ملخص أطروحة الدكتوراه
مفهوم الجملة عند سيبويه[1]
للباحث حسن عبدالغني الأسديّ
تُعدُّ هذه الدِّراسةُ محاولةً لقِراءةٍ جديدةٍ للكتاب الأوَّل في النحو العربيِّ، الأرْقَى مكانةً فيه (أعني: كتاب سيبويه)؛ إذ إخال أنَّه كان قد كُتِب بمنهجيَّة لم تتأتَّ لأيٍّ مِن النحويِّين الخالِفين، وفي الحقِّ أنَّ صاحبَ الكتاب (المتوفَّى180هـ)[2] كان قد نزل منزلةً خاصَّةً عند عملاقِ النحو العربيِّ الأوَّل وعبقريِّ لُغته (الخليل بن أحمد الفراهيديّ ت: 175هـ)[3]، لم يصلْ غيرُه إليها، فقد رُوي عنه قولُه حين يرَى سيبويه مقبلاً عليه: (مرحبًا بزائرٍ لا يُملُّ)، وما سُمِع أنَّه قالها لغيرِه[4]، وكان أن يحدُث بينهما في طائفةٍ مِن محاوراتهما ما يَعجِز غيرُهما عن فَهمِه، كما حصَل للأخفش؛ فبينا هو عندَ الخليل إذ جاءَ سيبويه، فسأَلَ الخليلَ عن مسألةٍ ففسَّرها له؛ يقول الأخفش: "فلمْ أفهم ما قالاَ، فقمتُ وجلستُ له (يعني: لسيبويه) في الطريق، فقلت له: جَعَلني الله فداءَك، سألتَ الخليلَ عن مسألة، فلم أفهمْ ما ردَّ عليك ففهِّمنيها، فأخبرني بها، فلم تقعْ لي ولا فهمتُهما، فقلت له: لا تتوهَّم أنِّي أسالك إعْناتًا، فإنِّي لم أفهمْها ولم تقَعْ لي، فقال لي: ويلَك! ومتى توهمتَ أنَّني أتوهَّمُ أنَّكَ تعنِّتني؟! ثم زَجَرني وترَكَني ومضَى"[5]، ونقل السِّيرافيُّ عن الزجَّاج وصفَه لأحد أبواب الكتاب بقوله: (هذا باب لم يفهمْه إلاَّ الخليل وسيبويه)[6]، وغير ذلك مِن المواقف والأقوالِ التي تُصوِّر عملاقًا آخرَ للنحوِ العربيِّ، تتلمذَ على يدِ العملاق الأوَّل (الخليل).
وحسْبُنا من كلِّ هذا أنَّ علماءَ العربيَّة قاطبةً - على كثرتِهم وعبقريَّة كثيرٍ منهم - لم يستطيعوا أن يتجاوزوه، على الرغمِ مِن أنَّهم - كما سنرَى فيما بعدُ - تبنَّوا نظريَّةً للنحو العربي تختلف عن نظريتِه، إلاَّ أنهم لم يَجِدوا بُدًّا من أن يوظِّفوا كلامَه فيها؛ وقد عمِلوا على إعادةِ صِياغة كتابِه الصياغةَ التي يَرغَبون فيها، وتَمَّ ذلك لهم في كتابِ أبي بكر بن السرَّاج (ت 316هـ) "الأصول في النحو"، لقد تبنَّى ابن السَّرَّاجِ في كتابه منهجًا يقوم في إطارِه العام على الأصناف، بدأ فيه (بمرفوعات الأسماء، ثم المنصوبات والمجرورات، وانتقَل بعدَ ذلك إلى التوابع، ثم أشار إلى نواصبِ الأفعال وجوازمها، وزادَ بابَ التقديم والتأخير، وباب الإخبار بالذي وبالألف واللام، وانتهى إلى مسائل الصَّرْف)[7].
ووصَف بعضُ القدماءِ عملَه هذا، فقال: "...وأخَذَ مسائلَ سيبويه ورتَّبها أحسنَ ترتيب"[8]، ومِن ثَمَّ رأى محقِّق كتاب الأصول: أنَّ موضوعاتِه غيرُ متداخلة كموضوعاتِ سيبويه[9]، بل ذَكَر أنَّ القُدماءَ رأوا فيه ما يُجنِّبهم عناءَ البحث في الكتاب، فأصبح الأصول عندَهم (... غاية في الشَّرَف والفائِدة)[10].
وكان المبرِّد (ت: 285هـ) قد ألْمَح في مقولتِه المشهورة - في هذا السِّياق - التي كان يقولُها لمن يُريد أن يقرأَ عليه كتابَ سيبويه، وهي: (هل رَكبتَ البَحْر؟!) إلى الصُّعوبة التي كانوا يُعانونها في إدراكِ نَظريَّة سيبويه، ورأتِ الأستاذةُ الدكتورة خديجةُ الحديثيُّ في هذه المقولة (تعظيمًا له (تَعني: للكتاب)، واستصعابًا لما فيه، فكأنَّه لن يستطيعَ تحمُّلَ مشاقِّ قِراءته، والصبر على استخراج دقائقِه وعويصِه، إلاَّ مَن ركِب البحرَ، وتحمَّل أهوالَه، وإلاَّ مَن غاص فيه واستطاع استخراجَ دُررِه وجواهرِه)[11]، ولعلَّ تأليف المبرِّد "المقتضب" كان انعكاسًا للغُربة تُجاه الكتاب ومنهجه وفي محاولة فَهمِه الذي شاعَ وصفُهم إياه بـ(قرآن النحو).
إنَّ دِراستنا - كما يظهر - تحاول أن تتجاوزَ تلك التراكُماتِ التاريخيَّةَ والعلميَّة التي كوَّنت حجابًا حولَ الكِتاب امتَلَك سلطةً قويَّةً على الدِّراسات النحويَّة كافَّة إلى عصرِنا هذا، فإذا ما أرادَ بعضُ الباحثين النظرَ في الكتاب قَدَّم بيْن يديْ حاجته تلك تصوُّراتٍ عن الكتاب[12]، كان قد تعلَّمها في أغلبِ الأحيان مِن ألفيةِ ابنِ مالك وشُروحها أو كُتُب ابن هشام ونحوها، ولم يُمكِّن سيبويه مِن قيادِه، فكانتِ النتيجة الخروجَ بالموجود، بَيْد أنَّه ما يَنبغي أن يُفهمَ مِن كلامنا ها هنا أنَّنا نَسْعَى إلى أن نَعيبَ على أحدٍ ما عملاً، بل جَرَى القلم إلى هذا الموضِع مِن الكلام؛ لِمَا نرجوه مِن أن يتمَّ فهم سيبويه وغير سيبويه مِن علمائنا الأجلاَّء مِن خلال ما كتبوا أو ما نُقِل عنهم نقلاً حرفيًّا.
وفي الحقِّ فإنَّ سيبويه قادَنا إلى الكشفِ عن أبعادِ نظريته ولم نقدْهُ، وكان حِرصُنا شديدًا على ألاَّ نُخضِعه لأهوائنا، فمَع تواصل البحث على وَفق المنهج الفيلولوجي الذي تتبنَّاه الدِّراسة في فَهم النصوصِ، تكاملت خُطَّتها على الصورةِ الآتية:
• المقدِّمة.
• التوطِئة المنهجيَّة للدِّراسة.
• الفصل الأول: مَنهَج سيبويه في التحليل النحويِّ.
• المبحث الأول: مَنهَج سيبويه في دِراسة الظاهِرة النحويَّة.
• المبحث الثاني: منهَج سيبويه في التدوين النحويِّ.
• الفصل الثاني: مفهومات عناصِر الجملة العربيَّة.
• المبحث الأول: مفهوم الفعليَّة عندَ سيبويه.
• المبحث الثاني: مفهوم الاسميَّة عندَ سيبويه.
• المبحث الثالث: مفهوم الظرفيَّة عند سيبويه.
• الفصل الثالث: بناء الجُملة العربيَّة.
• المبحث الأوَّل: مصطلحات أرْكان الجُملة عندَ سيبويه.
• المبحث الثاني: التكوين الخَطِّي للجُملة عندَ سيبويه.
• الفصل الرابع: فَهْم الجُملة عندَ سيبويه.
• المبحث الأوَّل: المحتوَى الدَّلالي للجملة.
• المبحث الثاني: معيار حُسن السكوتِ.
• الفصل الخامس: المستوى القَبلي عندَ سيبويه.
• المبحث الأوَّل: نَظرية الأصول عندَ سيبويه.
• المبحث الثاني: مفهوم (تمثيل ولم يتكلَّم به) عندَ سيبويه.
• المبحث الثالث: الجملة الأصلُ في العربيَّة عندَ سيبويه.
• الخاتمة (نتائج الدِّراسة وتوصياتها).
• ثَبَت المظان.
• مُلخَّص الدراسة باللُّغة الإنكليزية.
فبعدَ أن يتمَّ توضيحُ منهجِ القِراءة التي نَنشُدها للكتاب عبْرَ التوطئة المنهجيَّة، يأتي الفصلُ الأول، وهو فصلٌ تَمهيديٌّ يَجري فيه توضيحُ البُعدَينِ المنهجيَّين اللَّذين تبناهما سيبويه في تحليلِه النحويِّ، يُبيِّن الأوَّل منهما طريقةَ سيبويه في تناولِ الظاهرةِ اللُّغويةِ.
أقول بعبارةٍ أخرى: إنَّ هذا المبحثَ يُحدِّد رؤيةَ سيبويه لوظيفةِ اللُّغوي وموقفِه مِن الظاهرةِ المدروسة؛ إذ يَرَى سيبويه له أن يتبنَّى منهجًا تفسيريًّا للظاهرة، وأعني بالتفسيري: كونَه مجتلبًا مِن المفسِّرين، أمَّا الثاني، فيقوم على مجالاتٍ خمسةٍ للتحليل النحويِّ، هي: المقولات، والبِنية، والعمل، والمحتوَى الدَّلالي، والمستوى القَبلي، وقدْ هيمنتْ هذه المجالات - بصورة واضحة - على خُطَّةِ الكِتاب في إيرادِ المادة النحويَّة، ومِن جِهةٍ أخرى كان ترتيبُ أبواب مقدِّمة الكتاب يعكِس ترتيبَ أقسام الكتاب التي وجَدْنا عددَها قد بلَغ تسعةَ أقسام.
وبعدَ الانتهاء مِن الفصل التمهيديِّ، يبدأ الفصلُ الثاني، فيبدأ معه بيانُ أوَّل مجال مِن مجالاتِ التحليل اللُّغويِّ، وهو مجال (المقولات Categories) أو الأصناف، ويتمُّ ذلك مِن خلال مباحثَ ثلاثةٍ خُصِّص كلُّ واحد منها لمقولةٍ مِن هذه المقولات المهمَّة في الجُملة، وهي مقولاتُ الفعليَّة والاسميَّة والظرفيَّة، وجَعْلُنا هذه المباحثَ لمفاهيم المقولات إنَّما يُراد به استيعابُ تَصوُّرات سيبويه في طوائفَ مِن البنَى مُفردَة أو مُركَّبة، يسلك بعضها مسلكَ إحدى المقولات الثالثة في الجملة.
ويَتناول الفصلُ الثالثُ بيانَ المجال الثاني والثالثَ مِن مجالات التحليل، وهما (البِنية والعمل)، وكان مِن المناسب أن نُفرِّغ مبحثًا لتحديدِ دَلالة المصطلحاتِ التي استعملها سيبويه في تحليلِ الجُمْلة مِن خلال مصطلحاتِ المسنَد والمسنَد إليه، والابتداء والمبتدأ، والمبني عليه، والخبر، والفعل والفاعل والمفعول، وغيرها، وكما قِيل فالمصطلحاتُ مفاتيحُ العِلم.
علمًا بأنَّ مصطلح (العمل) إذ نستعملُهُ في مجالِ التحليل يكون عامًّا لمفهومي سيبويه (التعدِّي والعمل النحويّ)، ويبرز مفهومُ التعدِّي بوصفِه مفهومًا خطيرًا عندَ سيبويه، بل لعلَّه أهمُّ مفهوماتِ الجُملة، ويَكفي وحْدَه أن يُقدِّمَ (مفهوم الجُملة عندَ سيبويه) على نحوٍّ جيِّد.
أما الفصل الرابع، فيتوجَّه نحوَ الجملةِ المتحقِّقة في الخِطابِ، بل لعلَّه أبرزُ موقِعٍ قد يوضِّح كون سيبويه قد تناول العربيةَ مِن منطلق كونِها لُغةَ الخطاب في أيَّامه، وتلك مسألة قدْ خالف فيها سيبويه سائرُ النحويِّين الخالِفين.
ويُصوِّر سيبويه في إطارِ مقبوليةِ الجُمْلة الأثَر المهم للمَجال الرابِع، وهو (مجال المحتوَى الدَّلالي)، الذي خُصِّص له المبحث الأوَّل، ويَليه مبحَث (حُسن السكوت)، ويقوم على وِجهة نظَر المتكلِّم في تكامُل المحتوى الدلالي للجُملة عندَ المخاطَب، بَيْدَ أنَّ ذلك لا يَعني بأيِّ حالٍ مِن الأحوال إمكانَ إدراك المحتوى الدَّلالي للجُملة بمعزل عن النَّمَط البِنائي الخاص بالبنية الافتراضيَّة الصُّغرى والكُبرى للجملة عندَ سيبويه.
ويُفرَد الفصل الخامس - وهو الفصلُ الأخير - لبيانِ المجال الأخير مِن مجالات التَّحليل، وهو المستوى القَبلي الذي يَكمُن خلفَ المجالات الأربعة السالِفة الذِّكر في التفسيرِ السيبويهي للظاهرةِ النحويَّة، وكأنَّ ذلك صور نظرية لُغويَّة متكاملة الأبعادِ في داخِل إطار النظريَّة اللُّغوية العامَّة في الكتاب، وتلك هي (نظرية الأصول اللُّغوية عند سيبويه)، وزَوَّدتنا هذه النظريَّةُ بطائفةٍ مِن قوانين العربية التي ترتكِز إلى الأصولِ الأُولى، وجرَى ضمنَ ذلك الكشفُ عن المصطلحات الخاصَّة بهذه النظرية، وهي مصطلحات (الأصل والحد والوجه وطريقة الكلام)، ومِن جملة الملاحظاتِ ها هنا: كون ظاهرة الممنوع مِن الصَّرْف تُمثِّل الأثَرَ المترتِّبَ لعدمِ خُضوع الكَلِم لتلك القوانين.
ويركز المبحث الثاني جهدَه على إبرازِ مفهوم تَكرّر ظُهوره الاصطلاحي في الكتاب، ويَنسجِم هذا المفهوم المصطَلح عليه بـ(تمثيل ولم يَتكلَّم به) ونحو ذلك مَع التصوُّرات الخاصَّة بنظريةِ الأصول، بوصفِه أصلاً تجريديًّا ظهَر في مبحثِ التكوين الخطِّي للجملة مِن الفصل الثالث، ووظَّفَ سيبويه هذا الأصلَ التجريديَّ في إطارِ مجالٍ تحليليٍّ للاستعمال النحويِّ، كما أنَّ هذا الأصلَ الذي تمثَّل فيما اصطلحْنا عليه بـ(البنية الافتراضيَّة الصُّغرى للجملة العربيَّة) سيكون أصلاً أوليًّا لجميعِ الجُمَل في العربيَّة.
وسَيعمل المبحثُ الثالث مِن هذا الفصلِ على تأكيدِ ذلك في إطار (الجُمْلة الأصل في العربيَّة عندَ سيبويه)، ومع انتهاءِ هذا المبحثِ تَنتهي الدراسةُ، ثم نَعْمَل بعدَ ذلك على محاولةِ صِياغة عرْضٍ موجز لأهمِّ نتائجها، وشَفْعِها بطائفةٍ مِن التوصيات التي رآها الباحث، يلي ذلك ثَبتٌ بمظانِّ الدراسة تُسطَّر فيه طائفة المصادر والمراجع المعتمَدة في الدِّراسة، ثم نُبذة مختصَرة للدراسة تُكتب باللغة الإنكليزيَّة.
إخال أنِّي قدِ استطعتُ بيانَ ما وصفتُه به مِن كونها محاولةً في قراءةٍ جديدةٍ للكتاب، تَمَّتْ بالبحث عن مفهوم الجُملة عندَ صاحبه، ولعلَّ الأمر قد اتَّضَح في كون سيبويه الذي لم يستعملِ الجملة بالمعنى الاصطلاحي إلاَّ أنَّ كلامه قد أتَى على المفهوم التَّركيبي (النحوي) للجُملة، وفي ظلِّ هيمنة المحتوى الدلالي لها إقامة الكتاب وإخراجه على الصورةِ التي تُظهِر لنا امتلاكَه للإدراك العقلي (أي: المفهوم) للجُملة، وقد سوَّغ لنا هذا الأمر عنونةَ دِراستنا هذه به، على أنَّ ذلك لا يَمنع - في زَعْمِنا - أن ننسُب إلى سيبويه وضْع البَذرة الأولى الممهِّدة لدخولِ اللفظة إلى حقلِ الاصطلاح النحويِّ، الأمر الذي ظهَر عندَ الفرَّاء والمبرِّد في كتابه المقتضَب؛ إذ كشَف الاستقراءُ لمادة الكتاب أنَّ سيبويه كان قدِ استعمل اللفظة (بمعناها اللُّغوي في تِسعَةِ مواضعَ، جاءتْ في موضعين منها على صِيغة الجمع (جُمَل، وجمْلات)، وجاءتْ في بقية المواضع على صيغة المفرَد (جملة).
لقدِ اتَّضح للباحِث كونُ مفهومِ الجُملة مفهومًا فعَّالاً في جانبٍ مهمٍّ مِن الكتاب، قد أُسِيء فَهمُه من لدن النحويِّين قديمًا وحديثًا، وذلك الجانِب هو خُطَّة الكتابِ في إيرادِ الأبواب النحويَّة، سمَّيْناه (منهج سيبويه في التدوين النحويّ)؛ إذ يُلاحَظ كونهم قد وَصفوا موضوعاتِ الكتاب بالتداخُل، وأنَّ أبوابَ الموضوع الواحِد مبعثرة هنا وهناك؛ فضلاً على نُزوع المحدِّثين إلى تَبنِّي منهج عام، ربَّما رأوه مخرجًا لسيبويه مِن ذلك التداخُلُ، وذلك المنهَج هو كون الكتاب قد أُلِّف على تتابُع (النحو والصَّرْف والأصوات)، وما ذلك في الحقيقةِ إلاَّ تأثُّرًا بنظرةٍ متأخِّرة عن زمَن تأليف الكتاب.
وقد حالَف التوفيقُ تلك النظرةَ حتَّى في بعضِ المحاولات المعاصِرِة لإعادةِ تقويم منهج الكتاب[13]، ولم يقتصرْ سوءُ الفَهم على ذلك فحسب، بل تجاوز إلى مصطلحاتِ الكتاب التي وصفت بكونها غيرَ مستقرَّة، فضلاً على كون دَلالاتها السيبويهيَّة قد نُسِيت تمامًا، بل ربَّما انحرف بها إلى عكسِ الاصطلاح عمَّا عندَ سيبويه كما حصَل في مصطلحي الإسنادِ في النَّمْط الاسمي؛ إذ تَمَّ بتأثيرِ نزعةٍ منطقيَّة تبنِّي خطيَّة القضية الحمليَّة، فاصطُلح على المبتدأ بالمسنَد إليه، واصطُلح على المبني عليه (الذي تحوَّل إلى الخبر دائمًا) بالمسنَد، في حين أنَّ سيبويه استعمل المسند للمبتدأ، والمسند إليه للمبني عليه، الأمْر الذي أدَّى إلى تحوُّلٍ كبيرٍ في مفهومِ تكوين الجُملة أدَّى فيما بعدُ إلى إلغاءِ تَصوُّراتِ سيبويه الخاصَّة بهيئةِ الجُملة وخطية نظريةِ العامِل النحويِّ، أو فعالية موقِع الصَّدارة في الجُملة.
وقدَّمتِ الدراسة - في محاولةٍ منها لإزالةِ سوءِ الفَهم المتقدِّم - ما تراه منهجًا كان سيبويه قدْ سار عليه في إيرادِ الأبواب النحْويَّة - جرَى إهماله أو الأصح عدَم إدراكه - يَعتمد على أُسستَقدّمها ما نُسمِّيها (نظرية التحليل النحويّ الخاصَّة بالكتاب)، متمثِّلة في المجالاتِ الخَمْسة الآتي ذِكرها لاحقًا، فالكِتاب مكوَّن مِن جزأين أساسيين هما: مُقدِّمة الكتاب (متمثِّلة في الأبوابِ السَّبْعة الأولى)، ومتْن الكتاب (وتلك مسألةٌ معروفة لدَى الباحثين)، ويقوم متنُ الكتاب على تِسعة أقسام تعتمد في إطارِها العام على تَصنيفٍ ثُنائي نحويٍّ للكلم، هو (مقولتَا الاسم والفعل).
تسبق مقولةُ الاسم (لبساطتها وأوَّليتها) مقولة الفِعل (المركَّبة المأخوذة مِن أحداث الأسماء)، وتتابع المقولتين على هذا التصنيف، وفي ضوءِ خمسة أمورٍ، هي ما يأتي:
الأمر الأوَّل: نظرية العامِل النحوي، والحالات الإعرابيَّة للمقولتَين الرئيستين الاسم والفعل المضارع لأسماءِ الفاعِلين.
الأمر الثاني: التمكُّن النَّحْوي أو التَّمام النَّحْوي المتمثِّل في ظهورِ التنوين أو عدَمه، ويُعدُّ عدَمُ التمكُّن اقترابَ اقترابًا للاسم من الفعليَّة.
الأمر الثالث: عدَم الخضوعِ للعامِل النحويِّ، ويتمثَّل هذا في الأسماء التي لا يَظهر عليها أثَر العمل لفظًا، وفي الفعل المضارع بدخولِ التوكيدِ ونون النِّسوةِ عليه.
الأمر الرابع: المحتوى الدَّلالي الخاص بالمقولةِ التي تُوصَف بكونِها أكثرَ أهميةً في تكوينِ الجُملة، وتلك هي مقولةُ الفعل؛ لكونِها العاملَ الفعَّال في إنشاءِ المجالات الخاصَّة بالوظائفِ في الجُملةِ، وتمثَّل هذا الأمر في محاولةٍ لحصْرِ معاني الأحداثِ بحَصْر أبنيتِها (صِيغها).
الأمر الخامس: قضيَّة الأصولِ والفُروع، وقدْ ظهرتْ خُطَّة الكتاب - على ما تَقدَّم - كما يأتي:
أولاً: المقدِّمة.
ثانيًا: متْن الكتاب: القِسم الأوَّل: وهو خاصٌّ بمواضعِ الاسم في الجُملة على وَفق الحالات الإعرابيَّة متتابعة:
مواضع النصب.
مواضع الجر.
مواضِع الرَّفْع.
القسم الثاني: وهو خاصٌّ بمواضِعِ الفِعل المضارِع في الجُملة، وهي متتابعة:
مواضع النَّصْب.
مواضع الجَزْم.
حالة الرَّفْع.
القسم الثالث: وهو خاصٌّ بالاسمِ مفهومًا، أعْنِي المؤولات الاسميَّة فيما نُلاحظ مثلاً في (أنْ وأنّ) مع معمولاتهما؛ إذ تسلكانِ مسلكَ المقولة الاسميَّة في الجُملة.
القسم الرابع: الاسم المنوَّن، والذي لا يُنوَّن، ومعنى ذلك كونُ الاسم بين حالةِ الإعراب والبناء، أو بكونه أكثرَ قربًا مِن الفعليَّة، ويعود ذلك إلى عدَمِ انسجامه مع قوانين العربيَّة الخاصَّة بنظريةِ الأصولِ اللُّغويَّة.
القسم الخامس: الأسماء المركَّبة الخاضِعة للعامِل النحوي (في هذا القِسم ينتقل سيبويه إلى حصْرِ مقولاتٍ اسميَّة مركَّبة بعدَ فراغه مِن الاسمِ المفرَد)، بَيْدَ أنَّ هذا التركيبَ غيرُ لازم فلا يؤدِّي إلى البناء، وهو تركيبُ الإضافة (النسب) والتصغير، والتثنية والجمع.
القسم السادس: الأفعال المركَّبة، ويُناظِر سيبويه في هذا القسمَ السابق (الأسماء المركَّبة)، إلاَّ أنَّ التركيب في الفعل (ويَعني به الفعل المضارع خاصَّة)، يؤدي إلى بنائه فلا يعود مُعربًا، ويكون التركيب ها هنا مع نونَي التوكيدِ ونون النِّسوة.
القسم السابع: الأسماء التي لا تُغيِّرها العوامل؛ بعدَ أن فرَغ سيبويه مِن مُعرَبات الأسماءِ في الإفراد والتركيب وما بين الإعرابِ والبِناء، بقِي أمامَه أن يتناولَها في حالةِ البناء؛ أي: عدَم خضوعِ تلك الأسماء للعامِل لفظًا، والأسماء هي: المقصورُ والأعدادُ المركَّبة، ولم يكُن له أن يَذكُر بعدها قسمًا للأفعال المركَّبة؛ لتَقدُّمِ ذلك في القسمِ السادس؛ إذْ لا وجودَ لقسمٍ خاصٍّ بتركيبِ الأفعال مع بعضِ الحروفِ مع بقائِها على إعرابِها.
القسم الثامن: معاني الأحْداث وأبنيتها: فبَعد أن فرَغ سيبويه مِن ملاحقةِ المقولتَين (الاسم والفِعل) داخلَ الجُملة في ضوءِ نظريةِ العامل، بقِي عليه أن يَنظُر إلى طبيعةِ الأحداث التي كوَّنت العنصر الأساسي في القُدرة البنائيَّة للفِعل المتمثِّلة في إنشاءِ المجالاتِ النحويَّة؛ إذ يسلك الفعلُ باشتمالِه على الحَدَثِ مسلكَ العامِل الفَعَّال الأساسي في تكوينِ الجملةِ العربيَّة، وقُدرته على الامتدادِ ببنيتها الأوليَّة إلى تشكيل (البنية الافتراضيَّة الكُبرى للجُملة العربيَّة)، ويرتبط ذلك على نحوٍ وثيق بمعنَى الحدَث.
القسم التاسع: ما يكون في اللفظِ مِن الأغراض، بعد أن يُكمل سيبويه تَصوُّراتِه الخاصةَ بمقولتي الجملة الأساسيتين (الفعل والاسم) في جانبيهما في إطارِ التصنيفِ وفي إطارِ الجُملة، وخضوعهما لنظريةِ العامِل النحويِّ، وتبعات ذلك، يَنتهي إلى ملاحظةِ كونِ الإطار اللَّفْظي الخاص بالألفاظ المفرَدة قدْ لا يبقَى على حالِه؛ إذ يُلاحَظ بروزُ طائفة مِن التغييرات الصَّوتيَّة كالإبدالِ والإدغامِ والإمالة وغيرِ ذلك، وأدَّى حدوثُ هذا التغيُّر على الأصلِ إلى وصفِه بالعَرض، على أنَّ الأمر ها هنا يَخْضَع في أساسه إلى نظريةِ الأصول اللُّغوية التي تَظهَر عندَ سيبويه في الفِكرة الخاصَّة بالمستوَى القَبلي، ويَنتهي الكتابُ بانتهاءِ هذا القسم.
ويُلاحَظ في هذا الصَّدد إبْراز وَحْدة منهجيَّة في إخراجِ الكتاب يَدْعو إلى النظرِ إلى الكتاب بوصفِه كتلةً واحدةً تقوم على أساسٍ واحِد، هو (مفهوم الجملة) مِن جِهة كون هذه الجُملة بنية تَركيبيَّة (نحْوية) عنصراها الأساسيان: الاسم والفعل، مع كونِ الأوَّل أخفَّ وأصلاً للثاني، ويُؤدِّي هذا - فضلاً على ذلك - إلى أنْ نَنظُر إلى مقدِّمة الكِتاب نظرةً أخرى تجعلها موضحةً ليس لأفكارِ سيبويه النَّحْويَّة، أو ما سيتناوله في متْنِ الكتاب حسبُ، بل موضِّحة للخُطَّة التي يقوم عليها إيرادُ الأبواب النحويَّة في الكتاب.
يَتَّضح مِن ذلك أنَّ سيبويه كان قد دَوَّن نَحْوَه على وَفقِ ترتيبٍ ليس مِن المبالَغة وصْفُه بغاية الدِّقَّة، قياسًا بمسيرةٍ امتدَّت ثلاثةَ عشرَ قرنًا، هو عُمرُ الدِّراسة اللُّغويَّة العربيَّة التي لم يُكتَبْ لها أن تعيشَ رُوحيَّة هذا التفكير العميق في الظاهِرة اللُّغويَّة كما عاشَها رائداها العبقريَّان (الخليل وسيبويه).
لقدْ كشفتِ الدِّراسة - في إطارِ بَحثِها عنِ الأساس الذي يَخضَع له التحليلُ النحوي في الكِتاب – ما يُمكِن أن نصطلحَ عليه بـ(نظرية التحليل النَّحْوي عندَ سيبويه)، وهي النظريَّةُ التي يقوم في ضوئِها مفهومُ الجُملة عند سيبويه، وتَمثَّلتْ هذه النظرية في مجالاتٍ خمسة للتحليل النَّحْوي، هي: المقولات، والعَمل، والبِنية، والمحتوَى الدَّلالي، والمستوى القَبلي، وكان مفهوم الجُملة ثمرةَ وجهات نظرِ هذه المجالاتِ مجتمعةً على الصورة الآتية:
1. مجال المقولات أو الأصناف Categaries، وهو مجالُ التصنيف، وتَتمثَّل وجهةُ نظر التحليل النحوي في هذا المجال كون الجُمل تشتمل على ثلاثةِ مفهومات مقوليَّة، هي مفهومُ الفِعليَّة، ومفهوم الاسميَّة، ومفهوم الظرفيَّة، معنى ذلك أن يجريَ تَصنيف الكَلِم وبعض التركيبات العباريَّة في إطار نحْوي على وَفقِ المواضِع التي تشغلها في الجُمْلة.
2. مجال العمل Goverment، وهو المجالُ الرابط بيْن المقولات الثلاثة الآنِفة الذِّكْر، وبالأحْرَى المجال الباحِث في تكوينِ الجُملة، وتقوم وجهةُ النظر مِن خلالِ هذا المجالِ على الاعتدادِ بموضعِ الصَّدارة في الجُملة، والقولُ بنظريةِ العملِ يَخْضَع إلى نظرةٍ خطيَّة للجُملة، فالعامِل المكوِّن للجُملة يَتصدَّر بقيَّة المكوِّنات، سواء أكان مقولة اسميَّة أم مقولة فِعليَّة، إلاَّ أنَّ المقولةَ الأخيرة تسلُك مسلكَ العامِل الفعَّال؛ لامتلاكِها القُدرة على الامتداد بالجُملة عبرَ إنشاء المجالات الخاصَّة بالوظائِف النحويَّة، وهو المسلك الذي قدْ تُشارِكه فيها مقولةُ الاسم أو الحروف في حالةِ امتلاكها لمعناه، وقدْ كان مصطلحَا التعدِّي والعمل مصطلحَينِ مُهمَلين ها هنا، خاصَّة وأنَّ مفهومَ التعدِّي يناظر مفهومَ القُدرة على إفراغِ المجالات عندَ المُحدَثين مِن البنائيين، ونُشير أيضًا إلى كونِ هذا المفهوم متلبسًا بالفِعل دائمًا، وهو مغايرٌ لمفهوم النحويِّين الخالِفين في تقسيمِهم الفعلَ إلى متعدٍّ ولازم.
وتَرجِع تلك القُدرةُ المولَّدة في الفِعل إلى هيمنةِ المحتوَى الدَّلالي الخاص بالمقولة الفِعليَّة على عمليَّات الرَّبْط في الجُملةِ، ويَظهر ذلك المحتوى مِن خِلال ثَلاث أضرُب مِن السِّمات المعجميَّة lixical features يمتلكها الفِعل، هي:
أ. السمات البنائيَّة structural features ويُنشئ الفِعل بها محلاًّ تلازميًّا، هو محلُّ الفاعِل، أو محلُّ المسنَد إلى الفِعل، كما تُنشِئ مجالاً اختياريًّا لظرفِ الزمان.
وتُعدُّ هذا السِّماتُ خاصَّةً بالفعل في العربيَّة، وتُميزه عن الفِعل في بقيةِ اللُّغات كالإنكليزيَّة مثلاً؛ لكونها مرتبطةً بالصيغةِ أو البناء، وهو (فعل ويفعل).
ب. السِّمات النحويَّة: Suntactic features ويُنشِئ الفعل بوساطةِ سِماته هذه المجالات الأُخرى الخاصَّة بالوظائف النحويَّة، كمجالاتِ المفعولين، والحال، والمفعول معه والمفعول له، وتُدرَك هذه السمات مِن عنصر الحدَث في الفِعل.
جـ. السِّمات الدلاليَّة Semantic features، وتُعبِّر هذه السماتُ عن المعاني المنطقيَّة للحَدَث بعينِه، وتكون مسؤولةً عن جَلْبِ الكلمات المتناسِبة مع تلك المعاني لإشغالِ مجالاتِ الوظائفِ النَّحْويَّة كلها.
أمَّا عملية تكوينِ الجُملة الاسميَّة، فتبدو - وفي نظر سيبويه - خاضعةً لتلازم دَلالي ما بيْن المبتدأ والمبني عليه، فذِكْر المبتدأ يَقتضي لزومًا ذِكْر مبني عليه، يكون هو المبتدأ في المعنَى أو ظرفه (مكانًا أو زمانًا)، ويُعدُّ ظهورُ مجالات أُخرى في هذا النمط دليلاً على اكتسابِ المبتدأ لمعنَى الفِعل كما في: هذا الرَّجُل منطلقًا.
3. مجال البنية sturcture: إذ تَنحُو المقولاتُ السابقة إلى أن تتَّخذ لنفسها نمطًا بنائيًّا تتجمَّع فيه، وقدْ بينتُ وجهةَ نظر سيبويه في هذا المجال قِيام الجُملة الأوليَّة على وفق تصوُّر بِنائي متدرِّج، فالجُملة عندَه عبارة عن بِناء (نعني به تحديدًا بناء اللَّبِن المتعارَف عليه أيَّام سيبويه)، مُكوَّن مِن لبنتين، تكون اللَّبِنة الأولى (الأساس) الذي تقوم عليها بقيةُ المكوِّنات، وقدِ اصطُلح عليها بالمسنَد، وتكون اللَّبِنة الثانية موضوعة على الأولى وترتفع عليها، واصطُلح عليها بالمسنَد إليه، أو المبني عليه، ويعني ذلك: أنَّ مفهومَ سيبويه لبِناء الجُملةِ مفهوم عَمودي لا أُفقي، وتختلف العَلاقاتُ التركيبيَّة الفرعيَّة عن هذه العَلاقة الأساسيَّة؛ إذ تَنحو تلك إلى تشكيلاتٍ بِنائيَّة فرعيَّة ذات اتِّجاه أُفقي داخِل البِناء الأساسي.
واعتمَد هذا المجالُ على محاولة لإعادة النَّظَر في مصطلحاتِ سيبويه الخاصَّة بأركانِ الجُملة الأساسيَّة، وهي (المسنَد والمسنَد إليه، والابتداء والمبتدأ والمبني عليه، والفِعل والفاعِل والمفعول)، التي جرَى التعامُل معها عندَ الخالفين بعيدًا عن دَلالالتها الأُول التي رأيْناها ترتكِز إلى تَصوُّر حقْل إنشاء الجِدار ونحوه.
4. مجال المحتوَى الدَّلالي: تتمثَّل وجهةُ نظَرِ سيبويه في هذا المجالِ التَّحليلي كون تركيب ما يُعدُّ جملةً متَى ما استطاع أن يُحيل متلقِّيَه إلى محتوى دَلالي تام؛ إذ تَنحو الجملةُ - التي هي وليدةُ السِّياق - إلى العمَل على صِياغتِه مِن جديد في حالةِ سماعها أو دِراستها، ومعنَى ذلك أنَّ المحتوى الدَّلالي للجُملة هو السِّياق المأخوذ مِن الجُملة ذاتها.
5. المجال القَبلي: وهو مجالُ الأصول الأُولى للمقولات والبِنَى، ويَظهر هذا المجال خلفَ كلِّ مجالٍ مِن مجالات التحليل السابِقة الذِّكْر، وقدْ تمثَّلت وجهةُ نظَرِ سيبويه في هذا المجال فيما اصطلحْنا عليه بـ(نظرية الأصول عندَ سيبويه)، ومفهوم (تمثيل ولم يتكلَّم به)؛ إذ يَرَى سيبويه أنَّ الاسمَ يكون في مرحلةٍ سابقة عن البِناء في حالةٍ هي: الإفراد (بسيط)/ واحد/ مذكَّر/ نكرة/ له بناء اسمي/ مكسوع بضمة قبلية تُعبِّر عن/(حالة الابتداء)/ وتظهر هذه الحالة عندما لا يَكون الاسمُ واقعًا تحتَ تأثير أيٍّ مِن العوامل النحْويَّة، ويَعني ذلك كون وظيفةِ العاملِ تَغيير الحالة الإعرابيَّة لا جلْبها (كما هو الحال عندَ بقيَّة النحويِّين).
وظهرتْ مِن خلالِ النظرية المذكورة طائفةٌ مِن القوانين النحويَّة التي يؤدِّي عدَمُ الانسجام معها إلى متَّسَع الكَلِم مِن حقِّها في الإعراب الثلاثي (وهو التمكُّن)، إلى إعرابٍ ثُنائي، في ظاهِرةٍ معروفة في العربيَّة بـ(الممنوع من الصَّرْف).
وتلك القوانين هي:
1. قانون الفعليَّة = الحدث + بناء [فعل أو يفعل].
2. قانون التعريف = أداة التعريف (أل) + النَّكِرة.
3. قانون التأنيث = المذكَّر + علامة التأنيث (تاء التأنيث).
4. قانون الجَمْع = المذكَّر + علامة الجَمْع (ونَ أو ينَ/ات).
أمَّا على المستوى التَّرْكيبي، فقدْ كشفتِ الدراسةُ في هذا المجالِ عن وجودِ نمطٍ أوَّلي تبنَّاه سيبويه للبنيَّة الأوليَّة (الصغرى) في الكلام هي (النَّمَط الإسنادي)، وقد مثَّل النمطُ الاسميُّ النمطَ الأصل (Kernel)، فيما اصطلحْنا عليه (بالبنية الافتراضيَّة الصُّغرى للجُملة العربيَّة)؛ إذ ترجِع إلى هذا النمطِ جميعُ الجُمل المتحقِّقة في العربيَّة، ورَأينا أنَّ النمطَ الإسناديَّ قد وضع بصورةٍ أظهرتْ إحالةَ سيبويه به إلى النمطِ الاسميِّ، فضلاً عن كلامِه الذي ذَكرْناه في تعضيدِ هذه النظرة.
وكشفتِ الدراسةُ أيضًا - اعتمادًا على القُدرة المحدودة لهذه الجُملَة -كونَ النمط الفِعليِّ النمطَ الفعَّال في العربية؛ لقُدرتِها على الامتدادِ بتوليدِ المجالات المرتكِزة على وجودِ الفِعل في الجُملة، ورأينا لهذا أنْ نصطلحَ على هذا النَّمَط بـ(البِنية الافتراضيَّة الكُبرى للجُملة العربيَّة)، ومع كونها محوَّلةً عن النمط الاسمي الأصْل، إلا أنَّها تسلُك مسلكَ الجملة الأصْل للجُمَل الفِعليَّة المتحقِّقة، وتكون بمنزلةِ البِنية العميقة Deep structure لتلك الجُمَل.
لقدْ تَمَّ في إطارِ المجالات الخمسةِ السابقة التوصُّلُ إلى طائفةٍ مِن النتائج المهمَّة في إدراكِ تلك المجالات، ومِن ثَمَّ إدراكِ مفهوم سيبويه للجُملة، وسأحاول إيرادَها فيما يأتي على وَفقِ ترتيبِ مباحثها:
1. لقد تَبنَّى سيبويه في كتابه منهجَ المفسِّرين في نَظرِهم إلى كتابِ الله؛ إذ عَمِل على وظيفةِ المفسِّر، فوظيفة اللُّغوي عندَ سيبويه هي تفسيرُ كلامِ العَرَب وتعليله؛ للوصولِ إلى مقاصدِهم منه؛ ولهذا فقدْ وظَّف طائفةً مِن الآليات في هذا التفسير، وظهرتْ آليةُ المحتوى الدَّلالي فعَّالةً في هذا المنهج، وتمثَّل المنهج التفسيري ها هنا بمناظرته لبحثِ المفسِّرين عن أسبابِ النزول، وقدْ سَعَيْنا إلى تأكيدِ هذا المنهج عبرَ استقراءِ كلمة (تفسير) ونحوها؛ إذ استعملها سيبويه في (150) موضع.
2. يُعدُّ عنصرُ الحَدَث العنصرَ الأكثرَ أهميةً في المقولات الفِعليَّة، لا عُنصر الزَّمان أو الِبناء (الصِّيغة)؛ وذلك لامتلاكِه القُدرةَ التوليديَّة في إنشاءِ المجالات، وفي ضوءِ ذلك قدمت الدِّراسة البنية الافتراضيَّة الكُبرى للجُملة العربيَّة التي تضمُّ جميعَ الوظائف النحويَّة، ونمط هذه البِنية نمطٌ فِعلي.
3. كشفَتِ الدِّراسةُ كونَ الزَّمان عندَ سيبويه زمانًا نحويًّا يخضَع للحدَث بكلِّ كيفياته مِن وقوعه فيما مضَى أو استمراره، أو كونه متوقعًا حدوثه، أو يطلب أو يستفهم عنه، وغير ذلك مِن كيفيات الأحداث، وتم في هذا السِّياق الكشف عن تقسيمٍ جديد للأفعال تبنَّاه سيبويه أساسًا لتقسيمِ الأفعال، وذلك هو كونُ الأفعال تنقسم إلى:
أ. أفعال واقعة (أو واجِبة).
ب. أفعال غير واقعة (أو غير واجبة).
4. وَضعتِ الدِّراسة ما اصطُلح عليه (بالبِنية المجرَّدة للفِعل) في إطارِ البحث عن مفهومِ الفِعليَّة، وكان مخطَّط هذه البِنية على الصورةِ التالية:
البِنية المجرَّدة للفِعل = [حدث + زمان + بناء] + [محل المسنَد إلى الفِعل (أو محل الفاعل)].
وتُؤكِّد هذه البِنية - فضلاً عن كشْفِها عن البِنَى الفِعلية - كيفيةَ التلازُم بين الفِعل والفاعل، ومِن ثَمَّ فإنَّ هذا المحلَّ سيبقَى ملاحظًا في التحوُّلات كافَّة، التي تَجْري على الجُملة الفعليَّة، كما أنَّ هذا التلازم سيُفسِّر حالةَ الرفع في الفاعِل بكونِها قريبةً مِن الحالة القَبْليَّة (حالة الابتداء)، وهو ما يُعطي أوليةً للنمط الاسمي على النَّمَط الفِعلي.
5. كذلك سعَتِ الدارسة في (مفهوم الاسمية) إلى وضْع مُخطَّط الاسميَّة الذي يمثِّل معيارًا للكشفِ عن اسمية البِنَى في الجملة، ويُلخَّص ذلك بأنَّ الاسمية تتحدَّد بـ(+ مادي)، وهو إما (+ عاقل) أو(- عاقل) والعاقل (+ حي و-حي)، مع الإحالةِ المستكِنَّة داخلَ اللفظ إلى مدلولِه، ويُمثِّلها الضمير (هو) المعبِّر عن علاقةِ التعيينِ أو التحديد أو الاختصاص، وهي السِّمةُ المشترَكةُ والضروريَّة لوصفِ البِنَى بالاسميَّة، مع منزلةِ المُضاف إليه التي تتعاقَب مع أل والتنوين لتمامِ الاسميَّة.
6. تَجاوز مفهوم الظرفيَّة عند سيبويه (ظرفيَّة الزمان والمكان) إلى معانٍ ظرفيَّة أُخرى، هي: الحاليَّة والمصاحَبة، والمشابَهة والبدليَّة؛ إذ تشترِك جميعُها في قيامِها على ملاحظةِ الشيءِ بالنسبة إلى شيءٍ آخَرَ، بحيثُ يكون الأخير مجالاً يتحرَّك الأوَّلُ في حدودِه.
7. لقدْ بيَّنتِ الدِّراسةُ أنَّ النداءَ يعمل مقيّدًا دائمًا للجُملة، يَختفي عندما يكون المخاطَب متوجِّهًا إلى المتكلِّم، أمَّا سُلوكها النَّحْوي فقد يكون قريبًا إلى حالةِ الابتداء، خاصَّة في المنادَى المرفوع.
8. أثبتتِ الدراسةُ أنَّ كتاب سيبويه كان قدْ كُتِب في ضوء تصوُّراتٍ امتازتْ عن عصرِها كثيرًا، فالدرس اللساني عندَ الخليل وسيبويه - على ما بيَّنه مبحثُ المحتوى الدلالي للجملة - درسٌ تَفسيريٌّ تَعليليٌّ يَعتمِد تقويمَ التركيب وبيان وجه الصِّحَّة والخَطأ بوساطةِ معايير خلفيَّة (نِسبة إلى مصطلح الخلف)، متجاوزًا بذلك طائفةَ النحويِّين المعاصرين الذين تبنَّوا منهجًا شكليًّا غايته معرفة الإعْراب.
9. اعتمَد سيبويه معيارَ (حُسن السُّكوت) داخل مجال المحتوى الدَّلالي للإشارةِ إلى تَمامِ هذا المحتوَى مِن وجهة نظر المتكلِّم منعكسةً على المخاطَب، وكان هذا المعيارُ مهمًّا في صحَّة بعضِ التركيبات، لا سيَّما النَّمط الثالِث من أنماط الجُملة الذي تبنَّاه سيبويه.
10. تعامَل سيبويه مع اللُّغة العربيَّة بوصفها لُغةً خطابيَّةً قائِمة في المجتمع، وهي سِمة قد افتقدتْها المؤلَّفاتُ النَّحويَّة اللاحِقة، وهذا شيءٌ يدعو إلى إعادةِ النَّظر في رأي المستشرقين في أنَّ العربيةَ الفُصحَى لم تَكُن لُغةَ خِطاب.
11. لقدْ تبنَّى سيبويه - في إطارِ المستوى القَبْلي - وجودَ نمط محوَّل عن الأصلِ يُعدُّ في نظرنا نمطًا ثالثًا للجُملة العربيَّة، وذلك النمط مِن نحو: فيها عبدالله، وأين زيد، وهو أمرٌ لم يُشِرْ إليه واحدٌ مِن القدماء أو المُحدَثين.
12. في مجالِ التأصيل الفِكري كان الكِتاب مُعبِّرًا عن فِكر لُغوي عميق ومتأمِّل قام في عقليتين، هما عقليتَا الخليل وسيبويه - رحمهما الله - وهما منسجمانِ معًا إلى الدرجةِ التي لا يُمكن الحُكم بصوابِ محاولةِ الفصل بينهما، بل تُعدُّ هذه المحاولةُ فاشلةً بأبعدِ حدودها.
13. لقد أظهرتِ الدراسةُ نتيجةً خطيرةً في الدَّرْس النحويِّ العربيِّ، تَمثَّلتْ في وجود مُغايرةٍ كبيرةٍ بيْن نظرية الكتاب ونظرية النحويِّين الخالفين، وقد مثَّل كتاب ابن السرَّاج (الأصول في النحو) إعادة صياغة نظريَّة سيبويه؛ لتخرج نظريةٌ نحويَّة جديدة هي أقربُ إلى النزعة المنطقيَّة في فَهمِ الجُملة وعلاقة الرَّبْط بيْن مكوِّناتها أو نظرية العامِل منها إلى النَّزْعة اللُّغويَّة، ولعلَّ أبرزَ مظهرٍ في هذا السِّياق المغايرة الاصطلاحيَّة في استعمالِ مصطلحات المسنَد والمسنَد إليه، فقدْ خالفوا سيبويه في الاصطلاحِ على المبتدأ بالمسنَد إليه، وعلى المبني عليه بالمسنَد؛ نزوعًا منهم إلى التعبيرِ عن القضيةِ الحمليَّة في المنطق.
توصيات الدراسة:
1. يُوصِي الباحثُ بتبنِّي (نظرية الكتاب) في التحليلِ النحويِّ، بوصفها منهجًا تكامليًّا حديثًا للدِّراسات اللغويَّة؛ إذ يُمكِّن منهجُ النظرية مِن تلافي العيوب التي اشتملتْ عليها المناهجُ الأخرى القديمة والحديثة، وهو ما يقود إلى محاولةِ إعادةِ تقويم البحوثِ اللُّغويَّة السابِقة، ولا سيَّما تلك البحوث التي اقتصرتْ على الكتاب.
2. وتُفسِح هذه الدِّراسةُ مجالاً لدِراسة موسَّعة تُحاول بيانَ درجةِ الانحرافِ الذي حصَل فيما بيْن نظريةِ الكِتاب ونَظريةِ النحوِ العربي المتمثِّلة في المؤلَّفات النحويَّة، ابتداءً بكتابِ الأصول لابن السرَّاج وما أعْقَبه.
وأخيرًا: فليستْ هذه الدراسةُ آخرَ المطاف مع الكتاب؛ إذ يعتقد الباحثُ بأنَّ نتيجةً مهمَّةً قد أفرزتْها دِراستُه، تتمثَّل في أنَّ الكتاب لا يَزال فيه المزيدُ، وأنَّه يَجِب أن تَقومَ قراءةٌ أُخرى وأُخرى، ولكن يجِب أن يكونَ هدفُ ذلك على ما يَقول كارتر في آخِر أحدِ بحوثه: (إنَّ هدفَنا كان أن ندَعَ سيبويه يترافَع في قضيتِه بكلماتِه هو)[14].
وبعد:
فالباحثُ يأمُل مِمَّن يتكلَّف عناءَ قِراءة بحثه أن يحتملَ الهفواتِ التي تَعِنُّ له، وأن يتجمَّل الصبرَ عليها؛ ولا سيَّما الأساتذةُ الكرامُ ممَّن ألِف كلامًا عن النحو وعن سيبويه غير ما قُلْنا به في هذا البَحْث، مع أَمَلي ألاَّ يضنُّوا عليَّ بآرائهم العلميَّة وتوجيهاتِهم المسددة في فَهْمِ النُّصوص وتحليل مَضْموناتِها؛ عسَى أن أُوفَّق إلى استدراكِ ما فاتني، وخيرُ ما يَعتذِر الباحث به عن مواطِن القصور في دِراسته هذه، ما عبَّر بِه الشيخُ الرئيس ابنُ سينا عن بعضِ كتبه، ويصحُّ أن يكونَ ذلك تعبيرًا عن شأنِ كِتاب سيبويه عندَ سيبويه نفسِه، بقوله: (وما جمَعْنا هذا الكتاب لنظهرَه إلاَّ لأنفسِنا؛ أعني: الذين يقومون منَّا مقامَ أنفسِنا، وأمَّا العامَّة مِن مزاولي هذا الشأن، فقدْ أعطيناهم في (كتاب الشفاء) ما هو كثيرٌ لهم وفوقَ حاجتهم)[15].
عسى أن يكونَ هذا عُذْره الذي يَعتذِر به.
والله الهادِي لدارِ السلام، وله الحمد.
________________________________________
[1] طُبِعت الأطروحة بالعنوان نفسه بدار الكتب العلميَّة، بيروت، 2007.
[2] يُنظر: سيبويه إمام النحاة (ص: 117)، ومِن أعلام البَصرة سيبويه (25 ، 53)، والمدارس النحويَّة (99 - 101).
[3] يُعدُّ هذا الرجل مفخرةً من مفاخر الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، ليس في جانبِها العِلمي حسب، بل في جانبها الأخلاقي العَمَلي؛ يُنظر لبيان مكانةِ هذا الرجل: الخليل بن أحمد الفراهيدي، أعماله ومنهجه، والفراهيدي عبقريٌّ مِن البصرة، للدكتور مهدي المخزومي.
[4] ينظر: "من أعلام البصرة سيبويه" (ص: 36).
[5] "من أعلام البصرة سيبويه" (38).
[6] تعليقات السِّيرافي، الكتاب (1/384) الهامش (3)، والباب المعنيُّ هو (هذا باب ما ينتصب مِن المصادر؛ لأنّه حال صار فيه المذكور، وذلك قولك: أما سمنًا فسمين).
[7] الأصول في النحو (1/22) (مقدمة المحقق).
[8] "الأصول في النحو" (1/21)، مقدمة المحقِّق عن "نزهة الألباء" (69).
[9] "الأصول في النحو" (1/22)، (مقدمة المحقق).
[10] "الأصول في النحو" (1/21)، مقدمة المحقق عن "طبقات الزبيدي" (122).
[11] سيبويه: حياته وكتابه (69).
[12] يُنظر على سبيلِ المثال: الفِعل في كتاب سيبويه، دِراسة نحويَّة (رِسالة دكتوراه).
[13] وهي محاولة د. محمد كاظم البكاء في أطروحته: منهج كتاب سيبويه في التقويم النحويِّ.
[14] عِشرون درهمًا في كتاب سيبويه (128).
[15] منطق المشرقيين (22).
________________________________________
• من نفائس المخطوطات .. شرح كتاب سيبويه للسيرافي الموقع بخطه
• مفاهيم ربانية (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
• المفاهيم الاستهلاكية في ضوء القرآن والسنة النبوية (الجزء الثاني)(كتاب - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
• مواطن الخلل في عرض الباحثين للمفاهيم العلمية والإجرائية في رسائل الماجستير والدكتوراه(مقالة - موقع الدكتور أحمد إبراهيم خضر)
• مفاهيم ربانية (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
• أهمية معرفة التاريخ لطالب العلم(مقالة - مجتمع وإصلاح)
• مآخذ ابن خروف على ابن بابشاذ من خلال شرح جمل الزجاجي (عرض)(مقالة - مكتبة الألوكة)
• حول ( الدستور ) في الدولة الإسلامية (5)(مقالة - موقع الدكتور سعد بن مطر العتيبي)
• مفهوم البيئة في الفكر الجغرافي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
• شمولية مفهوم العبادة في الإسلام(مقالة - آفاق الشريعة)
• {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}(مقالة - ثقافة ومعرفة)