اتجاهات تأويل القرآن الكريم في الخطاب الديني الحديث
دراسة بلاغيّة نقديّة
إعداد
انتصار علي أحمد أبو شاويش
:
أحمـدك يا رب كمـا ينبغي لجـلال وجهك وعظيـم سلطانـك ، أنت كمـا أثنيت على نفسـك ، لا أحصي ثنـاءً عليك ، وصلِ اللهـم على سيدنـا محمدٍ ، وعلـى آله وصحبـه ، ومن اتـبعه بإحـسان إلـى يوم الديـن ، وبعــد ،،،
يعتبر مصطلح التأويل من أكثر المصطلحات القرآنية دقةً وصعوبةً في تحديد مفهومه ، وذلك بسبب ارتباط التأويل منذ نشأته بمصطلح التفسير ، فكان الخلاف بين العلماء : هل التأويل بمعنى التفسير ؟ وهل هما يحملان نفس الدلالة ؟ وهل التأويل أخص أم أعم من التفسير ؟ وهل يجوز لنا كبشر أن نؤول القرآن الكريم ؟ وهل الراسخون في العلم يعلمون تأويل القرآن الكريم ؟ وهكذا…
أسئلة كثـيرة شكّلت مجـالاً واسعاً للخلاف بـين المسلمين الأوائل ، مما أدى إلى نشأة الفرق المتكـلمة .
إن التأويـل في حقيقـته : محاولةٌ ذاتيةٌ فرديةٌ لاستنبـاط دلالات النص القرآني وفهم ظواهره وأسراره ورموزه ، بحيث لا يتنافى ذلك مع ما هو قطعي الثبوت من القـرآن والسـنة .
ويبدو أن الاختلاف حول قضية التأويل لا يتعلق بالنص ، بقدر ما يتعلق بالذات القارئة للنص ، وذلك لأن التأويل عملية عقلية ذاتــية تختلف من قارئٍ لآخر ، بل قد تتعدد القراءات عند المتلقي الواحـد بتعدد الظروف والمناسبات .
من هنا نشأ الاختـلاف المعروف تاريخياً بين الفِرق الإسـلامية حول قراءة النص القرآني، وتفجّرت علـى أيديهم قضايا هامـة وحسّاسة في الفكـر الإسلامي ،
امتدت إلى تأويـل صفات الله عزّ وجلّ ، فكان للأشاعرة وأهل السنـة حضورهم البارز في الرد على المعتزلة ، الذين اعتمدوا على الأدوات البلاغية – خاصة المجاز – كآلية هامة من آليـات التأويـل .
وقـد امتدت حركة التأويـل إلى فكرنا الإسلامي الحديث ، وظهر من النقاد من ينظر إلى النص القرآني كمـنتجٍ ثقــافي ، أنتجه واقعٌ بشري غير تاريخي في معظم الأحيـان ، متناسين أن حادثة الوحي لها بعدها التاريخي المحدد في الفكر الإسلامي ، ولذلك تعامـل هؤلاء النقاد مع النص القرآنـي كنص أدبي قابل لفض أسراره اعتماداً على رؤية المؤّول الخاصّة ، وذلك لأن القول بألوهيــّة هذه النصوص - في نظرهم - تجعلها نصوصاً مستغلقة الفهم على الإنسان العادي ، ومن هنا نشأ الخلط الواضح بين النص الديني والنص الأدبي عند نقاد الحداثة.
وقد كان هذا البحث المتواضع "دراسة بلاغيّـة نقديّـة " لحركة التأويل التي تناولت النص القرآني عند المحدثين ، حيث اقتصرت هذه الدراسة على أهم اتجاهات التأويل في الخطاب الديني الحـديث .
وقد اعتمدت هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي والنقدي ، وذلك بحسب ما تتطلبه المواقف في هذا البحث ، وقد استفادت هذه الدراسة من البعد التاريخي لمعالجة بعض القضايا التي تعرض لها المفكرون الإسلاميون قديماً وحديثاً .
وقد لاحظت الباحثـة أن الدراسـات السابـقة في مجملها قد تناولت حركة التأويل ـ خاصة عند المتكلمين ـ في ثنايا دراستهم لقضـية الإعجاز …… باستثناء كتاب نصر أبو زيد الموسوم بـ ( الاتجاه العقلي في التفسير ، دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة ) ، ثم كتابه الآخر وهو ( فلسفة التأويل . دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي ) ، وكتابه مفهوم النص ، وكذلك كتاب التأويل والحقيقة لعلي حرب.
وقد كـان لهذه الكتب رغم خصوصيتها الفضل الأكبر في تنبيه الباحثة إلى أهمية التأويل وضرورة التوفّر على دراسته بطريقة تفصيلية تهدف إلى تجلية آليات التأويل واتجاهــاته في الخطاب الديني الحديث .
وقد جاء هذا البحث المتواضع ليكشف عن أهم آليات التأويل في الخطاب الديني الحديث ، التي تجاوزت آلية المجاز التي اعتمد عليها القدماء ، ودخلت نطاقاً أوسع في تحليل النص القرآني يمتد ليشمل كل أدوات التحليل اللغوي ويعتمد على أحدث النظريات النقدية كالأسلوبية والبنيوية والتفكيكية في تأويل النص القرآني .
وقد جاء البحث في أربعـة فصول ، بُدئت بمقدمة وتليت بخاتمة :
تناول الفصل الأول منها مفهوم التأويل ووظيفته عند القدماء ، وتنـاول التمهيد لهذا الفصل المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للتأويل ، والفرق الواضح بينه وبين التفسير ، ثم استعرَضت مباحثه الخمسة : أهمية التأويـل في النص القرآني وشروطه وضوابطه كما حددها القدماء والمحدثون ، ثم تنـاولت بشيء من الإيجاز نشأة التأويـل ودوافعه عند القدماء ، ووظيفـة هذا التأويل في درء التعارض الظاهر أحياناً بين الآيـات .
ثم عرضت هـذه المباحث لأشهر الفِرق المتكلمة ( المتأوّلة ) كالمعتزلة ، الأشاعرة ، الصوفية ، الخوارج والشيعة ، وقد تمَّ ترتيب هذه الفرق حسب شهرتها التاريخية لا حسب الترتيب الزمني لظهورها ، وبينت المباحث أيضاً أهم القضايا التي تناولها التأويل عند هذه الفِرق ، حيث اقتصرت الدراسة في هذا البحث على قضية المحكم والمتشابه وذلك لأنها من أكثر القضايا ارتباطاً بموضوع التأويل .
ثم أخيراً تعرضت لدور المجـاز كسلاح مهم ووسيلة ضرورية للتأويل عند القدماء ، مبينـة رأي الظـاهرية حول هذه القضية .
وقد جاء الفصل الثاني بعنوان التأويل الفني عند المحدثين ، حيث يبدأ بتمهيد يتناول مفهوم الصورة البيانية وأثرها في إبراز المعنى وتوضيحه .
ويتناول المبحث الأول منه المنهج البياني في التفسير ( التأويل ) ، الذي نظّر له الشيخ أمين الخولي ، حيث يهتم هذا المنهج بدراسة القرآن الكريـم دراسةً أدبيةً محضة ، وذلك لأن القرآن الكريم ـ في رأي الخولي ـ هو أثر العربيــة الفني الخالد ، وهو نص يمارس تأثيره وفاعليـته على المسلم ، وعلى غير المسلم من خلال خصائصه الأدبيـة والفنيـة المميزة له .
أ.
وقد عرض هذا المبحث خطوات المنهج البياني كما أصّلها الإمام محمد عبده ، ثم خطواته عند الشيخ أمين الخولي وتلاميـذه ، ثم عرض نموذجاً من تطبيق د.عائشة عبد الرحمن لهذا المنهج في التـأويل كما تمثلتـه .
أما المبحث الثاني منه فتنــاول ظـاهرة التصوير الفني عند الأستاذ سيد قطب مبيـناً
سماتها وخصائصـها وألوانهـا، حيـث تجاوز فيها المرحوم سيد قطب البلاغة القديمة ، ودخل حيزاً أوسع هو ما نسميه اليوم فن الأسلوب أو فن القول .
إن هذه النظرية تدرس الإيحاءات والدلالات التي تتناولها المفردة القرآنية وتصوّر الحالات النفسية والمعنوية ، والنماذج الإنسانية والحوادث والأمثال بالتشخيص مرة والتجسيم مرة أخرى وبالتخيـيـل ثالثة .
إن هـذا التصوير عند المرحوم سيد قطب هو تصوير باللون والحركة والتخييل والنغمة ، و كثيراً ما يشترك فيه الوصف والحوار وجرس الكلمات ونغم العبارات وموسيقــى السيـاق لإبراز صورةً تملأ الفــكر والوجدان .
أما الفصل الثالث فهو بعنوان التأويـل والأسلوبيـة ويبدأ بتمهيد يتناول أهم تعريفـات الأسلوب ومفاهيمه عند الغرب ، والزوايا التـي تناول منها النقاد تعريفه وهي ( المبدع ، النص ، المتلقي ) ، ثم يكشف بإيجاز عن مدى اهتمام تراثنا بهذه الجوانب الثلاث مبيناً بعض البذور الأسلوبية في هذا التراث .
وفي المبحث الأول منه يتـم استنباط أهم المـلامح الأسلوبيـة في تأويـل الزمخشري ( الكشاف ) وذلك من خلال عرض بعض النماذج من تحليله التي يتم من خلالها أيضاً استنتاج سمات منهجه في تأويل القرآن الكريم ، وذلك حتى نستنبط البذور الأسلوبية في تراثنا التأويلي ومدى استفـادة المعاصـرين من منهجهِ وخاصةً الشيخ محمد متولي الشعراوي .
وفي المبحث الثاني منه عرضتُ لنماذج من تحليل الشيخ محمد متولي الشعراوي ، ويتم من خلالها استنتاج أهم الملامح الأسلوبية في تأويله ثم معرفة مدى التشابه والاختلاف بين تحليل الشعراوي والزمخشري .
أما الفصل الرابع فهـو يتناول التأويل عند نقـاد الحداثـة ، حيث يبدأ بتمهيدٍ يتناول الخلط الواضح في الفكر الحداثي بين النص الديني والنص الأدبي ، حيث تعامل بعض هؤلاء النقاد مع القرآن الكريم كنص أدبي محض مستخدمين كل أدوات التحليـل اللغوي لفض أسراره .
وقد تناول المبحثان الأول والثاني منه أهم آليـات تأويل النص القرآني في الفكر الحداثي، وهي إهدار البعد التاريخي ، والانتصار لسلطة العقل على حساب سلطة النص الديني .
أما المبحث الأخير فيتناول التأويل اللانهائي والمطلق الذي نادى به أستاذنا د.سليمان أبو عزب ، والذي يجعل من القرآن كله حقيقة لا مجاز فيه ، وحينئذ لا تجسيم ولا تشخيص في القرآن ،وإنما يكون خطـاب القرآن الكريم للطبيعة الصامتة خطاباً حقيقياً ، والنص القرآني عنده يحمل عدداً من المعاني والدلالات لا نهاية لها.
وبعد :-
فهذه بإيجاز آفـاق البحث وأبعـاده … والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات .
وأخيـراً إن كنتُ قد قصرتُ في الوفاء بما يليــق بالكمالِ والجمالِ الذي يختص به كـلام الله ، فعذري أنني أخلصـتُ النيـّة ، وبذلتُ ما أمكن من الجهد ، وعزائي في ذلك مـا جاء من حكمةٍ بالغةٍ على لسان العماد الأصفهاني في قوله : " إني رأيتُ أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غدهِ : لو غُيِّـر هذا لكـان أحسن ، ولو زِيد كذا لكان أحسن ، ولو قُـدِّم هذا لكان أفضل ، ولو تُرك هذا لكـان أجمـل ، وهذا من أعظم العِبر ، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر " .
والله من وراء القصد ،،،
2011-04-08, 08:17
[/center
