مجاز القرآن في دراسات المحدثين(*)
الدكتور محمد حسين علي الصغير(**)
كان لتعيين استاذنا العلامة الشيخ أمين الخولي رحمه الله(1) أستاذا للدراسات القرآنية والبلاغية والنقدية في كلية الآداب في الجامعة المصرية في أواخر الربع الأول من القرن العشرين، كان له أثره الجليل في قلب المفاهيم التدرسية، ونقد المناهج العلمية، وتجديد الأساليب التفسيرية والبلاغية. كان ذلك إيذانا بحياة قرآنية في الجامعة لا عهد لها بها، وكان صاحبنا ذا منهج محدد يتحدث هو عنه: «فدخلت ميدان التجديد الأول، على خبرة به، ورأي ثابت عنه، وخطة بينة فيه، أدرت عليها عملي في درس البلاغة. وسواها... طفقت أتعرف معالم الدراسة الفنية الحديثة بعامة، والأدبي منها بخاصة، وأرجع الى كل ما يجدي في ذلك، من عمل الغربيين وكتبهم، واوازن بينه وبين صنيع اسلافنا، وأبناء عصرنا في هذا كله... وكانت نظرتي الى القديم ـ تلك النظرة غير اليائسة ـ دافعة الى التأمل الناقد فيه، والى العناية بتأريخ هذه البلاغة، أسأله عن خطوات سيرها، ومتحرجات طريقها، أستعين بذلك على تبين عقدها، وتفهم مشكلاتها، ومعرفة أوجه الحاجة الى الإصلاح فيها... وبذلك كانت الطريقة التأريخية، مع الأستفادة بالحديث: منهج درسي للبلاغة في الجامعة.. مضيت في هذا الدرس المتأني، أمس مسائل البلاغة مسا رفيقا جريئا معاً، أقابل فيه القديم بالجديد، فأنقد القديم وأنفي غثه، وأضم سمينه الى صالح جديد.. وتلك خطة لا تدوم في دراسة جامعية، اساسها التجدد، وحياتها في نماء متصل، لذا قاربت أن أفرغ من النظر في القديم، بعدما ضممت خياره الى الجديد، فألفت منها نسقا كاملا، يرجى أن يكون دستور البلاغة في درسها». فالخولي أستاذ للبلاغة قد وضع خطتاً لتطويرها، ورسم منهجا في تجديد معالمها، واستنّ طريقا لإغناء درسها.
وكانت الجامعة المصرية أول نشأتها، قد وجدت الحاجة في درس الأدب وتأريخه الى القول في القرآن، بما هو مادة لذلك التاريخ الأدبي، فجاء إذ ذاك أمين الخولي، وهو من شيوخ المدرسة القديمة فيما يرى في ختام حياته التعليمية، وغيّر في مناهجها ما غيّر، وجعل تفسير القرآن مادة دراسية فيها، وكان مفهوم التفسير عنده أو عند أمثاله لا يجاوز كثيرا تلك الكتب المتداولة فيه... وكلها يمكن أن يقال فيه: أنه لا يستطيع الوفاء ببيان ما في القرآن من قوة بلاغية ؛ وكانت الحياة الأدبية الجامعية خصبة، متجددة، متطلعة، مستشرقة، فاتبعت وراء ما استشرف إليه المفسرون من حسّ العربية وذوقها، وبلاغة هذا الأسلوب؛ ماهو وراء ذلك وأبعد، على أن يكون لهذا التطلع ضابط من طبيعة اللغة وحيويتها، فراحت الجامعة تحول التفسير درسا أدبيا محضا، ويستعين بكل ما بلغته وستبلغه الثقافة الإنسانية الفنية من دقة وتطلع(2).
وكان صاحب هذا المنهج الجديد هو أمين الخولي باعتباره مدرسا لتفسير القرآن، وواضعا لمفرداته العلمية، فاستعان على ذلك بما كتبه في القرآن، وكان «تاريخ القرآن» مجموعة محاضراته فيه ـ ولم ينشر ـ وكان «التفسير.. معالم حياته.. منهجه اليوم» من أروع البحوث في دائرة المعارف الإسلامية/ المجلد الخامس، وقد اشتمل عليه كتاب «مناهج تجديد» وكانت دراسته للقرآن العظيم بين هذا وذاك تشمل: حياة الألفاظ القرآنية، وتدرج دلالتها، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة، الواحدة، وكانت البلاغة القرآنية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال: اساس الدرس التفسيري مضافا إليها الغرض الديني والبعد العقائدي(3).
وكان بحثه الفريد «القرآن الكريم» في دائرة معارف الشعب المصرية في 1959 م مستوفيا لجملة من خصائص القرآن الأسلوبية في كل من المكي والمدني، وما يتميز به كل منهما بتمييز حال المخاطبين.
وكانت محاضراته في «أمثال القرآن» ـ وقد أملاها على طلاب الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة القاهرة ـ جوهرة ثمينة إجرى فيها تحقيقا لغويا لكلمة «المثل» وجمع الآيات التي تضمنت لفظ المثل، وقام بتصنيف بعض الأمثال وإرجاعها الى موضوعاتها مكتفيا بتمثيل الحياة الدنيا، والعمل الطيّب والخبيث، وصفات الله سبحانه وتعالى، وتمثيل المؤمنين والكفار واليهود والمنافقين، ومثل الجنة(4).
وكانت نتيجة هذا الجهد المتواصل للأستاذ أمين الخولي وأمثاله من الأساتذة ذوي الحمية على كتاب العربية الأكبر، أن أدخلوا «القرآن» في مختلف شؤونه الجمالية موضوعا بلاغيا وتفسيريا في الدراسات العليا بجامعة القاهرة، وفي كلية الأداب منها، وفي قسم اللغة العربية وآدابها بخاصة، فكتبت عشرات الرسائل بإشرافهم، وهي تتناول مجاز القرآن وبيان القرآن، واستعارة القرآن، وكناية القرآن، وإعجاز القرآن، وقصص القرآن، ومجموعة الصور الفنية في جمالياته بعامة إضافة الى التفسير وعلوم القرآن وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة المتطورة الحقة في ضوء القرآن الكريم، فكانت رسائل الماجستير والدكتوراه بداية عصر جديد في النهضة العلمية في الجامعات العربية، إذ اتخذت القرآن منهجا لاستنباط شتى مقومات البلاغة العربية.
لقد أفادت المكتبة القرآنية من هذا المنعطف الجديد بداية صالحة ـ على يد علماء متخصصين ـ لدراسات المحدثين في بلاغة القرآن.
وكان منهج الخولي يميل الى دراسة القرآن «موضوعا موضوعا، لا أن يفسر على ترتبيه في المصحف سورا، أو قطعا، وأن تجمع آياته الخاصة بالموضوع الواحد جمعا إحصائيا مستفيضا، ويعرف بترتيبها الزمني، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها، ثم ينظر فيما بعد لتفسّر وتفهم، فيكون ذلك التفسير أهدى الى المعنى، وأوثق في تجديده»(5).
وهذا يعني قيام «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم» وأن يعنى المتخصصون بدراسة شذرات ونجوم من القرآن كل بحسب تخصصه، فيجمع الباحث مادة موضوع من موضوعات القرآن، ويستقصيها إحصاءً لتكون هيكلا مترابطا يشكل وحدة موضوعية متكاملة، ثم يقوم بتفسيرها ودراستها بحسب منهجه العلمي.
وحينما عهد برئاسة قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب بجامعة القاهرة الى الأستاذ العلامة يوسف عبد القادر خليف في السبعينات، استجاب سيادته وأمثاله من الأساتذة الى هذا المنهج فوجهوا طلابهم هذا الوجه، فتخصص معظم البلاغيين العرب بجزء مهم من القرآن الكريم، فبحث إعجازه حينا، وقراءاته حينا آخر، وتشبيهاته تارة أخرى، وبلاغته وصوره الفنية تارة اخرى، وكان لي الشرف إن كنت أحدهم في هذا المضمار الكريم(6).
ان هذه الجهود التي أرسى أسسها أمين الخولي، قد وجدت آذانا واعية لدى الشباب المتحفز، فاتّسمت بحوث طائفة منهم بإشارات قيمة الى جملة من الصنوف البيانية في القرآن، واعتماد المنهج البلاغي في الكشف عن وجود الإعجاز القرآني، وكان ذلك متمثلا بالبحث حينا، وبالتطبيق حينا آخر.
وأما على سبيل الاستشهاد والتمثيل فلا أعلم بحثا قرآنيا يخلو من الأستناد الى مجازات القرآن وكناياته وتشبيهاته واستعاراته، إلا أن الذي يحز بالنفس إن لم أوفق على الوقوف على عمل مستقل بمجاز القرآن. نعم يمكن القول بأن جهود المحدثين في هذا المجال قد اتخذت طابعا ذا شعبتين في التوجه نحو بيان القرآن بعامة، ومجازه بخاصة: مجال التهيئة والدعوة الى خوض عباب القرآن، والكشف عن كنوزه وأسراره كما صنع الخولي، ومجال التأليف الجزئي في المجاز أو البيان ـ وصور القرآن الجمالية وسأقف عند هذين الجانبين بحدود ما لمسته حسيا، وتابعت أضواءه شخصيا، مما شكل انطباعا خاصا، قد يضاف غيره إليه ففي الجانب الأول، يبرز في الجامعات العراقية ـ مثلا ـ دور كل من:
1 ـ الدكتور أحمد عبد الستار الجواري، فما زلت أتذكر ـ قبل ربع قرن أو أكثر ـ ونحن طلاب في الدراسات الأولية الجامعية، أنه كان يأخذنا أخذا شديدا في مدارسة النحو في ضوء القرآن كاشفا عن بلاغته ووجوه إعجازه، ومطابقة عباراته من خلال نظم المعاني لمقتضى الحال، وربما ضاق بعضنا ذرعا من جديته هذه فيتذرع بالقول: إن الغاية من النحو صون اللسان عن الخطأ في المقال أو الكلام، فكان ـ رحمه الله ـ (7) يجيب: بأن هذا صحيح بالنسبة لعامة الطلاب، أما بالنسبة لكم فالغاية: خدمة القرآن العظيم.
وكان الجواري في هذا المنهج يصدر عن رأي استاذه الخولي، فما شوهد متحدثا إلا وآيات القرآن على شفتيه، ولا درّس إلا وشواهده من القرآن، وألف وهو معني بالنحو والقرآن معا: «نحو التيسير» «نحو القرآن» و «نحو الفعل» و «نحو المعاني» وفي كتبه شذرات قيمة من معاني القرآن وبيانه كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز العقلي واللغوي وإن كان النحو مضمارها.
2 ـ الدكتور جميل سعيد ـ عضو المجمع العلمي العراقي، وقد عني عناية خاصة بتدريس إعجاز القرآن وتصوير أبعاده الفنية والجمالية، وتمخض لهذا الجانب في الدراسات العربية العليا، وكان «دلائل الأعجاز» و «أسرار البلاغة» مضماره الأول في مظان التدريس، وهو بإزاء كشف البيان القرآني، وطالما كان يحث الكثيرين من تلامذة الدراسات العليا ـ وأنا منهم ـ على متابعة الاستنارة في القرآن، وعلى تحرير الرسائل الجامعية في ضوء هداه، وإبراز الوجهة الأدبية والبلاغية للبيان العربي من خلال معطياته البيانية الفريدة، وفضلا عن هذا المنهج فإن بحوثه العلمية غنية بالموروث القرآني العظيم.
وفي الجانب الثاني من هذا المجال يجب أن نشير بإعجاب الى ما حققه الدكتور مصطفى صادق الرافعي في كتاباته عن إعجاز القرآن، فقد كان من الرواد في بدايات النهضة الأدبية لهذا القرن في المقام، والى ما أنتجه بأصالة وعمق الدكتور بدوي أحمد طبانة في كتاباته البيانية المتشعبة، والى ما قدمه الدكتور مصطفى الصاوي الجويني في متابعاته البلاغية والتفسيرية والخدمات القرآنية، والى ما أبقاه السيد قطب في كل من «ظلال القرآن» و «مشاهد القيامة في القرآن» و «التصوير الفني في القرآن». والى ما أضافه الدكتور محمد عبد الله دراز في الشؤون الإعجازية والقرآنية، والى ما حققه الدكتور محمد المبارك في منهل الأدب الخالد، والى ما اكتشفه الأستاذ مالك بن نبي في «الظاهرة القرآنية»، والدكتور أحمد أحمد بدوي في كتابه «من بلاغة القرآن» والدكتور بكري الشيخ أمين في «التعبير الفني في القرآن».
فكل من هؤلاء قد أفرغ ما في كنانته من سهام مضيئة في التنوير العام بين يدي القرآن وأسلوبه البياني، وكان المجاز جزءا رصينا مما كتبوا، جزاهم الله خيرا عن كتابه المجيد.
وأقف عن كثب بمتابعة المجاز القرآني عند كل من:
1 ـ الدكتورة عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ» الأستاذة في كلية الآداب/ جامعة عين شمس في القاهرة.
اقتفت بنت الشاطئ آثار زوجها وأستاذها الراحل أمين الخولي من منهج التفسير الأدبي للنص القرآني، وكانت موفقة الى حد كبير يطمئن اليه، وسياق جليل في الاهتداء الى استجلاء ظواهر القرآن الأسلوبية وتحديد دلالته البلاغية في «التفسير البياني للقرآن الكريم» وكان المجاز الإسنادي والمجاز اللغوي حافلا به في رصد جديد، وبأسلوب جديد، فيه ملاحقة لنماذجه في طائفة من سور القرآن عملت على تفسيرها في جزئين اشتملا على تحقيق القول البياني في أربع عشرة سورة مكية حيث العناية بالأصول الكبرى للإسلام، وحرصت فيها أن تخلص لفهم النص القرآني فهما مستشفاً لروح العربية ومزاجها، مستأنسا في كل لفظ، بل في كل حركة ونبرة، بأسلوب القرآن نفسه، محتكمة اليه وحده عندما يشجر الخلاف، ويلتوي الطريق، وتتكاثف الظلال، على هدي التتبع الدقيق لمعجم ألفاظ القرآن، والتدبر الواعي لدلالة سياقه، والإصغاء المتأمل الى إيحاء التعبير في ذلك النمط الفذ من البيان المعجز... وقد قصدت بهذا الاتجاه الى توصيح الفرق بين الطريقة المعهودة في التفسير، وبين منهجها الحديث الذي يتناول النص القرآني في جوه الإعجازي، ويلتزم في دقة بالغة بقول السلف: «القرآن يفسر بعضه بعضا»(8).
تقول بنت الشاطئ: «فكنت كلما اجتليت باهر أسراره البيانية، ألفيت من الصعب أن أقدمه على النحو الذي يفي بجلالها، وتهيبت أن أؤدي بالمألوف من تعبيرنا، أسرارا من البيان المعجز تدق وتشف، حتى لتجل عن الوصف، وتبدو كلماتنا حيالها عاجزة صماء»(9).
وكان هذا التفسير ثمرة صالحة لجهود سابقة في جملة من قضايا البيان القرآني، توجتها بنت الشاطئ ببحوث لاحقة في الموضوع نفسه في جولات متعددة بين مشرق الإسلام ومغربه ضمن مؤتمرات علمية أشير الى بعضها:
أ ـ في مؤتمر المستشرقين الدولي في نيودلهي عام 1964 قدمت بحثا بعنوان: «مشكلة الترادف اللغوي في ضوء التفسير البياني للقرآن الكريم».
ب ـ في كلية الآداب بجامعة بغداد، في مارس 1965 قدمت بحثا بعنوان «من أسرار العربية في القرآن الكريم».
ج ـ في الكويت، في نوفمبر 1965 م حاضرت ببحث عن: «القرآن الكريم وحرية الإرادة».
د ـ في كلية الشريعة بجامعة بغداد عام 1965، قدمت تفسيرا منهجيا لسورة العصر.
هـ ـ في عام 1968 قدمت محاضرات في البيان القرآني في جامعتي الرباط وفاس بالمغرب، وجامعة الجزائر.
وكان كتابها «الإعجاز البياني للقرآن» موضع إعجاب الباحثين، وقد أعطت فيه مجالا رحبا لمجاز القرآن.
2 ـ الدكتور أحمد مطلوب استاذ في كلية الآداب / جامعة بغداد، هذا الشاب المتحفّز، الذي يعتبر من شيوخ الصناعة اليوم، فقد تعقب في كتبه البلاغية كل أصناف البلاغة القرآنية، حتى يكاد لا يستشهد في نظرياته التطبيقية وآرائه البيانية، وتقسيماته للبلاغة العربية إلا بآيات القرآن الكريم باعتباره نصا إلهيا مقدسا من وجه، وباعتباره كتاب العربية الأكبرمن وجه آخر. عرض للمجاز القرآني وأثبت وقوعه في القرآن وفي اللغة العربية على حد سواء «لأن أية لغة لا يمكن أن تبقى محصورة في ألفاظها الوضعية وأنه لا بد من انتقالها للدلالة على معان جديدة تتطلبها الحياة وتطورها. والمجاز كثير في اللغة العربية ويعد من مفاخرها، وهو دليل الفصاحة ورأس البلاغة. وفي القرآن الكريم كثير من هذا الفن وإن اختلف الباحثون في ذلك فرأى بعضهم أن كتاب الله كله حقيقة، وإذا كان معنى الحقيقة الصدق فذلك صحيح، أما إذا كان معنى المجاز العدول في اللفظ من معنى الى آخر، فليس الأمر كذلك لأنه جاء الكثير منه في كتاب الله... وعليه معظم البلاغيين»(10).
بحث الدكتور أحمد مطلوب المجاز في القرآن وفي العربية في أغلب كتبه القيمة، فاشتملت عليه «مصطلحات بلاغية» و «البلاغة عند السكاكي» و «القزويني وشروح التلخيص» ووقف عنده موقف الناقد البصير والعارض المنصف في «فنون بلاغية» وأعطى لتقسيماته الفنية بعدا إحصائيا مبتكرا على أساس معجمي حديث في «معجم المصطلحات البلاغية وتطورها»، وكرس جهدا قيما للموضوع في «مناهج بلاغية».
أخذ الله بيده لإكمال مسيرته البلاغية في ضوء القرآن الكريم. وهكذا نجد في دراسات المحدثين لقطات نادرة من أمثال المجاز القرآني، يستقطب بعضها البحث المشرق، ويسترشد بعضها الآخر الاستشهاد.
السائر، ويستخلص منها آخرون قواعد البلاغة وأسس البيان فتعرض على القرآن وتخضع له، ومع كل هذه الجهود المتناثرة فلم أقف على عمل خاص، وجهد قائم بذاته في مصنف منفرد في مجاز القرآن ـ كما أسلفنا ـ فجاء هذا البحث ـ بعون الله تعالى ـ متمحضا لهذا الغرض، ومتخصصا فيه.
وقد زعم الدكتور أحمد بدوي: «إن كثيرا ممن تعرضوا لدراسة المجاز في القرآن الكريم، قد مضوا يلتمسون أمثلته، يبوّبونه ويذكرون أقساما كثيرة له، حتى بلغوا من ذلك حد التفاهة، ومخالفة الذوق اللغوي»(11).
وهذا الزعم منحصر في جملة من النماذج التي لا تنهض دليلا قاطعا على صحة الرأي؛ إذ يعارضه: أن ما كتب في مجاز القرآن بمعناه الاصطلاحي لا يتجاوز الدراسات الأنموذجية القائمة على سبيل المثال لا الحصر والاستقصاء، والمثال قد يتكلف به، وقد يأتي طيعا متساوقا، وإذا كان الامر كذلك، فأختيار بعض البلاغيين للنماذج المقحمة لا يشكل حكما عاما بهذه السهولة. وكما لا نوافق على هذا الزعم، فكذلك لا نميل أيضا الى ما ذهب اليه الأستاذ عباس محمود العقاد من أن المجاز قد انتقل في اللغة العربية من الكتابة الهيروغليفية الى الكتابة بالحروف الأبجدية(12).
فلا دليل على هذا من أثر أو تاريخ، ولا وضوح في هذا الملحظ، وهو شبيه بادّعاء الأثر الإغريقي واليوناني في البلاغة العربية، فكلاهما لا يصدر عن نص موثوق، أو دليل قاطع، بل هي تكهنات لا تنهض مقياسا على صحة دعوى وأصالة رأي.
فالمجاز وإن استعمل في اللغات العالمية الحية ولكنه يدور معها في حدود معينة، وهو بخلاف هذا في لغة القرآن، إذ الاستعمال المجازي فيها أساسي وليس أمرا عارضا، لأنه أحد شقي الكلام وطرفيه، وهما الحقيقة والمجاز.
والمجاز، ولما كان القرآن الكريم جاريا على سنن العرب كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام.
وها هي مسيرة المجاز القرآن لا تقف عند حدّ، ولا يستوعبها أحد، فهي تشق طريقها في عباب اللغة تارة، وترسخ أصالتها في صنوف البيان تارة أخرى، تلتقط من هذا وذاك جواهره ولآليه، تغذي العقول، وتربّ الأفئدة، خاشعة لها الأبصار ؛ بدرا يدور به فلك من المعارف لا تنتهي فرائده، وسراجا تهتدي به العربية في ليل سراها الطويل، ولعل في هذا الكتاب ألقا من ذلك السّنا، ووهجا من تلك الأضواء، يصور جزئيات منتظمة، ويعكس نظريات قد تتبلور، والله المستعان.
الهوامش
ــــــ
(*) المصدر: مَجازُ القُرآنِخصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة.
(**) اُستاذ الدّراسات القرآنية في جامعة الكوفة.
(1) أمين الخولي، فن القول: 8 وما بعدها.
(2) ظ: كامل سعفان في كتابه: أمين الخولي، 113 وما بعدها وانظر مصادره.
(3) ظ: أمين الخولي، مناهج تجديد: 293.
(4) ظ: المؤلف: الصور الفنية في المثل القرآني، 406، محمد جابر الفياض، الأمثال في القرآن الكريم، المقدمة: 10.
(5) ظ: أمين الخولي، دائرة المعارف الإسلامية، مادة: تفسيره: 368.
(6) كتب المؤلف رسالته للدكتوراه «الصور الفنية في المثل القرآني: دراسة نقدية وبلاغية» بإشراف الأستاذ الدكتور يوسف عبد القادر خليف في قسم اللغة العربية وأدبها في كلية الآداب بجامعة القاهرة.
(7) توفي الدكتور الجواري فجأة عند باب داره ظهر الجمعة: 22 /1 / 1988 م وهو في طريقه لأداء الصلاة، عن عمر يناهز خمسة وستين عاما.
(8) ظ: بنت الشاطئ، التفسير البياني للقرآن الكريم: 1/18.
(9) المصدر نفسه: 2/7.
(10) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 84 ـ 86.
(11) أحمد أحمد بدوي، من بلاغة القرآن: 224.
(12) ظ: عباس محمود العقاد، اللغة الشاعرة: 26.