبة للمتلقي، وهنا يظهر لنا سوسير عملية معقدة نوعا ما يفصل في شكل دورة الكلام ليصل إلى ضرورة وجود الجانب العضوي.
-العنصر الثالث: يعد ركيزة أساسية هو أيضا في الإبلاغ عن الرسالة المرسلة من طرف المرسل، و تلعب الأعضاء المسؤولة عن السماع والنطق (الأذن، اللسان) الدور المهم في هذه العملية.
من خلال هذه العناصر حاول إبراز علاقة التماهي والانفصال بين اللغة واللسان والكلام، بحيث أوضح ذلك في عدة أبحاث له أهمها "علم اللغة العام" فهو لا يسلم بتطابق اللغة والكلام رغم اعتماد أحدهما على الأخر إلا أنهما متمايزان تماما، لأن "اللسان ينطوي دائما على وجود نظام ثابت كما ينطوي على عملية التطور، فهو في كل لحظة نظام قائم بذاته ونتاج للزمن الماضي" . ونجد اللسان غير متجانس عكس اللغة لأنه وجب التمييز بينهما "فاللغة جزء محدد من اللسان. مع أنه جزء جوهري – لا شك – اللغة نتاج اجتماعي لملكة اللسان، ومجموعة من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما ليساعد أفراده على ممارسة هذه الملكة، وعلى العموم: اللسان متعدد الجوانب غير متجانس – يشمل على عدة جوانب في آن واحد – كالجانب الفيزياوي (الطبيعي) والجانب الفسلجي (الوظيفي) والجانب السايكولوجي (النفسي) واللسان ملك للفرد وللمجتمع لا يمكن أن نصنفه إلى أي صنف من أصناف الحقائق البشرية، لأننا لا نستطيع أن نكشف عن وحدته" . فهنا يميز بين كون اللغة هي ملكة بشرية واللسان تواضع اجتماعي، وبين الكلام الذي يرتبط بالفعل الإنساني وذكاءه وإرادته، وكما أورد سوسير فإن اللسان مهم وأساسي من اللغة، إذ لا وجود للغة بدون اللسان بينما توجد لغة بلا كلام ويتمركز أيضا الكلام في اللسان، فاللسان ضروري لعملية التواصل ولا يستقيم كلام بدون لسان وكذلك لا يوجد كلام خارج عنه، والتواصل اللساني حسب هذه الوضعية هو صيرورة اجتماعية مفتوحة على الاتجاهات كافة إذ لا تتوقف عند حد بعينه، بل تتضمن عددا هائلا من سلوكيات الإنسان السيميائية. تتمثل: في اللغة والإيماءات، والنظرة، والمحاكاة الجسدية، والفضاء الفاصل بين المحدثين"، وهذا هو الأمر الذي جعل من نظرية سوسير في التواصل تنبني أساسا على التفصيل الدقيق في، اللغة والكلام واللسان بحيث أن الأدوار التي تلعبها كل منها في عملية التواصل تظهر جانب من الجوانب العديدة المحيطة بالإنسان، والتي تفرض معها العديد من التفسيرات، والمقاربات اللسانية، فنجد اللسان مؤسسة اجتماعية مبنية على التواضع، فنجد أن "الأفراد الذين تربط بينهم رابطة اللسان، يتخذون لأنفسهم نوعا من القياس – فهؤلاء الأفراد جميعهم يستخدمون دائما الإشارات نفسها التي تدل على الأفكار نفسها تقريبا-" ولذلك فإن دي سوسير يعتبر اللسان كنزا داخليا بصمات موضوعية في الدماغ، وليس في وسع الفرد تغييره، أو إبداعه نظرا لعملية التواضع الذي يحكمه، باعتباره هو الذي يجمع بين منطوق اللسان عند جماعة متكلمة معينة لا يمكن قبول أي اختراق داخلها بل يصل إلى مقاومته ورفضه، وبالتالي فإن اللسان من هذا المنظور وكجانب من الجوانب هو مؤسسة اجتماعية محكمة الإغلاق تساهم بالشكل الأساس في عملية التواصل، لكن هذا يفرض عليها التفصيل أكثر فعملية الانغلاق الذاتي للسان، تجعله ذا نظام خاص، وتركيبة ذات منظومة متراصة بحيث إذا تغير عنصر فإنه يكون ذا أثر على النظام كله.
وبما أن اللسان هو منظومة اجتماعية فهو لا يقتصر على الفرد أو خاص به، بل هو خاص بالجماعة، ولا يستوي إلا داخلها لأن اللسان يعتبر أداة التواصل، وهي تخضع كل الأفراد المنتمين إلى جماعة لسانية معينة تتعامل به وتسلم به دونما تدخل فيه لأنه يعتبر وجوده سابقا عنهم، ولا يحق لهم أن يغيروا من مقوماته أو الابتكار داخله وأي محاولة لذلك فهي تؤول إلى الفشل. ذاتيا لأن مقوماته تحتوي كما أوردنا سلفا انغلاقا على الذات يحول دون ذلك.
إن هذه المقاربة التواصلية التي قدمها لنا دي سوسير في التفصيل بين اللغة والكلام واللسان وتوضيح دورة الكلام كل يدور في عملية التواصل وتطوير الفهم العلمي له، فهو يتحدث عن فصل علم اللغة وعلم لغة الكلام: "فاللغة والكلام إذن يعتمد أحدهما على الآخر، مع أن اللغة هي أداة الكلام وحصيلته، ولكن اعتماد أحدهما على الآخر لا يمنع من كونهما شيئين متميزين تماما" ، ويستطرد مفصلا بين اللغة والكلام معتبرا اللغة "موجودة على هيئة ذخيرة من الانطباعات مخزونة في دماغ كل فرد من أفراد مجتمع معين: ويكاد ذلك يشبه المعجم الذي يتوزع منه نسخ على كل فرد في المجتمع، فاللغة لها وجود في كل فرد، ومع ذلك فهي موجودة عند المجموع" . أما الكلام "فهو مجموع ما يقوله الناس و يضم: (أ) الفعاليات الفردية التي تعتمد على رغبة المتكلم، (ب) الأفعال الصوتية التي تعتمد أيضا على إرادة المتكلم. وهذه الأفعال، لا بد منها، لتحقيق الفعاليات المذكورة في (أ).
الكلام إذن، ليس وسيلة جماعية، بل مظاهر فردية قصيرة الزمن، فلا نحصل في الكلام إلا على مجموعة الأفعال المعينة" .
الأمر الذي يضعنا أمام نظرية تواصلية مفصلة على مقياس المكونات الأساسية و المتداخلة للتواصل و التي تعتبر في حد ذاتها نقاشا فلسفيا عميقا، أسس لرؤية داخل بنيته. فهو على مقربة من وضع لبنة التأسيس و التفصيل في التواصل، لأن هذا العرض حول الاختلاف القائم بين اللغة، الكلام، اللسان. يجمع بين أدوات المشاركة العضوية، النفسية، والفيزيائية وليست محصورة داخلها وفقط بل إنها تتفرع لتعطي لنا مفاهيم الصورة، والصوت، والدال والمدلول في فكر دوسوسير معلنا بذلك عمق التصور الفلسفي في التواصل ومبينا مرتكزات العمل الداخلي للفرد في مقابل بناء هذه العملية، ويكون فيها الفهم، التواصل، الاجتماع، التوافق، الانفصال، حاضرا كمعطى مرافق لما ذكرناه سلفا، وتقوم على بناء ذلك بأدلة لغوية وأخرى غير لغوية (أو سيميائية) وتتمحور حول الدال والمدلول لأن التصور الذي تحدث عنه في معرض الحديث عن علم اللغة وعلم لغة الكلام. أن اللسان يسمى مدلولا و ليس المدلول هنا هو الشيء، بل التمثل النفسي للشيء، ونجد أيضا الصورة الاصغائية، والتي هي هي الدال إذ تتجلى في لغتنا الخاصة. لأننا نستطيع استحضارها داخليا في عقولنا، دون أن ننطق بها، وهي تمتد عبر زمان خطي متتابع.
من خلال كل ما ذكرناه من صلب نظرية دي سوسير التي أسس لها داخل الأبحاث المقدمة من طرفه في 1906- 1911 والتي تعتبر من أهم الدراسات اللسانية البنيوية، لأن دراسة اللغة كبناء منغلق أي دراستها في ذاتها جعله يفصل في دراسته الوصفية الباحثة في نظامها وقوانينها، وذلك بمعزل عن جوانب اللغة التاريخية التطورية الزمانية. فهو أعتبرها " نظاما و ليس مجرد آلة مادية صوتية" .
وهذه الدراسة نستخلص منها ما استخلصته شفيقة العلوي من نظرية دو سوسير في الجانب اللساني: "1- لقد ميز دوسوسير بين الدراسة الوصفية للغة في بعدها الداخلي و بين الدراسة التاريخية ...
2- أن اللغة نظام من الإشارات (systéme de singes) التي تشير للمقصود بنية التبليغ والتخاطب و التواصل ...
3- التفريق بين اللغة والكلام ( langue/ parole ) إن اللغة تسبق الكلام –حسب دوسوسير- ما دامت نظاما يتسبب في إيجاد الخطابات الممكن وضعها...
4- اللسان نظام ( ترتبط فيه جميع أجزائها بعضها ببعض)" .
وهذا الجانب اللساني الذي قدمنا خلاصته، له هدف، هو الكشف عن خواص النظام أي "استخراج البنية التي تقوم عليها كافة الألسنية البشرية على اختلاف رقعتها الجغرافية ومن هذا. سيطر هذا المفهوم في الحقل اللساني، إذ غدا منهجا علميا تعتمده العلوم الاجتماعية، الإنسانية، والنفسية في تحليلاتها.." . ورغم هذا الإبداع الذي قام به دوسوسير إلا أن نظريته "البنيوية لم يذع صيتها في أوروبا و أمريكا إلا بعد موته أي بعد 1929 بفضل تلامذته إن سبب عدم اشتهار نظريته هو تلك التعليقات السلبية التي قدمها بعض اللسانيين مثل ماييه ( malleit ) وجرامون ( grammont ) وجيبيرسن (jespersent ) وماروزو (marouzeau ) وبلومفيلد ( سنة 1929) خاصة وأنهم كانوا تاريخيين يتبنون المنهج الزمني في الدراسة اللغوية.
ويعود الفضل في الانتباه لهذه النظرية والاهتمام بها كمنهج لدراسة اللغة في ذاتها إلى جاكبسون وتروبتسكوي الروسيين" .
وهذا العرض يستحضر بالنسبة إلينا العديد من النقاشات، والمدارس اللغوية إلى جانب ما أورده دوسوسير والمساهمات الفلسفية داخلها من نقد، وتفسيرات توضح الجانب التواصلي، والبناء التركيبي لها، من النظرية الوظيفية وغيرها والتي ساهمت في بناء نقاش فلسفي عميق يؤسس لنقاش مفصل عن التواصل، وفلسفته من خلال إثارة كل الجوانب المحيطة به، من إبراز للجانب الوظيفي واللغوي واللساني وكذا توظيفاته الاجتماعية وأغراضه.