ثمة اختلاف شديد بين الاتجاهات اللسانيَّة الحديثة في تعريف النَّصِّ يصل أحياناً حدَّ التناقض والإبهام أحياناً أخرى ؛ فلا تعريفَ مُعترفٌ به من قبل عدد مقبول من الباحثين النَّصيين ؛ لذا صار وجود تعريفٍ جامعٍ مانعٍ للنَّصِّ مسألة غير منطقيَّة من جهة التَّصور اللغوي , مع هذا تظل محاولة الوصول إلى تعريف يضم أكبر عدد من الملامح الفارقة للنَّصِّ محاولةً طموحةً ؛ فالوصف اللغوي للنَّصِّ وصفٌ معقدٌ يتجاوزُ حدودَ ما هو قائم في اللغة والواقعِ اللغويّ إلى ما هو غير قائمٍ في اللغة , الواقعِ الخارجيّ , أيّ إنَّ المادة الفعليَّة التي تقدمها تراكيب اللغة ليست كافية لتقديم تفسيرات دقيقة للنَّصِّ(1 ).
وتعود صعوبة تحديد النَّصِّ عند د. منذر عيّاشي إلى ذاتية النَّصِّ ؛ فالنَّصُّ ((دائمُ الإنتاج ؛ لأنَّه مستحدثٌ , ودائم التخلف ؛ لأنَّه دائماً في شأن ظهوراً وبياناً ويستمر في الصَّيرورة ؛ لأنَّه متحركٌ وقابلٌ لكلِّ زمان ومكان ؛ لأنَّ فاعليته ؛ متولّدة من ذاتيته النَّصيَّة , وهو إذا كان كذلك فإنَّ وضعَ تعريفٍ له يعتبر تحديداً يُلقي الصيرورة فيه , ويُعطل في النهايَّة فاعليته النَّصيَّة))(2 ).
وقد أفرزت الاتجاهات اللسانيَّة المتباينة كماً هائلاً من التعريفات بمصطلح (النَّصّ) , جعلت الباحثين يصنفونها على وفق معايير مختلفة ؛ فمنهم مّنْ صنفها بحسب الاتجاهات النقديَّة التي أفرزتها( 3), ومنهم مَنْ صنفها بحسب صلتها بالبنى النَّصيَّة والسياقات النَّصيَّة( 4), ومنهم مَنْ صنفها بحسب صلتها بالجملة(5 ), ومنهم مَنْ صنفها بحسب اتجاهات أصحابها ومنطلقاتهم( 6).
والمختار في تصنيف تعريفات النَّصِّ هو تصنيفها على وفق التركيب والدلالة ؛ لأنَّ هذا التصنيف يمنع إغفال أيّ اتجاه تناول النَّصَّ في دراسته سواءً البنيويّ أم التوليديّ التحويليّ , أم النَّصيّ , أم السيميائيّ ؛ كما إنَّهُ سيكشف رؤيةَ مُعرِّفِ النَّصِّ .
ب-1-2-2-أ- تعريفات اعتنت بتركيب النَّصِّ .
يشير (رولان بارت R. Barthes) إلى أنَّ النَّصَّ هو جسم مُدرَك بالحاسة البصريَّة , وهو يرتبط بالكتابة , أي برسم الحروف . ولو أنَّه يبقى تخطيطاً فهو إيحاء بالكلام وتشابك النسيج( 7), والكتابة هي السمة الأساسيَّة للنَّصِّ عنده ؛ فالكتابة ضمانة للشيء المكتوب , وصيانة له ؛ وذلك باكتسابه صفة الاستمرارية ؛ فالنَّصُّ يقف بوجه الزَّمن والنِّسيان(8 ).
ولم يعتنِ د.الزَّنَّاد في تعريفه للنَّصِّ بالملفوظ والمكتوب ؛ فالنَّص عنده (( نسيجٌ من الكلمات يترابط بعضها ببعض وهذه الخيوط تجمع عناصره المختلفة والمتباعدة في كُلٍّ واحد هو ما نطلق عليه مصطلح النَّصّ))(9 ).
ويُعرِّف د. سعد مصلوح النَّصَّ بقوله : ((أمَّا النَّصُّ فليس إلا سلسلة من الجمل كُلٌّ منها يفيد السامع فائدة يحسن السكوت عليها , وهو مجرد حاصل جمع للجمل أو لنماذج الجمل , الداخلة في تشكيلته))( 10).
جملةُ التعريفات هذه التي تنظر إلى النَّصِّ على أنَّه متوالية من الجمل , هي تعريفات دائرية أي إنَّها توضح النَّصَّ بالجملة , والجملة بالنَّصِّ ومن ثَمَّ لا يمكن تطبيقها أو اعتمادها( 11)؛ وذلك يعود إلى إمكانية وصف الجملة بأنَّها وحدات مستقلة , بمعنى أنَّ ما يكون جملة ضمن نصٍّ ما , يكون في غير موضع نصٌّ ومن هذا قول القائل إذا انتهى من طعامه : (الحمد لله رب العالمين) , فهذه الجملة إذا قيلت مستقلة فهي نصٌّ , لكنَّها إنْ قيلت ضمن (سورة الفاتحة) فإنَّها جملة , وإلى هذا أشار (بو جراند) بقوله : (( إننا لا نستطيع أن نتناول النُّصوصَّ من خلال وصفها بأنها وحدات أكبر من الجمل, أو بأنَّها جُملٌ متوالية في سياق ؛ ذلك بأنَّ الخاصيَّة الأولى للنُّصوصِّ من باب أولى هي كونها ترد في الاتصال , ولربما يأتي أحد النُّصوص على صورة كلمة واحدة , أو جملة واحدة , أو مجموعة من الأجزاء , أو خليط من البنيات السَّطحية , ويترتب على ذلك أنَّ توسيع نطاق دراسات الجملة إذ تشمل النُّصوصَّ لا بُدَّ أن يفقد النُّصوصَّ عدداً من الأمور الحيوية , وأن يسبب مشكلات عمليَّة خطيرة))(12 ).
ب-1-2-2- ب- تعريفات اعتنت بدلالة النَّصِّ .
لقد جعل (شميت Schmidt S.) الاتصال أساساً في تعريفه للنَّصِّ فهو(( كُلُّ تكوين لغوي منطوق من حدث اتصالي – في إطار عمليّة اتصاليّة – محدد من جملة المضمون ويؤدي وظيفة اتصالية يمكن إيضاحها , أيّ يحقق إمكانية قدرة إنجازية جليَّة))( 13).
ويضع (بتوفي s. j. petofi) المتلقي شرطاً في تحديد النصِّ , فالنَّصُّ عنده يُستعمل ((للإشارة إلى موضوع سيميوطيقي , يُحفَظ كتابةً على شريط مسجل أو شريط فيديو , ويوافق اثنان من أبناء اللغة المقدَّمة على الأقل على أنَّ الموضوع المقدَّم هو نصٌّ))(14 ).
وقد ركّز (ديتر فيهفجر D.Viehweger) على جوهر النَّصِّ وحقيقته ؛ إذ رأى أنَّ النَّصَّ : ((إلحاق كائن وفق خطة فعل محددة . أي نظام دينامي للأفعال والعمليات – قواعد إنشاء النص – ومتحقق من خلال قواعد النظام اللغوي لمضامين الوعي بوصفها ناقلات لظواهر وأحوال الواقع والتتابعات الصوتيَّة))(15 ).
ب-1-2-2- ث- تعريفات جمعت بين التَّركيب والدَّلالة .
يرى (هاليداي) أنَّ النَّصَّ (( وحدةٌ معنوية أساسيَّة في اللغة ؛ فعلاقته بالبنية الدلاليَّة كعلاقة الجملة بالبنية المعجميَّة النحويَّة , وكعلاقة المقطع الهجائي بالبنية الفونولوجية . النَّصُّ هو وحدة من تنظيم مقاميّ ـ دلاليّ : تواصل المعنى في السياق ؛ حيث يبنى بفعل العلاقة الدلالية للاتساق))( 16).
أما (جوليا كريستيفيا Julia Kristeva) فترى أنَّ النَّصَّ أكثرُ من مجرد خطاب أو قول ؛ إذ إنَّه موضوع لعدد من الممارسات السيميولوجية التي يعتد بها على أساس إنَّها ظاهرة عبر لغويَّة , بمعنى أنَّها مكونة بفضل اللغة , لكنَّها غير قابلةٍ للانحصار في مقولاتها , والنَّصُّ بهذه الطريقة : جهازٌ عبر لغوي , يُعيد توزيع نظام اللغة بكشف العلاقة بين الكلمات التواصليَّة , مشيراً إلى بيانات مباشرة تربطها بأنماط مختلفة من الأقوال السابقة والمتزامنة معها . والنَّصُّ نتيجةً لذلك إنَّما هو عملية إنتاجية تعني أمرين:
1- علاقته باللغة التي تكونه تصبح من قبيل إعادة التوزيع (عن طريق التفكيك وإعادة البناء) ممَّا يجعله صالحاً لأن يُعالَج بمقولاتٍ منطقية ورياضية أكثر من صلاحية المقولات اللغويَّة الصرفة له.
2- يُمثل النَّصُّ عمليَّة استبدال من نُصوصٍ أُخرى , أيّ عملية (تناص) , ففي فضاء النَّصِّ تتقاطع أقوالٌ متعددة مأخوذة من نصوص أخرى , ممَّا يجعل بعضها يقوم بتحييد بعضها الآخر ونقضه(17 ).
والنَّصُّ عند (فان دايك) هو : نتاجٌ لفعل ولعملية إنتاج من جهة , وأساسٌ لأفعال , وعمليات تلقٍ واستعمال داخل نظام التواصل والتفاعل من جهة أخرى , وهذه العمليات التواصليَّة الأدبيَّة تقع في عدة سياقات تداوليَّة ومعرفيَّة وتاريخيَّة تُحدِدُ الممارسات النَّصيَّة , وتُحَددُ بوساطتها , وهي تُعرض بحسب جماعات المشاركين , وأدوارهم وقواعد الاستراتيجيات التي تنظم ممارساتهم النَّصيَّة(18 ).
ممَّا تقدم(19 ) يُلحظ أنَّ من الباحثين من شرح مفهوم النَّصِّ عامّة , ومنهم من برزت عنده الخواص النَّوعيَّة الماثلة في بعض أنماط النَّصّ . ولا يتحصل بمجرد إيراد التعريف تحديداً واضحاً وقاطعاً للنَّصِّ ؛ لذا يرى د. صلاح فضل أنَّ مفهوم النَّص يُبنى (( من جملة المقاربات التي قدمت له في البحوث البنيويَّة والسيميولوجية الحديثة , دون الاكتفاء بالتحديدات اللغويَّة المباشرة ؛ لأنَّها تقتصر على مراعاة مستوى واحد للخطاب , هو السّطح اللغوي بكينونته الدلاليَّة))( 20).
إذاً شغل تحديد النَّصِّ مساحةً واسعةً من عناية اللسانيين , وعلى الرغم من التباين في مذاهبهم الفكريَّة التي ينطلقون منها , إلا أنَّ هناك قاسماً مُشتركاً بين كُلِّ هذه التعريفات , وهو التأكيد على خاصيَّة ترابط النَّصِّ وضرورة النَّظر إليه على أنَّهُ وحدةٌ لغويَّةٌ مترابطةُ الأجزاء – شكلاً ومضموناً – وليس سلسلةً من الجمل فقط .
-------------------------------
(1 ) ينظر : علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات: 101 ـ 107 .
(2 ) النص ممارساته وتجلياته :55.
(3 ) ينظر : النص الغائب تجليات التناص في الشعر العربي , محمد عزَّام : 11 -25 .
(4 ) صاحب هذا التصنيف الباحث عبد المهدي الجراح في أطروحته للدكتوراه : (الخطاب وأثره في بناء نحو النص : تطبيق على المعلقات السبع ) جامعة اليرموك ألأردن . وهي أطروحة غير منشورة . ينظر : نحو النص إطار نظري ودراسات تطبيقية , عثمان أبو زنيد : 12 .
(5 ) ينظر : أصول تحليل الخطاب : 82 ـ 93 .
(6 ) ينظر :التحليل اللغوي للنَّص مدخل إلى المفاهيم الأساسية والمناهج ,كلاوس برينكر( Brinker),ترجمة : سعيد حسن بحيري :22-24, ونحو النص إطار نظري ودراسات تطبيقية : 13 .
(7 ) ينظر : لذة النص , رولان بارت , ترجمة د. منذر العياشي : 10 – 11 .
(8 ) ينظر : النص والأسلوبية بين النظرية والتطبيق , عدنان بن ذريل : 60 .
(9 ) نسيج النص : 12 .
(10 ) العربية من نحو الجملة إلى نحو النص : 407 , وينظر : نحو النص اتجاه جديد : 24.
(11 ) ينظر: نحو النَّص اتجاه جديد : 22 .
(12 ) النص والخطاب والإجراء : 64 .
(13 ) علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات: 81 .
(14 ) لسانيات النص عرض تأسيسي , كيرستن آدمسيتك , ترجمة : سعيد بحيري : 90 .
(15 ) إسهامات أساسية في العلاقة بين النص والنحو والدلالة : 266 .
(16 ) الإحالة دراسة نظرية مع ترجمة الفصلين الأول والثاني من كتاب (Cohesion in English), هاليداي ورقية حسن ( رسالة ماجستير) , شريفة بالحوت : 111 .
(17 ) ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص , د. صلاح فضل : 211 – 210 , وعلم النص جوليا كريستيفا ترجمة : فريد الزاهي : 21 . و قد أعتمد الباحث على ترجمة صلاح فضل لأنَّها أكثر وضوحاً
(18 ) ينظر : النص والسياق , فان دايك , ترجمة عبد القادر قنيني : 21 , والنص الغائب : 16 .
(19 ) هناك جملة من التعريفات تركت لعدم اقتضاء المطلب لها ينظر فيها : لسانيات النص نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري :11- 20 , ونحو النص إطار نظري ودراسات تطبيقية : 11 – 33 . ولسانيات النص عرض تأسيسي :89-91, ومدخل إلى علم النَّصِّ مشكلات بناء النصِّ, (زتسيسلاف واورزنياك) , ترجمة , د. سعيد بحيري :61-69, وأصول تحليل الخطاب : 1 / 81 – 86 .
(20 ) بلاغة الخطاب وعلم النص : 211 .
-----------------------------------------
المصدر : السبك النصي في القرآن الكريم , دراسة تطبيقية في سورة الأنعام , ماجستير , أحمد حسين حيال .