كم من كتاب يقرؤه الملايين من القراء اليوم دون أن يدركوا أن كتابها أدينوا بسببها في حياتهم أو حتى بعد موتهم. التاريخ الإنساني منذ سقراط والحلاج وعمادالدين نسيمي وجنيد يراقب عن كثب أولئك الذين ضحوا بحياتهم في سبيل أفكارهم، أو الذين دخلوا قفص الاتهام وقضوا سنوات من حياتهم في سبيل كتاباتهم، وما أكثرهم في تاريخنا المعاصر.
اليوم حينما تعرض في مختلف مكتبات العالم ديوان بودلير (أزهار الشر) بأرقى الطبعات إلى القراء، لا يدرك معظمهم أن شاعرهم المفضل عاش الجحيم خلال حياته القصيرة العليلة. لم يحظ خلالها إلا بانتقادات لشعره تصل إلى درجة الشتيمة والاستهانة به. حيث كانوا يشبهون شعره بكومة من القاذورات والفضلات. كما لم يستطع في حياته القصيرة من التحرر من ضغوط دائينه. ماعدا واحدة كانت تركن إليها روحه القلقة، المتعبة، هي جين دوفال الذي كان بودلير يقول عنها:
ـ إنها تضمد الجراح التي في عقلي.
بودلير وأزهار الشر :
هو الشاعر الرجيم أما أزهار الشر فهو من أعظم دوايين الشعر التي ظهرت على مر العصور . صدر هذا الديوان عام 1855م .يقول هنري لوميتير في مقدمته للديوان :
'إن التمزق الذي عانى منه بودلير بين الرغبات الحسية التي عذبته طوال حياته وبين الإيمان الروحى سمة عصره المسيحى الكاثوليكي لتفشي سر هذه الأفكار التي سيطرت على روحه والتي تضمنتها قصائده والواضحةفي كل لغة وصور ورموز شعره '.
فالشعر عند بودلير لهو تلك الجنات المختلفة بل ربما كان مفتاح جنة حقيقية حتى لو اضطر لاختراق جهنم في طريقه إليها .
بودلير الذي يُعد من ضمن الشعراء الرومانسيين لا يكتفي مثلهم بالإعتراف خلال شعره بل يؤمن بالنبوغ الشعري الذي يستدعي ادخال الروح داخل الشعر .
ولكي نتعرف على وظيفة الشعر لدى بودلير نتوقف عند قوله ' أنه قدر عظيم , وقدر الشاعر ألا يلاحظ فحسب بل يصحح كذلك ...أن يتجول في كل مكان رافضاً للظلم '.
لذلك كان شعر بودلير هو شعر الفقراء والمحرومين البائسين والمنهزمين وكما يذكر هو في قصيدة له :
' أفكرُ في الزنجية الهزيلة المسلولة
أفكرُ في كل مَن فقد ما لا يُستعاد
أفكرُ في اليتامى الضعاف الذابلين كالزهور
في البحارة المنسيين في جزيرة
في الأسرى في المنهزمين والأخرين '.
إن فكر بودلير لمتسع وعميق إتساع الحياة نفسها , وبالتالي فمحور الشعر عنده هو ذلك التضاد بين الخير القليل والشر السائد
بين الجمال النادر وبين القبح الشائع ..هو تلك الحيرة بين الحب والخطيئة ..بين المتعة والألم ..بين واقع الأرض وجنات السماء ..
من أشهر قصائد ازهار الشر قصيدة الميت المبتهج حيث يقول :
في أرض شحمة مليئة بالقواقع
أبغى أن أحفر بنفسي لحداً عميقاً
حيث يمكنني عندما أشاء
أن أضع عظامي الهرمة
وأنام في النسيان كالقرش في الموج
أكره الوصايا ....أكره القبور
بدلاً من استجداء دمعة من هذا العالم
وأنا حي ..أُفضل أن أدعو الغربان
لتدمي كل أطراف هيكلي النجس
أيتها الديدان يا رفاقاً سود بلا أذن ٌ ولا عيون
أنظرن شاهدن يُقدم إليكم ميت حر سعيد
أيتها الفيلسوفات الماجنات , يا بنات العفونة
عبر خرابي توغلن بلا تأنيب ضمير
وقلن لي أهناك عذاب آخر ينتظر هذا الجسد الهرم
فاقد الروح , ميت بين موتى .
من هنا من تلك القصيدة التي تعتبر نموذجاً لفكر بودلير سواء من حيث الشكل أو المضمون , فالموت أو الامل في الموت الذي ينهي عناء الإنسان في حياته هو أحد اهتمامات الشاعر الأساسية .
كان بودلير في حياته اليومية، يبدو وكأنه يرى نفسه والعالم الذي حوله في مرآة مقعرة. حتى طفولته كانت تعيسة مليئة بالعقد، خالية من بصمات الفرح والانطلاق. لذلك بدا غير مهتم بأي شيء، ولا يعرف إلى الجدية في حياته سبيلا. فعاش مفضلا التشرد على كل شيء. فلم يكن في وعيه ما يمكن تسميته بالمسؤولية. فقد كان همه هو أن يعيش، يعيش كل شيء، الحياة من أجل الحياة. كما لم يكن يعرف قيمة النقود. لذلك كان يبذر فورا كل ما تصل إلى يده من النقود. وكان يهبها خاصة للنساء اللاتي ظللن يستغلنه حتى أواخر حياته.
هناك سمات تميز شعر بودلير هو اسلوبه المميز في إدراك حقيقة الأمور وتلك الصور الغريبة والتعبيرات الشاذة وايضا وقاحته في اختيار الكلمة والتشبيه فمن يمكنه نظم تلك الأبيات :
'ساكون نعشك أيتها الرائحة النتنة المحببة '
وكذلك :
' قولي يا حبيبتي للدود الذي سيأكلك بقبلاته ' .
ويقول بودلير أيضا :
' أيتها الممسوخة العجيبة التي تسيطر على أحاسيسي
أنفاسها تخلق موسيقى كما ينفخ صوتها عطراً '
ويقول أيضاً :
' في أكفان السحب اكتشف جثة غالية
وعلى الشواطيء السماوية أشيدُ توابيتاً حجرية '.
وماذا عن بودلير الإنسان ؟
قال عن نفسه فى أحد خطاباته عام 1814م :
' أنا إنسان مريض شنيع الطباع , والذنب هنا هو ذنب أبواي .., من جراهما يسري البلى في نسجي وتنحل عراي , وترث قواي ,ذلك مَن يُولد من أم في السابعة والعشرين وأب طاعن في الثانية والستين فتامل يا صاح خمسة وثلاثون عاماً بين الأثنين , تقول انك تدرس علم البنية والطبائع , الا فسل نفسك عما ترى في الثمرة الناتجة عن قران كهذا القران ؟ ! '.
العقدة التي كان يعاني منها بودلير هي، لهفته إلى حنان الأم، وهو الحنان الذي بحث عنه في جميع النساء التي تعرف عليهن. وقد بلغت معاناته ذروتها بعد زواج أمه للمرة ثانية من عسكري قاس، حاد الطباع. وبسبب الحفلات والولائم المستمرة في بيتها، نسيت ابنها بودلير وأهملته. ولم يكن بودلير في نظر زوج أمه إلا بائس شاذ.
رجعت أمه إليه فيما بعد، لكنها كانت عودة متأخرة لأنه كان على فراش الموت. فلم يجد منها إلا ذبالة شاحبة من الحنان الذي افتقده، وهو موشك أن يودع حياته القصيرة، والتي فارقها وهو مشلول يحدق بعينين جامدتين في السقف. وذلك في ۳۱ آب/أغسطس من عام ۱٨٦۷. مهمهما ً بكلماتٍ غير مفهومة :
ـ الألوان تشحب، يداي ترتجفان، أريد النوم. .
لذلك لا عجب عندما نقرأ له في قصيدته ' نبع الدماء ' :
يُخيل ُ إليي َ أحيانا ً أن دمي ينفجر
كأن ينبوعاً يتدفق بنشيج ٍ موقع
إنني أحس ُ تماماً وهو يتدفق ُ بخرير طويل
ولكنني أحاول عبثاً أن أهتدي لمكان الجرح
يقول الشاعر الكبير آرثر ريمبو :
'إن بودلير لهو أمير الشعراء ..إنه إله حقيقي للشعر '.
المراجع :
1- دراسات في الآداب الأجنبية ..د/ عيسى الناعوري
2- الشاعر الرجيم بودلير / ..الأستاذ عبد الرحمن صدقي
3- مجلة الشعر /...عدد 22
4- أزهار الشر ./..شارل بودلير