شاعر يتأبط نفسه وظلّه وحياته، ويستبطن مفردات ما مرّ فيها وعليها، وحين يبدأ بتدوين يومياته تنبثق موسيقى تلك الحياة وتنويعاتها وتحولاتها، فنجد القصيدة الموزونة( قصيدة التفعيلة)، والنص النثري أو قصيدة النثر ‘‘والشعر المنثور‘‘ وهذا التنوع الموسيقي الثر ما هو إلا الأثر الذي يتركه التشكيل الصوتي ‘‘التنغيم‘‘ للتراكيب التي يستخدم فيها درجات متفاوتة في موسيقى الكلام – سنــعـود إلى التفصيل في ذلك لاحقاً – ‘‘والــكــلمات التي تخضع للدوافع المحركة لها فهي شفافة أو معتمة، ويتم ذلك على مستويات صوتية وصرفية ودلالية ولكل منها نتائج أسلوبية بارزة‘‘ ((1الدلالة الصوتية في الدراسات الحديثة د. عبد الحميد الهنداوي في مقدمة كتاب الخصائص)) تكون الموسيقى فيها هي الجزء البنائي الأبرز في تحديد قاع الانفعال وكيفية انتشاره في عروق النص،
موسيقى الحزن الشفاف:
فقصيدة البنت / الصرخة الموزونة وإيقاعها ( تفعيلة المتقارب الثلاثية فعولن) والتي استهلّ فيها يومياته، هي قصيدة من حيث أنها موزونة، وهي شعر من حيث امتلائها بموسيقى المشهد – وهو من حرب تموز الأخيرة على لبنان- والمتكونة من الدوال والمدلولات المفضية إلى الدلالات التي توحي بها البنية النصية للكلمة من حيث ‘‘كونها أصواتا لا من حيث كونها موادا معجمية لها دلالتها الوضعية المحددة، ومن حيث كونها محاكاة غير مباشرة تثير تجربة غير صوتية وتدخل – بما تستثيره– في النسيج الشعري للقصيدة‘‘((2 المصدر نفسه ص32)) وحيث أن غزة حاضرة دائما في مرمى البصر اليومي تبدأ موسيقى حزينة جنائزية تنبثق من قلب سرد بطيء لمشهد مغرق في وصفه الواقعي: الرث الفقير، فالبحر واحد ، والضحايا متشابهون، والبنت التي نجت‘‘قليلاً‘‘ من الموت لأن‘‘ يدا ما إلهية أسعفتها‘‘ تنادي: يا أبي! قم لنرجع ‘‘فالبحر ليس لأمثالنا‘‘ / لم يجبها أبوها المسجّى على ظلّه / في مهب الغياب / دم في النخيل، دم في السحاب /
وفي عود على بدء، كما مشهد الحرب المتكرر، وكما الخبر العاجل الذي لم يعد خبراً عاجلا حين عادت البارجة ‘‘لتقصف بيتا بنافذتين وباب‘‘ تقفل القصيدة
لقد اختفى حزن محمود درويش القديم، الحزن الثوري – إن صحّ القول – واختفت معه لغته بتعبيراتها الرثائية ومشاهدها القيامية وحبكتها الدرامية، وذراها البطولية وتلاشت معها موسيقاها الأوركسترالية الفخمة، وحلّت محلّها لغة تطابق مقتضى الحال لمشهد / لقطة يصورها بإيجاز بليغ تصطحب موسيقاها التي هي لاشيء آخر سوى موسيقى الكلام: التنويع في عدد التفعيلات المستخدمة في السطر الشعري، الإحساس بالدرجات الانفعالية للصوت اللغوي: فنادت: أبي / يا أبي! / نلاحظ أن المنادى الأول بدون أداة لجهلها بموته، لكنه حين ادخل الأداة على المنادى الثاني تحول إلى صرخة تفجع بإدراك الموت الذي حل بأبيها، تشكيل أصوات الكلمات على نحو يتناسب مع تجربته الوجدانية الآنية: فاصطفاف المفردات: بنت، أهل، بيت، بحروفها المجهورة المقذوفة إلى الخارج تمتلئ بأنفاس الحياة ثم البيت الذي نسمع أنفاسه تتردد مع التركيب غير المجازي والمعطوف على الأهل يجعل موجة شعور تسري فينا بأنه يمتلك خصائص حياته: للبيت نافذتان وباب، ثم تنطفئ حياة الجميع فالبيت مات أيضا حين لم يعد له نافذتين وباب إذ تسلّت البارجة بقصفه أسوة بصيد المشاة على الشاطئ، ثم بتنويع الأسلوب الصوتي: الأسلوب الخبري السردي التقريري طغى على النص، بجمل كانت إسمية في معظمها، أما الأفعال التي وردت فلها صفات حركية يسقطون، يطير، نادت، تخلل الأسلوب الخبري النداء ، والمجاز ، أما البلاغة فقد أتت من تلقائها وتحصيل حاصل لكل ما سلف وتجسيدا للمضمون البشري وما حُمّل من انفعالات كما في: ‘‘ تصير هي الصرخة الأبدية في خبر عاجل لم يعد خبرا عاجلا‘‘ وايضا‘‘ دم في النخيل دم في السحاب‘‘
تلك كانت موسيقى الحزن الشفاف، والشفاف‘‘لغة‘‘ هو: ما لا يحجب ما وراءه، وفيزيائيا: هو الجسم الذي يسمح بمرور الضوء من دون أي تشويه، بعبارة أخرى يسمح برؤية الأشياء كما هي في واقعها، وهكذا كانت قصيدة البنت / الصرخة، تحتفي بين تلافيفها بتفاصيل ‘‘دنيوية‘‘ شديدة البساطة شديدة الامتلاء بالحياة، وشديدة الحزن لاختطاف الحياة منها : بنت تتمشى على شاطئ البحر، للبنت أهل، وللأهل بيت، وللبيت نافذتان.. وباب
موسيقى الحب:
لا يعنيني التساؤل – لا من بعيد و لا من قريب – حول جنس النصوص: حوض خزامى، أكثر وأقل، أغبط كل ما حولك، ما إذا كانت ‘‘قصائد نثرية‘‘، أم‘‘شعرا منثورا‘‘ أم ‘‘نثرا شعريا‘‘ لأنني بصدد قراءة موسيقية - كما أسلفت – سأتتبع سيلانها في ‘‘حوض خزامى‘‘ وأترك الإجابة عن التساؤلات السابقة للنقاد الأكاديميين
جدل رائع يقوم بين حواسّ الشاعر الممتلئة شهوة للاقتراب من رائحة خزامى / الاستعارة الطويلة ل‘‘أنثى‘‘ تجلس ‘‘قبالة مطالعه‘‘ تبدو ضنينة على أن لا تطير ذرة منها إليه خوف الاكتفاء.. فتتكتم عليها وتلتف بها أكثر فأكثر.. يحك / الرجل / الشاعر أصابعه بأصابعه ل‘‘يسقط‘‘ فنجان قهوته في ذريعة مكشوفة – خفيفة الظل طفولية بل وصبيانية / سينيمائية إلى حد بعيد – للاقتراب وللإمساك ليس بما تجلّى منها فحسب – حيث لم يعد كافيا – بل وأيضا بما خفي منها، وها حواسه الفاقدة لصبرها ‘‘تشرئب‘‘ إلى ما يمكن أن تمنحه من عناصر مفاجئة، يحسم أمره ويقبل على مغامرته ويدبر عن خوفه: يمد يديه إلى حوض الخزامى يفركها يحضنها يشمها ويضمها، ولا تقول شيئا، لأن الخزامى - في الواقع - لا تعطي رائحتها إلا لمن يفعل
الصوت هو مفتاح التأثيرات، بالإضافة إلى أنه نبع المعاني ، والدلالة الصوتية تأتي متساوقة مع الدلالة الصرفية والمعجمية والنحوية كما سبق القول، فإذا وضعت الكلمة / المفردة في سياقها ومقامها أنتجت دلالتها الشعرية وليست هنالك دلالة ثابتة للصوت كما يؤكد ‘‘ريتشاردز‘‘ وكل والنقاد المحدثين حيث يرون‘‘ أن الصوت والوزن يجب أن يدرسا كعنصرين في مجمل العمل الفني وليس بمعزل عن المعنى‘‘((3 مقدمة عبد الحميد هنداوي في الكشف عن الدلالات الفنية للأصوات)) فإذا درسنا جماليات النظام اللغوي في هذا النص صوتيا وصرفيا ونحويا نجد:
أولا – البناء الصوتي للكلمة وتشكيلاتها النغمية: الابتداء بالمصدرين: محتشمة ، متكتمة وبما تكرّر فيهما من صوامت: الميم الشفوية أربع مرات، التاء اللثوية قريبة المخرج أيضا خمس مرات، تتوسط الشين المتفشية الاحتكاكية الكلمة الأولى تسبقها الحاء الحلقية المهموسة، وتتوسط الكاف الحلقية الانفجارية الكلمة الثانية، سترجأ مفاجأة معاني الانغلاق على مافيهما حتى نهاية النص
ثانيا – العلاقة المتبادلة بين التشكيل الصوتي والمحتوى الشعري والتي تتحدد بدرجة الانزياح عن المعنى المعجمي المحدد عبر السياق لأن السياق وحده هو الذي يحدد الدلالة الشعرية، وقد تحققت هنا بإضافة المصدرين إلى شبه الجملتين: على طيبك، كحوض خزامى
ثالثا – كسر التوقع وذلك بتأخير الخبر بفاصل طويل( شبه جملتين) ثم مجيئه جملة فعلية مضارعة وصفية(تجلسين قبالة مطالعي)، أرأيت لو أنه اختار مفردة ‘‘أمامي‘‘ بدلا من التركيب ‘‘قبالة مطالعي‘‘ كم كنّا فقدنا من موسيقى الشعر فضلا عن موسيقى المعنى
رابعا – المواءمة بين موسيقى الكلمة ومعناها، وبين موسيقى التراكيب وسياقها: ‘‘أصابعي تحك أصابعي ، فيسقط فنجان قهوتي – ذريعتي وخديعتي ، لتقرّبي طيبك مني وألمه مع شظايا الهال ... فلا يصل‘‘ ما من موسيقى منبثقة عن علاقة مجازية في القسم الأول من السياق، بل نجد علاقة موسيقية خلقها الجناس الذي لم يأت لوظيفة تزيينية، بل لوظيفة إيقاعية لملمت بعثرة المشهد بصريا وأعانت سيولة التراكيب في الوصف وضبطت القفلة التي أتت ساكنة لتنهي الفوضى الخارجية والداخلية وتقف على نتيجة: ‘‘فلا يصل‘‘
أما الاستعارة السحرية للملمة الطيب مع شظايا الهال فهي تستحضر مشهدا بصريا: فنجان القهوة المكسور واثنان، رجل وامرأة ينحنيان على الأرض ليلما شظاياه، يقتربان من بعضهما بحكم الخديعة وشيء ثالث غير مرئي يطوف بينهما ولا سبيل إلى لملمته مع شظايا الهال.. ‘‘فلا يصل‘‘، هذا النظام الموسيقي الجديد الذي كسر اعتياد الذائقة على الأذن عبر ‘‘الإنشاد والسماع‘‘ لينتقل بها إلى عتبة جديدة عبر التقاط البصر لجمال تلك المفردات في إهابها، ‘‘ورنينها في الوجدان‘‘ 4 ‘‘ صبحي حديدي حداثة الأخوانيات‘‘ وانبثاق الشعر الصافي / الحدسي الطفولي من دون أدنى عناء، أما بؤرة الانفعال فهي ذلك التضاد / التقابل مابين الاحتشام والتكتم وما ينطويان عليه من إشعاع المناداة الخفية التي استدعت ‘‘خديعة‘‘ للاقتراب، ثم تأجيلا ، ثم تحررا، ثم التحاما بعد تذكر لطبيعة تلك الزهرة التي‘‘تؤخذ رائحتها باليدين
حوض خزامى نقلة نوعية في موسيقى الحب
يلزمنا الكثير من الدراسات، الغنية بالمعارف الأكاديمية، ويلزمنا نقد جدي يتناول جديد هذا الكتاب ، جديد هذا المشروع ، يلزمنا موسيقيين يستنبطون منه أنواعا جديدة من الموسيقى:
موسيقى الصورة
موسيقى التأمل
موسيقى الفكرة
موسيقى جريان الزمان
موسيقى الترحل
موسيقى المدن
موسيقى السخرية
موسيقى خفة الظل ورشاقة الروح
موسيقى المأساة
موسيقى حياة عادية
موسيقى الصمت
موسيقى الروائح
موسيقى الفصول
موسيقى اليأس
موسيقى الحياء من ‘‘ الجرأة في وصف إباحيّ لحالة حب‘‘
موسيقى الفلسفة العابرة بين تأمل وتأمل لجعل ‘‘الفكرة‘‘الصعبة الشقية الهاربة من أتون الجحيم وخراب العالم وحالة الحصار، قابلة للقبض وللسيطرة عليها قبل أن تقضي على ذبالة ‘‘ الأمل‘‘ الموقودة بإصرار المفلس الواهب لتلك الذبالة ما تبقّى له من أنفاس
موسيقى الرضا بالانتقال من رؤى الأنبياء إلى السكنى في قلب بشري