نظرية التواصل
جونيفييف شوفو
ترجمة: إبراهيم أولحيان
لقد كانت الأبحاث النظرية حول أنساق التواصل مسبوقة بدراسات تم إنجازها منذ أواخر القرن التاسع عشر، في الفيزياء والرياضيات (لوديك Ludwig، بولتزمان Boltzman، أندري أندريفيتش ماركوف Andrei Andreivitch Markov، رالف ويندون هارتلي Ralph windon Hartley) حول مفهوم "احتمال عنصر ما" وممكنات قياسات هذا الاحتمال، وإلى عهد قريب جدا، قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الإسهامات الأكثر أهمية تعود إلى تعاون رياضيي ومهندسي الاتصالات اللاسلكية، مما جعلهم يكشفون أن الخصوصيات النظرية لكل نسق من العلامات المستعملة من لدن الـ"كائنات" (حية أو تقنية) لها غايات تواصلية. وبتحديدهم هذا المجال في البحث، يكون منظرو التواصل قد عالجوا، من منظور جديد، بعض مظاهر التواصل اللساني. لقد سمحت النماذج الرياضية المهيأة بتدقيق بعض المفاهيم المستعملة بسهولة في تحليلات اللسانيات البنيوية، وأدت إلى ظهور الحدود المرتبطة بهذا النموذج من التحليل، وأحدثت أبحاثا جديدة في (الترجمة الآلية، وفي البسيكولسنية).
ففي الولايات المتحدة، أواخر الأربعينيات تم نشر الأعمال الأولى المتعلقة بنظرية التواصل (شانون C.E.Shannon، ويفر W.Weaver). وبشكل سريع، ظهرت تطبيقات متعددة في العلوم الإنسانية، فيما كانت تتطور السبرنيطيقا Cybernétique التي رسمت خصائصها الأساسية من لدن توربر ويينر Norbert Wiener.
الخطاطة العامة للتواصل:
تستلزم كل سيرورة تواصلية نقل رسالة بين مرسل ومرسل إليه، يمتلكان بشكل مشترك، جزئيا على الأقل، الشفرة الضرورية لتداول الرسالة.
الشفرة: تمثل مجموع قواعد التركيب الخاصة بنسق من العلامات النوعية. فاللغات الطبيعية تمتلك عددا من الفونيمات والمورفيمات، وقواعد تركيب هذه العناصر فيما بينها: إنها الشفرة في مقابل الكلام المكون من الملفوظات المنجزة (أو الرسائل). وتمثل شفرة مورس Morse مجموع الاصطلاحات التي تنظم تراسل العلامات (الضوئية، الصوتية، الكهربائية) بالنسبة لأبجدية الكتابة. ويمكن لشفرة ما أن تتوفر على عدد قليل جدا من العلامات، ومن قواعد التركيب، أو بعكس ذلك يمكن أن تتوفر على عدد كثير؛ ويمكن أن يكون مشتركا بالنسبة لعدد كبير من المرسلين والمرسل إليهم أو أن يكون محصورا في عدد قليل (إثنان على الأقل). إنها دائما فرضية، وتحققها في شكل رسالة هو التجلي الوحيد الممكن.
القناة: هي السند الفيزيقي الوحيد اللازم لتجلي الشفرة على شكل رسالة: الهواء بالنسبة للتواصل اللفظي أو الهاتف اللاسلكي، والأسلاك الكهربائية بالنسبة لإرسال الرسائل برقيا أو هاتفيا..
المرسِل: غالبا ما يفهم من نفس المصطلح مصدر الرسالة، يعني مكان تشكل الرسالة (مثلا: الدماغ الإنساني بالنسبة للغة الحديث أو الكتابة، أو الكلام الإنساني بالنسبة للهاتف أو المذياع) والمرسِل، بحصر المعنى، هو الذي يقتضي ميكانيزمات تشفير الرسالة، والجهاز المرسل نفسه (أعضاء الكلام بالنسبة للغة الحديث، والميكروفون، والراديو المرسِل بالنسبة للهاتف اللاسلكي). إنه على مستوى مصدر-مرسل يتم إنجاز عملية التشفير؛ يعني انتقاء عدد من العلامات التي تنتمي للشفرة، والتي تسمح للمرسل بإرسال الرسالة.
المرسل إليه: هذا المصطلح يشمل مجموع ميكانيزمات تلقي الرسالة: الجهاز المستقبل-مفكك الشفرة (الأذن بالنسبة للغة الحديث، الراديو المستقبل، ومكبر الصوت بالنسبة للمذياع). والمرسل إليه، بحصر المعنى، الذي يتلقى الرسالة (الدماغ الإنساني بالنسبة للغة الحديث، المستمع بالنسبة للمذياع) إن سيرورة تفكيك الشفرة تنجز على مستوى المستقبل-المرسل إليه، من خلال "البحث في الذاكرة" عن العناصر التي تنتمي للشفرة المنتقاة من أجل نقل الرسالة.
غالبا ما يشغل المستقبل –المرسل إليه بدوره دور المصدر- المرسِل، مستعملا نفس القناة: وذلك في حالة التواصل الشفوي. بالإضافة إلى ذلك، بالإمكان نقل نفس الرسالة بواسطة نسق تناوب قنوات مختلفة ومتتالية تتطلب بذلك عمليات متعددة لفك الشفرة: هكذا في رسالة بواسطة مورس Morse، حيث تنقل العلامات بواسطة الأسلاك الكهربائية، ثم يعاد نقلها إلى علامات خطية graphiques، يمكنها هي نفسها أن تكون مفككة الشفرة أو يعاد تشفيرها علىشكل متتاليات صوتية. قد ينتج عن ذلك أخطاء في الرسالة بسبب تتالي العمليات وتراكمها. لكن حتى باستعمالنا لقناة واحدة، فمن النادر أن يكون نسق مـا مـن التواصل على أحسن مـا
يرام، يعني أن الرسالة المعدة على مستوى المصدر قد تصل كاملة إلى المرسل إليه. إن المراحل الثلاثة الأساسية (البث، النقل، التلقي) قابلة لتقبل الانحرافات التي تعود إلى خلل في أجهزة المتلقين أو المرسلين، وإلى اختلالات على طول القناة إلخ، فهذه الانحرافات تؤثر على جودة الرسالة المنقولة، التي يكون جزء منها قد ضاع أثناء سيرورة التواصل، كل هذه الاختلالات التي تقع عن طريق الصدفة تسمى تشوشات. إن دراسة التشوشات قد أنارت بعض مظاهر التواصل اللساني، حيث غالبا ما يتم نقل الرسائل مع درجة مرتفعة من التشويش.
تمثيل خطاطي
مصدر
مشفر بث
مرسل
قناة نقل
مستقبل
مفكك الشفرة تلقي
مرسل إليه
الخبر، والتشويش، والإطناب:
بالنسبة لمنظري التواصل، فلفظ رسالة ليس له معنى آخر سوى أنه متتالية من العلامات المنقولة بين مرسل ومرسل إليه، بواسطة قناة تستخدم سندا فيزيقيا للنقل. إن دلالة الرسالة (ليس دالها فقط) غير معتبرة كعنصر وثيق الصلة بالموضوع. فنظرية التواصل تنحصر عند دراسة المتغيرات: "إذا كانت لدينا شفرة ما، فما هو عدد الرسائل الممكن؟ ما هو الوقت الضروري لنقل العلامات؟ ما هي الشروط القصوى الأكثر فعالية للنقل؟.."؛ هذا يعني أن مفهوم الخبر في تقبله العادي، المرتبط دائما بدلالة ما هو منقول، لا تربطه سوى علاقة ضعيفة بمفهوم الخبر على المستوى التقني المحض الذي خصته به نظرية التواصل. إن المشكل الأول المعالج من طرف هذه الأخيرة هو كالتالي: هل بالإمكان تحديد كمية الخبرة بالنسبة لمصدر ما؟ سيكون الجواب بالإيجاب إذا تم إنجاز بعض الفرضيات على هذا المصدر. فهذه الكمية من الخبر المنقولة والمقاسة بالـ Bits في الثانية متغيرة للغاية، وبالإمكان الانطلاق من 50 Bits في الثانية بالنسبة للتلغراف إلى 6 mégabits [مليون Bits] في الثانية بالنسبة للفيزيوفون Le visiophone. فهو ينقص بسبب الأخطاء الحاصلة على طول سلسلة النقل. وللحد من هذا التقهقهر، يتم استعمال طريقتين متكاملتين:
ـ تتم محاولة تكييف الرسالة تبعا لجودة سلسلة النقل.
ـ تتم محاولة استخدام الأجهزة الكاشفة أو المصححة للأخطاء.
تكييف الرسالة: لنفترض أن مرسلا ينقل x ومستقبلا يتلقى y فإذا كان النقل على أحسن ما يرام، فإننا نحصل، بطبيعة الحال على x = y. لكن إذا كانت هناك أخطاء، فإن كمية الخبر التي تم تلقيها في y تكون أقل من تلك المرسلة في x؛ وبذلك نفهم بأن القناة مشوشة، أو أن النقل يتخلله تشويش ما. يجب تقويم هذا الخبر الضائع الناتج عن القناة، أو، تقويم هذا الخبر المنقول الذي يسمى عبر خبري Transinformation، وإعادة البحث أيضا في قناة معطاة على المصادر التي يكون فيها الخبر المنقول في أعلى مستوى.
يمكن "للعبْر خبري" أن يكون كمية إيجابية أو منعدمة. في هذه الحالة الأخيرة فالتشويش موجود إلى درجة أن المقدار المتوصل في y لم يعد له أي علاقة مع المقدار المرسل في x. بحيث إن المقدارين x وy يصبحان في استقلال تام. وبالمقابل، إذا كان التشويش منعدما (x = y) لا بد للخبر المنقول (x , y)R أن يكون مساويا لخبر المصدر x, H(x). ويتم التحقق من أن الكمية تناسب الشروط التالية:
R (x , y) = H (x) - H (x/y)
على اعتبار أن H(x) هي كمية خبر المرسل، وH(x/y) هي كمية الخبر المشروط للمرسل. ويمكن التعبير عن هذه الكمية أيضا كالتالي:
R(x,y) = H(x) + H(y) – H(xy)
= H(y) – H(y/x).
"للعبر خبري" من جهة أخرى وظيفة الوسائط المرتبطة بالمصدر، وبقناة النقل. بعد تحقيق القناة بالإمكان تبيان أن مصدرا ما أو عدة مصادر البث تشكل أقصى عبر خبري. تسمى هذه القيمة طاقة القناة C. لقد كان C..E.Shannon هو أول من أطلق على هذا المفهوم (قانون هارتلي-شانون Hartley-Shannon):
C = W log2 (1 + S/N).
إن W هي عرض شريط القناة، و S، قوة الإشارة المرسلة، وN قوة التشويش، حسب افتراض غوس Gauss.
لكي تكون هذه المعادلة مقبولة، يجب، بالإضافة إلى المتتالية من العلامات المرسلة، أن تكون احتمالية محض، ويجب بعد ذلك تحديد المرسل الذي يحقق هذا الحد الأعلى (نسميه مرسل مكيف) مما يسمح بتحقيق المشفر المندرج بين المصدر والمرسل في ترسيمة سلسلة التواصل.
بشكل عام، فاستعمال مشفر مثالي ما، غير ممكن التحقق، يتم فقط استعمال مرسل غير مكيف، والخبر المنقول هو أصغر من C وبذلك نحصل على إطناب (R = C – R(x,y).
الأجهزة الكاشفة أو المصححة للأخطاء: هنا تظهر أهمية التشفير – لا تكتفي الشفرة بأن تجعل الخبر المذاع من خلال المصدر في شكل صالح للنقل، بل تضيف لهذا الخبر تكملة ما، مدخلة، إذن، بعضا من الإطناب الذي يسمح بالكشف أو حتى في بعض الحالات، بتصحيح الأخطاء. غالبا ما تأخذ المراقبة أشكالا دقيقة: فيمكن لشفرة ما أن تتوفر على عدة تركيبات Combinaison ممنوعة. إذا تم حدوث إحدى هذه التركيبات فإنه يتم التعرف على أن هناك خطأ ما، وعبر طريق الرجوع يتم إعلام المصدر المرسل، الذي يقوم بإعادة الرسالة. لكن هذا ليس مجانا، ما دام لا بد من امتلاك قناة للعودة، يعني بعضا من الإطناب.
يجب ملاحظة أن الدماغ البشري منذ القديم هو الجهاز الكاشف-المصحح للأخطاء الأكثر إنجازا. هكذا، ففقدان بعض المقاطع اللفظية Syllabes في محادثة هاتفية ما، تقوم (غالبا بشكل لا واعي) من لدن المستمع –وغالبا ما يحدث نفس الشيء بالنسبة لحذف كلمات من نص معين- إن الكلام والكتابة هما إذن أجهزة التشفير المطنب.
النموذج في حالات نهائية:
تتوفر اللغات الطبيعية على بعض الخاصيات المشتركة بالنسبة لكل الأنساق التواصلية، المنظور إليها باعتبارها أنساقا لنقل الخبر. وتقدم الشفرات اللسانية، مع ذلك، تفردا أساسيا، فهي مؤلفة من شفرتين فرعيتين sous-codes غير مستقلين الواحدة عن الأخرى، والمحددين في اللسانيات باعتبارهما يتعلقان بمستويين محددين من التحليل:
المستوى المورفيمي (التمفصل الأول) والمستوى الفونيمي (التمفصل الثاني)، ففي كل اللغات الطبيعية المعروفة يقتضي المستوى الفونيمي عددا قليلا من العناصر الأساس، حيث تترابط الفونيمات (من 20 إلى 80) فيما بينها لتشكل متتاليات صوتية على مستوى عال، تكون فيها الوحدات الأساس هي المورفيمات بأعداد مرتفعة جدا. لقد اقترح منظرو التواصل تقويم الكمية المتوسطة للخبر المنقول من طرف اللغات الطبيعية، واضعين في الحسبان درجة الارتياب المتعلقة بمختلف العلامات في كل شفرة من الشفرات الفرعية. وبذلك فإنهم ينضمون إلى الأبحاث المتبعة في اللسانيات منذ حوالي عشرين سنة من لدن "التوزيعيين" الأمريكيين، المهتمين بوصف اللغات الطبيعية في شكل إرغامات شكلية تظهر في سلسلة الوحدات الأساس. في الواقع يقدم منظرو التواصل للسانيات النموذج الرياضي الضمني، لأبحاث البنيوية المعروفة تحت اسم النموذج في حالاته النهائية أو نظرية السلسلات لماركوف.
إن لا تساوي احتمال La non-équiprobabilité العلامات المنتمية لشفرة لغة طبيعية معطاة، يسمح باستخراج معدل الإطناب المرتبط بهذا اللاتساوي الاحتمالي، ففي الفرنسية تقدم الفونيمات تنويعات ترددية مهمة: فبالنسبة لـ 37 فونيم، نجد الدراسات الإحصائية تبين أن ترددات من حوالي p8. 100 بالنسبة لـ[a]، 7p. 100 بالنسبة لـ[L]، 1,7 p. 100 بالنسبة لـ[O]، 100. P1,7 بالنسبة لـ[Z]، 100. P0,5 بالنسبة لـ[g]. إلخ. وعلى المستوى المورفيمي، فمن الصعب إثبات الترداد المتوسطة، إذا كان هناك عدد كبير من الوحدات، إلا أنه تظهر اختلافات ترددية بشكل جلي، فالمورفيم [table] مثلا، هو أقل ترددا من المورفيم [Le] (يمكن أن نسجل أن المستويين معا مترابطان: التردد المرتفع للفونيم [L] مرتبط بالتردد المرتفع للمورفيم [Le]).
ومع ذلك، فإذا كان لا تساوي احتمال العلامات عاملا في الإطناب، فحساب نقصان الخبر المتعلق بهذا اللا تساوي الاحتمالي لا يعير اهتماما لمجموع الإطناب المرتفع، الذي يظهر في اللغات الطبيعة (بمعدل 100. p50 في الفرنسية وفي الإنجليزية) يعتمد مصدر الإطناب الأكثر أهمية على أن تلحق العلامات إرغامات تسلسلية شديدة القوة: فالعلامات المرسلة (فونيمات أو مورفيمات) ليست مستقلة الواحدة عن الأخرى، بمعنى آخر، حين يتم إرسال علامة ما، فإن احتمال ظهور العلامة الموالية متوقف على الأولى. يعتبر المرسل (أو المتكلم) مثل آلة يمكن أن تتخذ عدة حالات متتالية (مثلا a – e – f – t..) حيث العدد متناه، لكنها متكررة، بمعنى أنه يمكن أن يعاد إنتاجها بانتظام أثناء بث الرسالة. تسمى الحالة الأولى (بداية السلسلة المرسلة) بـحالة أولية Etat initial: وفي نهاية البث، يكون المرسل في الحالة النهائية L’Etat final. تظهر في اللغات الطبيعية، ومنذ الحالة الأولية بعض الإرغامات، ما دامت كل العلامات لا متساوية الاحتمال في بداية الملفوظ. لتكن الحالة الأولية [t] في الفرنسية: يمكن لواحد من الصوائت كيفما كان أن يأتي بعد ذلك، لكن ليس فونيما صامتا في مثل [P] أو [B] أو [t]. في حالة [t] فاحتمال الحصول من اليمين على [P] أو [B] منعدم، إذن فاحتمال الحصول على صائت أو [r] مرتفع. إذا تم إرسال [r]، يكون المرسل في حالة [tr]، ومن جديد فمسألة اختيار الفونيم الموالي محدودة في عناصر فرعية محصورة في الفونيمات المنتمية للشفرة: إن احتمال ظهور صامت ما منعدم، ووحدة صائت ما ممكن. تجمل هذه السيرورات المترابطة العناصر اسم سلسلة ماركوف Markov. فمصدر علامات ما أوكل العلامات مستقلة، وتسمى "درجة الصفر" أو "بدون ذاكرة"، ويطلق عليها اسم "مصدر ماركوف" "درجة أولى" إذا كان احتمال ظهور علامة ما يتوقف فقط على العلامة السابقة؛ لتكن لغة ما تتضمن الإرغام المسلسل الوحيد: صامت متبوع دائما بصائت؛ فكيفما كان طول الرسالة في لحظة [t]، بشرط أن يكون المرسل في حالة C، فإن احتمال تحقق حالة C الموالية منعدم، ومساوي لـ 1 بالنسبة لـ V. إذا كان لمصدر العلامة ذاكرة من درجة ثانية فإن احتمال تحقيق علامة ما مشروط باحتمال العلامتين السابقتين. بشكل عام يكون لمصدر علامة ما ذاكرة من الدرجة n متى كان احتمال العلامة المزمع إرسالها متوقف على n علامات التي تأتي قبلها مباشرة. من البدهي أنه إذا ازداد، بالنسبة لسياق معطى، احتمال ظهور علامة ما (إذا كان بالإمكان توقعها: حالة "g" دائما متبوعة بـ"u" في اللغة المكتوبة) فإن الارتياب حول تحققه ينقص، والخبر المنقول ينقص أيضا. في اللغات الطبيعية، تكون التعلقات في النظام التسلسلي للفونيمات ذات طول متناه، ولا تتجاوز الدرجة 5. نجد في اللسانيات أن التوزيعيين باستعمالهم طرقا أخرى، وبدون اللجوء للدراسات الإحصائية، قد حصلوا على نتائج شبيهة بالمقاربات المنجزة انطلاقا من حساب الاحتمالات المشروطة: ينظم البحث عن البنية الخفية للملفوظات المنقولة لمفاهيم الإطناب والاحتمال ما دامت كل قاعدة لسانية تقوم على تحققات عنصر ما، في سياق معطى، تمثل تقييدا وحدا ما لمجموع الاختيارات الممكنة نظريا.
إن تطبيق النوذج في الحالات النهائية على التسلسل المنطقي للمورفيمات يتبع المبادئ العامة المحددة سلفا. يمثل مجموع مورفيمات لغوية طبيعية ما مخزون العناصر القابلة لأن تتركب فيما بينها لتشكل رسائل. للتقييدات على مجموع المتتاليات الممكنة نظريا (مصدر الإطناب)، طبيعة تركيبية، وتدور حول أصناف من العناصر التي بالإمكان أن تأخذ عددا من الأوضاع ضمن السلسلة، باستثناء الأخريات. هكذا يوجد في الفرنسية إرغام عام جدا في نظام أسماء الأعلام وأدوات التعريف: مثلا مع المورفيمين Le و Livre فالمتتالية الوحيدة المقبولة هي Le livre؛ وبالإضافة إلى ذلك، إذا انطلقنا من الحالة الأولية، يكون مورفيم التحول المقدم هو Le، واسم العلم الموالي ينتمي بالضرورة إلى مجموعة فرعية من أسماء الأعلام التي تلائم خاصية "المذكر"، باستثناء كل أسماء الأعلام المميزة بسمة "المؤنث". من الممكن، على المستوى النظري، في حالة Le livre حساب احتمال تحقق الأصناف التالية: (الفعل أو النعت أو بعض متتاليات المورفيم التي تتلاءم مع قواعدها التركيبية الخاصة، مثل جمل الصلات) تحلل العلاقات بين العناصر باعتبارها أنساقا للتعلقات الخطية الموجهة من اليسار إلى اليمين، حيث يكون فيها بث عنصر ما محددا من خلال مجموع العناصر التي بتت سلفا. في هذه الحالة، فالتخمينات المحصل عليها في وصف اللغات الطبيعية بواسطة هذا النموذج، تكون ضعيفة جدا على المستوى التركيبي. لا يمكن للنموذج النظري للنمط الماركوفي أن يهتم، بطريقة عادية ووافية بالظواهر اللسانية الأساسية، وعلاوة على العدد الكبير من الوحدات المورفيمية ونسبية تغيراتها فقد برهن نعام تشومسكي على أن الإرغامات التركيبية في اللغات الطبيعية تنفرد بخاصيات مثل التكرارية غير المحدودة، وغير الموجهة بالضرورة من اليسار إلى اليمين، إذن فالإمكانية التكرارية بواسطة نسق التضمين الذاتي، التي تجعل من اللغات الطبيعية لغات ذات عدد لا محدود الحالات، لا يمكن أن توصف بشكل واف انطلاقا من نموذج سلسلات ماركوف. في المنظور اللساني الوحيد، علاوة على التطبيقات المهمة للنموذج الإخباري في الترجمة الآلية وفي البسيكولسنية، سمحت الدراسات المنجزة من لدن منظري التواصل بإضاءة الأسس النظرية والرياضية للتحليل التوزيعي محددة، في نفس الوقت، حدودها (خصوصا في التركيب)؛ وسمحت، أيضا، هذه الدراسات بتدقيق العلاقات التي تربطها اللسانيات مع بعض التخصصات في الرياضيات. من هذه العلاقات نتجت أبحاث جديدة مجموعة تحت اسم اللسانيات الرياضية، أو النحو الشكلي، المشيدة، ليس فقط على نموذج "احتمالي وإخباري"، بل وعلى أنماط العمليات المنطق رياضية المجردة، الموجودة في "اللغات" ذات التعقيدات المتزايدة؛ فاللغات الطبيعية ليست، من خلال هذا التصور، سوى المثل الأكثر اكتمالا، والمستعصي على الحل، لهذا التعقيد.
اللسانيات وعلم الإحصاء:
تعتمد الفرضيات المطروحة، من لدن منظري التواصل، الخاصة بنقل الخبر بواسطة اللغات الطبيعية على معطيات إحصائية دقيقة، تسمح بإسناد احتمال ما إلى مختلف العناصر. فاستعمال المفاهيم الإحصائية جار به العمل في اللسانيات منذ زمن بعيد؛ لكن لا ترجع التطبيقات اللسانية لمناهج إحصائية دقيقة سوى إلى سنوات 1925-1930. إنه عمل اللساني الأمريكي جورج كينغسلاي زيبف Zipf George Kingsley، فملاحظاته تفحص بعض الفرضيات المطروحة من لدن اللسانيين الوظيفيين (مدرسة براغ): الفونيمات التي تتوفر على القليل من المردودية الوظيفية، يعني تلك التي يكون نسقها التقابلي محدودا (مثلا في الفرنسية التقابلات [a] – [a] أو [e] – [oe] لها ترددات منخفضة جدا، وتميل إلى الاختفاء؛ والوحدات الأكثر تعقدا هي الأقل ترددا من الأخرى؛ وكذلك في اللغات التي تعرف التقابلات الصماء-الرنانة، فالأولى هي الأكثر ترددا من الثانية، بالإضافة إلى ذلك، إذا صارت وحدة معقدة أكثر ترددا في استعمالها فإنها تميل إلى التبسيط (بإدخالنا تغيرات حساسة على مجموع النسق الفونولوجي الملاحظ). في حين يتعلق المظهر المعروف، والأكثر أصالة في عمل ج.ك.زيبف G.K.Zipf بتطبيق المناهج الإحصائية على مستوى "معجم" نص ما. لم تعد التغيرات المسجلة هي الفونيمات (أو الحروف)، بل الكلمات المحددة باعتبارها الفضاء الموجود بين بياضين خطيين. إننا نلاحظ مع نص طويل عددا من الاطرادات التوزيعية، وواحدة من بين هذه الإطرادات معروفة تحت اسم قانون زيبف Zipf: إذا رتبنا مختلف الكلمات حسب صف التردد التناقصي، فإننا نحصل على أن نتاج الصف، حسب تردد الكلمة، مناسب مناسبة عكسية لصفه. إن مختلف الدراسات الإحصائية المنجزة من لدن زيبف Zipf حول نصوص جويس Joyce، بلوت Plaute، هومير Homère.. قد تم فحصها في لغات أخرى، مبرهنة على الصلاحية الكاملة لمعادلة f x r = C، مع بعض التغيرات المحددة بدقة من لدن بونوماندليروت Benoît Mandelbrot المتعلقة بالترددات الأكثر ارتفاعا، والأكثر انخفاضا، بالإضافة إلى ذلك فقد أثبت زيبف وجود علاقة ثابتة نسبيا بين طول وحدة ما (عدد حروفها) وترددها؛ ومن جهة أخرى فيما بين عدد الاختيارات الدلالية (المسجلة في المعاجم) وترددها. لقد قادت كل هذه المسائل الإحصائية ج.ك.زيبف إلى اقتراح فرضية لسانية مؤسسة على التوازن بين اتجاهين متناقضين يظهران في نسق التواصل اللساني: اتجاه ينحو نحو الحد الأدنى من التحديد، لأنها الأقل"تكلفة في الطاقة" (من وجهة نظر المتكلم)، واتجاه آخر ينحو نحو الحد الأقصى من التحديد لأنه لا يسمح بأي غموض في الرسالة (من وجهة نظر المتلقي). لقد سبق لأوطوجيسبرسن Otto Jespersen أن عبر عن هذه الفرضية، حيث رأى أن في اللغات تطورا ينحو نحو الحصول على أقصى ما يمكن من الفعالية باستعمال أقل ما يمكن من الوسائل؛ وهذا هو أساس "الاقتصاد في اللغة" في عمل أندري مارتيني André Martinet فكيفما كان التأويل اللساني الدقيق المقدم لقوانين زيبف Zipf، فإن قانون f x r = C يبدو أكثر عمومية مما اقترحه زيبف نفسه. في الواقع لقد بين كل من ماندلبروت B.Mandelbrot وبيير جيرو Pierre Guiraud أن مجموعة من العناصر المختلفة عن المجموعة اللسانية تقدم الخاصيات التوزيعية المنظمة، المستخرجة بواسطة قانون زيبف. وقد سمحت الدراسات الإحصائية المتبعة حاليا حول "النصوص" المتعلقة، في الغالب، بالأبحاث الأسلوبية بمقارنة نصوص نفس الكاتب، أو نصوص كتاب مختلفين فيما بينهم، وأيضا مقارنة الترددات المتعلقة ببعض العناصر لدى كاتب في علاقتها بالتردد المطلق لنفس العناصر في اللغة، وفي نفس العصر. تعتبر الانزياحات الظاهرة كمعبر على بعض الميولات الممكن تأويلها إلى اصطلاحات أدبية، تاريخية، سوسيولوجية، حسب مختلف الفرضيات التي كانت تتصدر الدراسات الإحصائية