عبد الرحمن مشرف عام
وسام النشاط : عدد المساهمات : 237 نقاط : 628 تاريخ التسجيل : 30/12/2009
| موضوع: قيم من حياة الجابري وفكره 2010-07-10, 19:00 | |
| قيم من حياة الجابري وفكره
محمد وقيدي
استوقفني، وأنا في طريق العودة إلى بيتي شخص لم أتعرفه جيدا، وسألني وهو ينطق باسمي ممّا يدلّ على معرفته بي : هل سمعت الخبر؟ لقد توفّي الأستاذ محمد عابد الجابري وتوجّه إليّ بالعزاء لذلك. هذا أمر طبيعيّ بالنسبة إلي، إذ أثناء مرض الأستاذ الجابري تلقّيت السؤال عن أحواله كثيرا لأنّ من كانوا يسألونني يعرفون أنّني على علاقة بالرجل مثل زملائي في شعبة الفلسفة التي كانت تجمعنا جميعا. أكملت خطواتي نحو البيت للتأكّد من الخبر، وقد تمّ ذلك بعد التواصل مع عدد من الزملاء.
توالت عليّ بعد سماعي للخبر صور لذكريات كبيرة جمعتني بالأستاذ الجابري على مدى زمن يجاوز بالتأكيد أربعة عقود. تذكّرت هذا الأمر لدلالته على العمل الكبير الذي قام به الأستاذ الجابري خدمة للتعليم بصفة عامّة، والذي تجاوز زمنه الأربعين عاما قبل تقاعده. وفي خلال هذه المدّة تقلب الأستاذ الجابري من وظيفة تعليميّة إلى أخرى مؤدّيا واجبه بكلّ جدّية وطموح في تحسين وضعية التعليم عامّة والتعليم الفسلفي بصفة خاصة : حارس عامّ، أستاذ للفلسفة بالتعليم الثانوي، ثمّ مدير لمدرسة ثانوية، ومفتّش لمادّة الفلسفة، وأستاذ جامعي أنجز كثيرا من البحوث، وأشرف على عدد كبير منها. مارس الأستاذ الجابري التعليم الذي كان في نفس الوقت موضوعا من موضوعات تفكيره، يدلّ على ذلك كتابه "أضواء على مشكل التعليم بالمغرب"، وكتابه "رؤية جديدة لبعض قضايانا الفكرية والتربوية".
استكمل الأستاذ الجابري دراسته وهو موظّف، انطلاقا من حصوله على شهادة الباكالوريا وإلى حين حصوله على دكتوراه الدولة في الفلسفة. ويدلّ هذا على قيمة أخرى نريد إثباتها لصالحه وقد غادرنا، وهي صفة العصامية والسعي نحو تكوين ذاتيّ مستمرّ. كان الأستاذ الجابري يعلّم ويتعلّم في نفس الوقت، وهذه قيمة سلوكية ومعرفية كبيرة.
نشير كذلك، ونحن نرصد إنجازات مرحلة التعليم الثانوي من الجهد الفكري لمحمد عابد الجابري، إلى مساهمته في التأليف المدرسيّ لهذه المرحلة. فقد صدر بعد أواسط الستينات من القرن العشرين، كتاب مدرسيّ في الفلسفة "دروس في الفلسفة والفكر الإسلامي"، وهو الكتاب الذي تمّ اعتماده في التعليم الثانوي لمدة زمنية طويلة، واستفادت منه أفواج كثيرة تلقّت دروسا في الفلسفة في هذه المرحلة. هذا الكتاب في حدّ ذاته خدمة كبرى أدّاها الأستاذ الجابري برفقة الأستاذ مصطفى العمري والمرحوم الأستاذ أحمد السطاتي. وقد ارتحنا عندما لاحظنا أن الجابري أعاد نشر الأجزاء التي شكّلت مساهمته في هذا الكتاب لأنّ له زيادة على قيمته التربوية قيمة معرفية.
عندما انتقل الأستاذ الجابري إلى التدريس بالتعليم العالي منذ الموسم الجامعي 1967/1968، كان هذا الانتقال مناسبة للاستمرار في خدمة التعليم الفلسفيّ في المغرب. وأريد هنا أن أبرز قيمة أخرى للعمل الذي قام به محمد عابد الجابري من أجل التعليم الفلسفي، وهي قيمة تفهم بعد رفع سوء فهم لذلك العمل. فالذين تابعوا المواد الفلسفية التي درّسها الجابري في الجامعة قد يلاحظون أنّه درس موادّ تعود اليوم إلى اختصاصات متباينة: علم النفس، وعلم الاجتماع، والفلسفة العامة، والمنطق، وفلسفة العلوم. ولكنّ هذا لم يكن يعني في سياقه الخاص الابتعاد عن كلّ تخصص في التعليم الفلسفي بالجامعة، بل كان في جوهره، وفي حالة نقص في الأطر الجامعية، سدّا لفراغات، وهو ما نرى فيه تضحية كان الدافع إليها تطوير التعليم الفلسفي الذي سيكون منبعا لتكوين الأطر اللازمة. وهذه الزاوية التي نرى منها الصفة الإيجابية لذلك المجهود، علما بأنّ الجابري عاد لاحقا إلى التزام اختصاص معيّن هو دراسة التراث الفلسفي الإسلامي.
سمحت المرحلة الجامعية للأستاذ الجابري بالانتقال في الكتابة من التأليف المدرسي إلى التأليف الفكريّ الذي يتجاوز فيه الكاتب غاية الدرس للاتجاه نحو غاية هي التعبير عن وجهة نظر شخصية في الموضوعات المدروسة. وهذه المؤلفات هي التي ساهم بها الجابري بريادة في تطوير الفكر الفلسفي في المغرب. بدأت هذه الكتابات بما ألّفه الجابري عن نظرية العصبية عند ابن خلدون حيث دعا بصفة خاصة إلى تجاوز النظرة التجزيئية لفكره، والنظر في هذا الفكر بصفة شمولية. لكنّ الكتاب الذي شكّل نقطة انطلاق لفكر الجابري على الصعيد العربي وعلى الصعيد الفلسفي العامّ هو كتاب "نحن والتراث"(1980). ففي هذا الكتاب اقترح الجابري قراءة جديدة للتراث الفلسفي الإسلامي تنبني على أطروحتين نلخص صياغتهما كالتالي : علينا، أوّلا، أن نقطع مع القراءات السابقة للتراث ونتبع بدلا منها تحليلا بنيويا تاريخيا وإيديولوجيا. والمقصود من التحليل البنيوي التاريخي فهم ذلك التراث في ذاته ضمن علاقته بشروطه التاريخية الواقعية والمعرفية. أما المقصود من الصفة الإيديولوجية للتحليل فهو البحث في ذلك التراث عن التأويل الذي يجعله مفيدا في فهم مشكلاتنا المعاصرة. أما الأطروحة الثانية فهي تأكيد الجابري أنّ هناك قطيعة إبستمولوجية نقف عليها في فكر ابن رشد تُميّز الفكر الفلسفيّ في الغرب الإسلامي عن ذلك الفكر ذاته في الشرق الإسلامي. لا مجال هنا للتفصيل، ولكن من المهم أن نسجّل أنّ الفكرتين المعبّر عنهما أصبحتا مثار نقاش ودراسات منها ما ساير أفكار الجابري وتابع، ومنها ما اختلف معه فيها وعارضها. وفضل الجابري في ذلك أنه حرّك الفكر العربي والإسلامي المعاصر للتفكير في التراث وفق مناهج ورؤى جديدة.
تقدّم الجابري باقتراحات أخرى في كتبه اللاحقة. وأريد أن أقف من هذه الكتب عند كتابه حول الخطاب العربي المعاصر، ثم كتبه عن العقل العربي بالبحث في بنيته، ثم الاتجاه نحو دراسته دراسة نقديا في كلّ مجالات إبداعه الفقهية والفلسفية والسياسية والأخلاقية. كان الكتاب حول الخطاب العربي المعاصر محاولة للنظر في العقل العربي من حيث الخطاب الذي ينتجه. وقد تبيّن أنّ ما يغلب على العقل العربي هو الطابع الفقهيّ في التحليل رغم الاتجاهات الفكرية. وهذا ما قاد الجابري إلى أن يجعل المهمة الأساسية للفكر العربي المعاصر هي نقد العقل العربي، والبحث في مكوّناته. وبعبارة أخرى تصبح مهمّة الفحص النقدي للعقل سابقة على كلّ استخدام له في معالجة قضايانا المعاصرة التي لم يوفّق العقل العربي المعاصر في تناولها.
أصبحت بنية العقل العربي الإسلامي ، كما وصفها الجابري، ثم مكوّنات العقل العربي الإسلامي كما صاغها هذا المفكّر، موضوعا لجدال فلسفيّ على الصعيد العربي والإسلامي. وقد لعب الجابري دورا في ربط الصلة بين المساهمة الواردة من بلاد المغرب بالمساهمات الأخرى الموجودة في بلاد المشرق العربي والإسلامي.
تلك هي الأطروحات الأساسية التي تركها الجابري بعد وفاته. ولكن، إذا كانت الوفاة قد غيّبت عنّا الجابري كذات مفكّرة، إذ لم يعد هناك مكان لأن تمارس هذه الذات تفكيرها المتجدّد في أطروحاتها، فإنّ تلك الأطروحات أصبحت بمثابة ما يفصل حيّا بعد الوفاة. الجابري هو الآن بين يدي زملائه من المغرب ومن البلاد العربية بصفة عامّة. إنّه في كتبه وما تتضمّنه من أطروحات قابلة للنقاش والتطوير. لا أقصد أن تكون تلك الأطروحات موضوعا لتكرار يفقدها حيويتها، بل موضوعا لتفكير يتّفق معها أو يختلف مجدّدا للأفكار حيويتها ومبينا لإجرائيتها. تلك هي الطريقة التي ستجعل الجابري في كتبه قادرا على الاستمرار بعد وفاته، كما كان مستمرا في التجديد في حياته. كان الجابري فيلسوفا مساجلا، فلنحافظ له بعد وفاته على هذه الصفة التي تمثل إحدى القيم الأساسية في فكره وحياته. |
|