الأستاذ: محمد الصغير أحمد

جامعة يحيى فارس المدية



البعد البلاغي في الخطاب الروائي



إن مهمة البلاغة هي البحث و التنقيب في خصائص الكلام و علاقته الوطيدة بقواعد الانتظام التي تقتضيها سنن اللغة و نظامها، إذ لا يفسر التفرد إلا من خلال علائق محددة بالانتظام، و هذا ما ورد بجلاء في مقولة سايص(sayce) إذ يقول:" إن الأسلوب يتضمن جماع استخدام الكاتب للغة، و لا ينبغي أن يقتصر على الانحرافات المعزولة"[1] إذ إنها تتوجه في المقام الأول إلى المستمع أو القارئ قصد التأثير عليه، و تعتبر العلاقة بينهما ذات خصوصية متفردة في البحث اللغوي النصي، ذلك أن العلاقة العكسية لا تقل عنها أهمية، أي إن عملية الاتصال تضم العلاقة بين أقطاب الاتصال المختلفة وهي (النص، المنتج، المتلقي)، و ذلك باعتبار كيفيات التفاعل بينها، و لذا يمكن أن تتضح العلاقة جلية في استنساخ البلاغة في صورة جديدة يمثلها علم النص الوريث الشرعي لها، حيث" تعتبر البلاغة نظاما من القواعد، تقوم مهمته على التوجيه في إنتاج النص الأدبي عامة و الروائي خاصة"[2]، كما أن للبلاغة دورا مماثلا عند إنتاج النص، و ذلك فيما يتعلق بالعناصر المتبعة من أجل تحقيق الإقناع و المتعة في النص الروائي، و قد حددت هذه فيما يلي:

أولا: الخصائص النصية : و تنقسم إلى :



1 - التماسك اللغوي ( cohésion ( و هذا يعني أن الكفاية اللغوية لا تكفي لوحدها من أجل تمييز ما هو مقبول أو غير مقبول من الكلمات و الجمل و التراكيب، بل تتعدى إلى القدرة على تمييز النصوص بعضها عن بعض بما تتميز به من خصائص.

2 – الإحالة référence ) ( و هي عبارة عن "استخدام الضمير على اسم سابق أو لاحق له بدلا من تكرار الاسم نفسه"[3]، و هذا ما نجده في هذا المقطع من النص الروائي: " اجتاز الحاج كيان سياج الصبار المحيط بالمقبرة، و وجد نفسه يتسلل بين القبور، الذي تعود أن يدخن فيه غليونه و يلعق الحشيش الممزوج بالعسل"[4].

إننا نجد الضمير الهاء المتصل بكلمة (نفسه) يعود على (الحاج كيان)، و كذلك الضمير (الهاء) المتصل بـ(فيه) الذي يعود على (دربه المعتاد)، و لذلك فإن مثل هذه الضمائر و جاراتها تعمل على تحقيق الربط الوظيفي بين الجملة التابعة و المتبوعة

3 – الربط (conjoining)

إنه يشيع في النص الروائي على وجه الخصوص استخدام أدواة الربط كحروف العطف مثلا، و ذلك بغية إيجاد علاقات جملية في النص الروائي الواحد و لنا أن نستشف ذلك في النص الآتي "أما العنابية، فغالبا ما نجدها تحمل جانبين متناقضين، الأول مستلَب، و الثاني مستلِب، و يتبلور الجانب الأول في وقوعها فريسة سهلة للجنود السينغاليين ، الذين شنقوا أخاها و قتلوا أباها، ثم اعتدوا على أمها"[5] حيث يتضح توظيف أدوات ربط مختلفة من أهمها:

- (أما) التي تفيد التفصيل و الشرح.

- (الواو) في عدة مواطن.

- (الذين) التي تفيد الوصل و الربط.

- (ثم) التي تفيد التعقيب.

4 – الإبدال (substitution):

و يعني الإبدال توظيف كلمة بدلا من أخرى أو عبارة، وذلك قصد تجنب إعادتها، و يعد هذا أسلوبا بلاغيا تصطبغ جل النصوص الروائية، و لعلنا نلمس هذا جليا في نص ابن هدوقة و هوبصدد وصف مصدر التنافر و عدم التجانس في المجتمع الواحد، بقوله: " إنه مجموعة من قطع الغيار، لا تشابه الواحدة الأخرى، و لا هي من مصدر واحد"[6]، إننا نتلمس مجموعة من الأدوات المنظمة لظاهرة الإبدال باعتبارها بلاغية فقد عمد إليها ابن هدوقة عندما استعمل كلمة (الواحدة) و يقصد بها القطعة، و كذلك استبدال كلمة (القطع) بالضمير (هي).

5 – الحذف : يتسم النص الروائي في العادة بظاهرة الحذف، على أنها مظهر من مظاهر التأثير البلاغي، و ذلك حين يحذف جزء من الكلام يمكن فهمه أو تقديره من السياق دون أن يحدث خللا نحويا و دلاليا في الجملة، و يتجلى هذا الملمح البلاغي في أبرز مظاهره على المستوى النحوي في حذف الفاعل، و الصفة عن موصوفها، و إذا كان الحذف سمة أسلوبية و بلاغية فإننا نتلمسه في هذا المقطع من رواية طاهر وطار إذ يقول فيه " أنا لم أنتزعه منك، كل ما هنالك أنه ارتمى في أحضاني، فاحتضنته، أنا يا بنيتي اجتزت الأربعين في سن أمك أو أكبر…إنني عمياء يا بنيتي"[7]، و يبرز ملمح الحذف في هذا المقطع على مستوى الكلمات الآتية:

الفعل ارتمى: حذف الفاعل منه.

الصفة (عمياء) حذف موصوفها، و التقدير امرأة عمياء.

5 – الترادف و التكرار: و تندرج هذه الوسيلة البلاغية المحققة للتماسك اللغوي للنص الروائي تحت باب استخدام المفردات لإيجاد العلاقات بين الجمل(lexical cohésion)، كما يعني الترادف هنا استعمال كلمة أو عبارة نائبة عن أخرى تجنبا لإعادتها، أو لأن الثانية تحمل سمة تأثيرية أقوى من الأولى، إذ " يمكن للعناصر المعادة أن تكون هي نفسها أو مختلفة الإحالة أو متراكبة الإحالة، و يختلف مدى المحتوى المفهومي الذي يمكن أن تنشطه هذه الإحالة"[8]، و هذا ما نستشفه من مقطع من رواية اللاز للطاهر وطار حين يقول: "… مرت الأمور بسرعة فائقة … على أن لا أشعر أبدا بأننا زوجان، إنما رفيقان لا غير"[9] ، إذ يتجلى الترادف هنا في قوله (رفيقان ) و هي كلمة تنوب عن كلمة (زوجان) السابقة بإضافة صفة فارقة و هي صفة التباعد و غياب الألفة الزوجية.

ثانيا:الخصائص: الما ووراء نصية

فإذا كانت الخصائص النصية تلقي بكامل ثقلها في تحديد السمات البلاغية للخطاب الروائي، فإن هنالك خصائص أخرى ما وراء نصية قد يمثلها المنشئ أو المتلقي أو كلاهما معا.

1 – المنشئ (المبدع):

إن علاقة المبدع بالدوال اللغوية للنص الروائي مغايرة تماما لعلاقة المتكلم بها،و ذلك" لأن الثاني يعبر عما يقتضيه المتعارف عليه من العبارات، و هو على وعي بالدلالة و مشتقاتها التي تكمن في العلاقات، أما المبدع فليس في عمله استعمال اللغة"[10]، و ذلك لأنه لا يستخدم الكلمات و الدوال بل يخدمها و يطوعها لأغراضه النفسية المختلفة، فالكلمات للمتكلم خادمة طيّعة.

إن المبدع يمتلك القدرة على نقل أفكاره وفق أشكال و قوالب متنوعة، و عليه فإن الخاصية اللغوية والبلاغية التي ترافقها هي التي تحقق لها التأثير في القارئ، و لهذا فقد كانت لأرسطو و أفلاطون إشارات حادة في ربط العلاقة بين المبدع و البيئة التي تحيط به، و ذلك من خلال نظرية المحاكاة، و لهذا فقد كان للنص الروائي جانبان أساسيان و هما: الجانب الموضوعي الذي هو من صلب اللغة، مما يجعل عملية الفهم أمرا ممكنا، و الجانب الثاني و هو المتمثل في فكر المبدع و يتجلى في استخدامه الخاص للغة.

أما في منظور النظريات الجديدة للأدب فإنها ترى أن للمبدع الحق في تجاوز الواقع و خلق أفق جديد، و هذا الخلق" يستمد عناصر وجوده مما في المبدع من قيم و عناصر جمالية مؤثرة"[11].

و لذلك فلا غرو أن يتمثل هذه الخصيصة كل مبدع يطمح إلى التفرد، و لعل مراجعتنا لبعض أعمال روائيينا تؤكد أنهم التزموا في أعمالهم الإبداعية التعبير عن أفكارهم و همومهم بأسلوب يطفح بمظاهر الواقع المعبر عنه، و ذلك لأن " طريقة طرح الروائي الجزائري للانتماء البرجوازي لا تكاد تختلف كثيرا عن طرح الروائي العربي للقضية نفسها، سواء من حيث الرسم الداخلي، أو الرسم الخارجي، أو من حيث الوسائل الفنية المستعملة في ذلك"[12]، و هذا ما نجده مطروحا في رواية حنامينة حين يصور شخصية الأب البرجوازي الذي يقول لابنه باستمرار " كان جدك قنصلا فخريا، تعرف ما هو القنصل الفخري، كان لا يمشي على الأرض، و على درب السرايا يتقدمه قواص، يفتح له الطريق"[13]، ومن هنا تبقى فضيلة الأدب دائما التعبير عن الذات التي تمثل مع التجربة و الواقع كلا متكاملا يكون من خلاله الأسلوب بصمة صاحبه.

2 -المتلقي: يحتل المتلقي موقعا هاما في نظرية التلقي باعتباره محققا للمشاركة الفعالة بين النص الذي ألفه المبدع و القارئ أو المتلقي، و من هنا يكون الفهم الحقيقي للنص الأدبي عامة و الروائي خاصة من خلال موقعة القارئ- المتلقي- في مكانه الحقيقي، باعتباره المستقبل للنص و المستهلك له بطرائق مختلفة، كالتقبل و النقد و التفاعل و الحوار، أو بالأحرى إعادة الإنتاج من جديد، و هذا يحيل بالضرورة إلى أن العمل الأدبي لا يكتمل نضجه و حياته الأدبية إلا من خلال القراءة و إعادة الإنتاج من جديد، و ذلك باعتبار أن المؤلف ما هو إلا قارئا أيضا للأعمال السابقة عليه، و هذا ما يجعل التناص لاغيا لأبوة النصوص القديمة.

إن النص الأدبي يمتلك قطبين أساسيين، الأول فني و يكمن في النص الذي يحققه المؤلف، و ذلك من خلال البناء اللغوي و تسييجه بالدلالات و التيمات الفكرية المختلفة، و هذا ما يجعل هذا القطب الفني يحيط بالشكل و الدلالة، أما الثاني فهو جمالي ويتمثل في عملية القراءة و التأويل التي تخرج النص من حالة السكون إلى الحركة و التأثير، و لهذا يستساغ التأويل لأن له دور مهم في استخلاص طبيعة المعنى المتخيل باستكناه النص و سبر أغواره و البحث عن معانيه الخفية.

إن النص الأدبي لا يحقق وجوده إلا من خلال التفاعل التواصلي بين المبدع و النص و المتلقي.

إنه من البديهي حضور المتلقي في عملية الإبداع، و هذا حاضر في جميع الأعمال الروائية لأن المبدع أو الروائي يحاول دائما تلوين أسلوبه وفق ما تقتضيه طبيعة المتلقي، و تبقى دائما طبيعة المتلقي حاضرة حضورا بينا في العمل الإبداعي، و هذا ما يدعو المبدع "أن يعرف طبائع من يستمعون إليه، حتى يطابق بين كلامه و بين الموضوع الذي يتحدث فيه"[14]، و هذا يحيلنا إلى اعتبار المتلقي عنصرا فعالا في فهم بلاغة الخطاب بوجه عام و الروائي بوجه خاص.

و إذا كان نقادنا القدامى و البلاغيون قد أشارو إلى مصطلح مقتضى الحال و المقام، فإن مدلول هذين المصطلحين حاضر حضورا قويا في النصوص الروائية، إذ لا يكاد يخلو منه نص من النصوص الروائية.

قائمة المراجع:

1- ستيفن أولمان، الأسلوبية و علم الدلالة، ترجمة محي الدين محسن.

2- سعيد حسن بحيري، علم لغة النص، مكتبة لبنان، القاهرة.

3- موسى عمايرة، مقدمة في الدراسات اللغوية المعاصرة،ط 1 ، 2000.

4- الطاهر وطار، عرس بغل، ط1، الجزائر، 1987.

5 - الطاهر وطار، اللاز،ط1، الشركة الوطنية للنشر و التوزيع، الجزائر، 1974 .

6- ابن هدوقة ، بان الصبح،الشركة الوطنية للنشر و التوزيع، الجزائر،1980 .

7 - تمام حسان، النص الخطاب و الإجراء، عالم الكتب، القاهرة، 1998.

8- محمد عبد المطلب، البلاغة و الأسلوبية، دار لبنان، القاهرة، 1993.

-9أحمد كمال زكي، النقد الأدبي الحديث أصوله و اتجاهاته، بيروت، 1981.

10 - بشير بويحرة محمد، الشخصية في الرواية الجزائرية .

11 - حنا مينة، الشمس في يوم غائم.

12- شوقي ضيف، في النقد الأدبي، ط2 ، القاهرة، 1966.


الهوامش:


[1] - ستيفن أولمان، الأسلوبية و علم الدلالة، ترجمة محي الدين محسن، ص:14 .

[2] - سعيد حسن بحيري، علم لغة النص، مكتبة لبنان، القاهرة، ص: 9 .

[3] - موسى عمايرة، مقدمة في الدراسات اللغوية المعاصرة،ط 1 ، 2000، ص: 201 .

[4] - الطاهر وطار، عرس بغل، ط1، الجزائر، 1987، ص:5 .

[5] - الطاهر وطار، عرس بغل، ط1 ، الجزائر، 1987 ، ص: 144 .

[6] - ابن هدوقة ، بان الصبح، ص: 276 .

[7] - الطاهر وطار، عرس بغل، ص: 117 .

[8] - تمام حسان، النص الخطاب و الإجراء، عالم الكتب، القاهرة، 1998، ص :301.

[9] الطاهر وطار، اللاز، ص: 206 .

[10]- محمد عبد المطلب، البلاغة و الأسلوبية، دار لبنان، القاهرة، 1993، ص: 220 .

- [11] أحمد كمال زكي، النقد الأدبي الحديث أصوله و اتجاهاته، بيروت، 1981، ص: 25 .

[12] بشير بويحرة محمد، الشخصية في الرواية الجزائرية، ص: 43 .

[13] حنامينة، الشمس في يوم غائم، ص:89 .

[14] شوقي ضيف، في النقد الأدبي، ط2 ، القاهرة، 1966 ، ص:15

أهلا بك أخي الحبيب في منتداك راجيا منك أن تشرفنا بمقالاتك المفيدة.