اللسانيات الحديثة وقراءة النص الديني
في حوار مع اللغوي واللساني المغربي
د. محمد الأوراغي
إذا قورنت اللسانيات الحديثة باللغويات العربية القديمة التي قامت أصلا على معالجة النص الديني، سنجد أن هذه اللسانيات مازالت في طور النضج ولم تصل بعد إلى التفكير اللغوي العربي القديم، لا في ما يخص المقاربة الدقيقة للنص ولا في ما يخص النضج في التصور. في هذا الحوار الذي جمعنا باللساني واللغوي المغربي د. محمد الأوراغي سعينا إلى معرفة مدى إمكانية اعتماد بعض المعارف الجديدة- كاللسانيات- في سبيل فهم وقراءة النص بشكل عام والنص الديني بشكل خاص والقرآني بشكل أخص، وما إن كانت هناك مشاكل منهجية ومعرفية تعترض سبيل هذا النوع من القراءات
انطلاقا من تجربتكم الثرية في حقل اللغة وميدان اللسانيات، هل هناك إمكانية لتوظيف هذا الضرب من المعارف في مقاربة سليمة للنص القرآني بشكل خاص، والنص الديني بشكل عام، وأي نص بشكل أعم؟
اللسانيات الحديثة في آخر نماذجها توقفت -الآن- بصفة نهائية.. كالنحو التوليدي التحويلي، أو النحو الوظيفي، وهو فرع عن النحو التوليدي التحويلي؛ حيث لا يزال يعاني من مشاكل لسانية داخلية منهجية، ومشاكل في التصور؛ وبكلمة، إن النظرية لم تكتمل، وكل نظرية لم تكتمل ولم تصل إلى الصيغة المقبولة، لا يمكن استعمالها خارج اللسانيات، لتوظيفها مثلا في تحليل النص الأدبي أو الديني أو القانوني.. أوفي حقول علمية مختلفة؛ إذ لم تصل بعد إلى هذا النضج. ولذلك إذا قورنت اللسانيات الحديثة، على سبيل المثال، باللغويات العربية القديمة التي قامت أصلا على معالجة النص القرآني والنص الديني، ستجد أنها- اللسانيات الحديثة- مازالت في طور النضج وأنها لم تصل بعد إلى التفكير اللغوي العربي القديم، لا في ما يخص المقاربة الدقيقة للنص ولا في ما يخص النضج في التصور؛ فمثلا يتحدث الآن عن نظرية " التناص"، وواضعها أصلا هو الزمخشري، حيث كان من ممارسي لفكرة التناص في تحديد معاني الآيات.. بينما مازالت فكرة في كثير من النظريات اللسانية لم تكتمل بعد.
في هذا الصدد ما الذي يجعل الكثير من المشتغلين في الحقل اللساني أو الحقول المعرفية المختلفة، في عالمنا العربي، يصرون على نقل ما وصلت إليه اللسانيات الغربية في تعاملها مع النصوص المختلفة، وتطبيقها على نصوصنا المرجعية؛ سواء كانت نصوصا دينية أو تراثية أو أدبية أو غير ذلك؟
المشكل في العالم العربي المعاصر هو البحث عن الأفكار الغربية، وإن كانت مازالت في طور الولادة من أجل نقلها وتطبيقها، علما أن هذه الأفكار ناضجة في الفكر اللغوي العربي القديم.. خذ على سبيل المثال نظرية العامل (ما هي العوامل التي تعمل الحركات الإعرابية وتعمل الأحوال وتعمل الوظائف النحوية في جملة)؛ ففي جميع كليات المغرب يتحدث عن نظرية العامل كما طبقها شومسكي.. وشومسكي صنع نظرية العامل في الثمانينات، وهي النقل الأمين لنظرية العامل عند سيبويه.. إذن فبدل أن نتحدث عن نظرية العامل عند سيبويه تركناها وأخذناها عن شومسكي الذي أخذها عن سيبويه ونشرها، وبدأ اللغويون العرب المعاصرون ينشرون العاملية (عاملية شومسكي) وهي نفسها عاملية سيبويه. هناك تهافت غير مبرر على ما لدى المعاصرين، وأنهم هم الذين يصنعون الحقيقة وإن أخذت من مؤلفاتنا! إذن، الدراسات الأدبية في العالم العربي تستعجل كثيرا؛ لأنها تبحث عن الجديد.. وهذا الجديد هو الإتيان ببعض المفاهيم، وأحيانا لا يعرفون أن هذه المفاهيم هي في حد ذاتها غير كاملة وغير ناضجة، وأنها فقط كلام جديد نقوله في ميدان الأدب أو في ميادين أخرى.
يفهم من هذا الكلام أنه لا مناص من الاستفادة من اللسانيات الحديثة للتعامل مع النص بصفة عامة، ويستبطن هذا الكلام اعتقادا بأن فكرنا اللغوي القديم قادر على صياغة تعامل سليم مع نصوصنا المرجعية.
بالنسبة للتطبيقات اللسانية لدراسة أي نص، فلا أعتقد أنه يمكن أن نجد أكثر مما كتبه الجرجاني في نظرية النظم والقاضي عبد الجبار في " إعجاز القرآن" والسكاكي وفخر الدين الرازي والرماني وسيبويه.. لا أعتقد أنه يمكننا أن نجد شيئا أفضل مما كتبه القدامى في هذا الباب، في تناولهم للنص القرآني والنص الديني بصفة
عامة والنص الأدبي والنص المكتوب بالعربية، لا يمكن على الإطلاق؛ إذ أن المستوى الذي وصل إليه البحث اللغوي في الغرب لا يزال في بدايته بالقياس إلى ما كتبه القدامى..
صحيح أن القدامى لم ينظموا تفكيرهم في نظريات، وكان تفكيرهم عبارة عن آراء مشتتة ولا يجمعها جامع.. وصحيح أن الغربيين تفوقوا علينا في تنظيم الفكر اللغوي في نظريات معينة؛ ولكن هذه النظريات باعتبار المستوى الذي وصلت إليه وباعتبار المنطلقات التي ينطلق منها في تأسيس هذه النظريات، وهي كلها منطلقات خاصة باللغات الهندو- أوروبية، ثم بعد ذلك عمموها على باقي اللغات.. هذه النظريات اللسانيات المعاصرة، في المستوى الحالي، لا يمكن أن تكون مفتاحا لدراسة النص القرآني.
قرأنا في الآونة الأخيرة، دعوة بعض الباحثين إلى تطبيق المنهج البنيوي على نصوصنا.. ما هي المشاكل المعرفية والمنهجية التي تعترض سبيل مثل هذه الاتجاهات؟
لا يمكن أن نطبق البنيوية إلا في إطار نموذج معين؛ لأن البنيوية سارية في جميع النماذج النحوية والنظريات اللسانية.. ثم البنيوية اتجاه صوري لا يعتمد على الدلالة والمضمون.. والبنيوية لا تظهر في الثنائيات، أي أن الشيء الواحد ليست له قيمة في حد ذاته وإنما يكتسب قيمته بالقياس فيما يدخل معه في علاقة؛ بمعنى آخر، لا تحدد عنصرا معينا بالقياس إلى ذاته، وإنما حدد قيمه بالقياس إلى القيم التي يأخذها معالقه، فهذه هي الفكرة الأساسية التي أتى بها سوسر فيما يخص البنيوية.. ويقدمون المثال المشهور لتوضيح البنيوية، وهو الضوء الأحمر المنظم للسير؛ حيث ليست له قيمة الوقوف، أي أنك إذا رأيت الضوء الأحمر يجب أن تقف ليس لأنه أحمر، بل لأن مقابله أخضر.. فقيمة الوقوف المسندة إلى الضوء الأحمر أخذها من قيمة المرور المستندة إلى الضوء الأخضر؛ فقيم العناصر المركبة لا تكتسب إلا باعتبار المراكبات.
أقاطعه: لماذا لا نخضع النص للمنهج البنيوي من خلال لحاظ العلاقة الكامنة بين أجزائه المختلفة؟
هذا النمط من المناهج لا يمكن أن تنقله إلى النص، وأقصى ما يمكن أن يصلوا إليه في الدراسات الأدبية هو تحديد عدد الكلمات التي تتكرر ومقابلاته.. لكن هل هذا يعطي فكرة واضحة عن محتوى النص؛ لأن القدامى عندما كانوا يوظفون اللغة لتحليل النص كان الهدف هو أن يصلوا إلى ضبط درجة الإبداع في النص، أي كيف تم من خ
لال الصياغة اللغوية الوصول إلى تحديد الصورة الفنية.. هذا لا يمكن أن يكون من خلال البنيوية، وإنما من خلال القيم الائتلافية بين مكونات العبارة.. وهذه هي نظرية النظم عند الجرجاني؛ هذه النظرية التي كانت في مستوى رفيع جدا؛ حيث لو فهم الناس هذه النظرية عند الجرجاني كما طبقها في تحليل القرآن الكريم، وتحليل النص الأدبي، ثم طوروها، لأتوا بالشيء الكثير فيما يخص تحليل النص الأدبي والنص الشعري والنص القرآني.. لكن من آفاتنا أننا بدل أن نتعرف على تراثنا وأن نفهمه جيدا، وأن نطوره من أجل تجديده، بدأنا نبحث عن الجديد عند الغير، فكلما قال غيرنا فكرة غير مألوفة في الوسط الذي نعيش فيه، إلا وأخذناها ونشرناها وعندئذ سنكون مجددين! وفي الواقع لا نقوم بشيء..
ولذلك تلاحظ أن كل واحد يطبق منهجا معينا، وأن كل من اطلع على فكرة عند غربي أو شرقي إلا وأخذها وصار يقول إن هذا هو المنهج السليم.. ولذلك ستجد جميع المذاهب الشرقية والغربية تنعكس في جامعة واحدة في بلادنا العربية؛ هذا يطبق السوريالية وهذا يطبق الشكلانية وهذا يطبق البنيوية وهذا يطبق المنهج البلاغي لمجموعة كذا... والسبب أن كل من تعلم فكرة في جامعة غربية إلا وظن أنه أتى بشيء جديد.. وفي الواقع لا أحد منا يحسن هذه العلوم ويعرف قيمتها، إنما فقط يبرر ويثبت الذات، وكأن لسان حاله يقول: لقد أتيت بشيء جديد ولم أعد أجتر ما كان يقال قديما في عصور الانحطاط، لأن هذا سيبدو قديما ومتأخرا، وسيقول الناس إنه مازال يدافع عن فكر مات، وأن الحداثة والتجديد هو أن نأتي بأفكار جديدة، سواء فهمناها أو لم نفهمها، المهم أن نروج لها بوجه من الوجوه في بلادنا! والمشكلة أن هذه الأفكار عند أصحابها غير ناضجة.