اعادة انتاج الهوية
محاولة اولية لمعرفة الذات ونقدها
يعتبر مفهوم الهوية من المفاهيم الحديثة التي ترتبط بالوجود والذات والتراث الثقافي، مثلما ترتبط بالتعدد والتنوع والاختلاف والتغير الاجتماعي في صيغها المختلفة ومستوياتها المعرفية المتنوعة وكذلك في سياقاتها المتعددة التي تنتج وعيا اجتماعيا يثير تساؤلات تقترن بالهوية من حيث دلالاتها وابعادها ومكوناتها الاساسية وعلاقاتها بما هو ثابت ومتغير من عناصرها، ومن حيث هي وعي متوتر وملتبس في علاقتها مع مكوناتها من جهة، ومع الآخر من جهة ثانية، ومن حيث اقترابها وابتعادها عن الوعي بها والتذبذب بين العناصر التي تستوعبها داخل الثقافة الواحدة، وكذلك حضورها في العالم حيث تجري عملية التثاقف التي لا تكف عن التواصل والتحاور والتغيير، وبخاصة منذ ان اثارت العولمة وبدايات ما بعد الحداثة تساؤلات عديدة في مقدمتها اشكالية الثقافة والهوية على نطاق محلي وعالمي. وقد اخذ الحديث عنها يقترن بصورة متلازمة مع اطروحات التعددية والديمقراطية وصراع الحضارات، حيث اصبح الارتياب من العولمة هاجساً مركباً من اندماج عالمي لا يراعي المساواة بين البشر ويعمل على احتواء الآخر بصورة لا ارادية احيانا، وهو ما يوسع شقة الخلاف والاختلاف بين الأنا والآخر، وفي ذات الوقت يبعث على اساءة فهم معنى الاختلاف بين الثقافات، الذي يؤدي الى تفكيك بنية العلاقات الاجتماعية التواصلية وامكانية تزايد حدة الصراعات الحضارية.
ان الانشغال بالهوية ليس عيبا ولا سلوكا مثيرا للانتباه والاستغراب اذا كان ايجابيا، ولكن حين يكون سلبيا ويساعد على تراجعها ونكوصها والاستغراق في الاوهام والهواجس، فقد يتحول الامر الى مركب نقص حضاري يعمق الشعور بالعجز والقهر والاضطهاد ويزيد من القلق والاستلاب، دون اية مبررات احيانا. والاكثر خطورة هو ان يتحول تبرير العجز والنكوص الى القاء المسؤولية على الآخر وحده، والجري وراء "نظرية المؤامرة" التي تتركنا نبكي او نتباكى على حالنا وعلى هويتنا. يشير يورغن هابرماس، الفيلسوف وعالم الاجتماع الالماني، الى ان الخلاف وليس الاختلاف هو السبب الرئيسي في ازمة الهوية، الذي يعود في جذوره الى ضعف الوعي الاجتماعي، من الداخل، اي من الذات اولا ومن الآخر ثانيا، مع ان الفصل بينهما امر تعسفي دوما، لان هناك علاقة جدلية بينهما. وعلينا تحديد موقفنا من ( الأنا) ومن ( الآخر)، وان نبدء اولاً من (الآنا) لان الانشغال (بالآخر) دون (الأنا) يبعد الخلاف والاختلاف ونقاط التشابه والالتقاء بين الأنا والآخر.
لكن الانشغال بالآنا دون الآخر قد يبعدنا عن الاسباب الرئيسية التي ولدت الخلاف والاختلاف، سيما ان قياس حجم الخلاف والاختلاف وعمقه ليس بهين، فربما نغالي في الاختلاف على حساب الخلاف، فنجعل منه اكبر حجما وثقلا ونخلع عليه كل الصفات السلبية، وفي ذات الوقت، نغالي في(الآنا) فنخلع عليها كل الصفات والفضائل الحميدة.
والحقيقة فقد احتل مفهوم الهوية اليوم مساحة واسعة من التفكير والخطاب واخذ الاهتمام بالعمل والانجاز يتعدى وفي كثير من الاحيان حجم الاهتمام بالممارسة العملية لتوكيد الهوية واعادة انتاجها وحمايتها من احتواء الآخر.
فما هي الهوية؟
الهوية (Identity) هي السمة الجوهرية العامة لثقافة من الثقافات، لكن هذه السمة ليست ثابتة أو جاهزة أو نهائية، كما يفهمها او يعرفها البعض احيانا، ولذلك لا يمكننا صياغة تعريف اجرائي لها ولا توصيفها وتحديد خصائص ذاتية لها لانها مشروع ثقافي مفتوح على المستقبل. ولكنه مشروع معقد ومتشابك ومتغيرمن العناصر المرجعية المنتقاةالمادية والاجتماعية والذاتيةالمتداخلة والمتفاعلة مع التاريخ والتراث والواقع الاجتماعي.
والهوية ليست احادية البنية وانما تتشكل من عناصر متعددة ، في مقدمتها الاثني والديني واللغوي والاخلاقي والمصلحي، اضافة الى الخبرةالذاتية والعلمية والوجدانية.
والهوية ليست مجموع هذه العناصر، بقدر ما هي محصلة مركبة من عناصر تشكلت عبر الزمن وتم تلقيحها بالخبر والتجارب والتحديات وردود الافعال الفردية والجماعية عليها. في اطار الشروط الذاتية والموضوعية السائدة والطارئة عليها.
والاصل في الهوية يرتبط بفكرة المواطنة في الدولة من ناحية الجنسية كظاهرة وكمبدأ قانوني كما يرتبط بالابعاد الثقافية للشخص والمجتمع مثلما تتصل بالانتماء السياسي للدولة.
وعموما تتغذى الهوية من مصدرين هما:
اولا ـ التراث، وهو المصدر الثابت او الجوهر الذي يشكل الذهنية التي تقولب " الشخصية النموذجية " التي تنبثق عنها الهوية.
ثانيا ـ المجتمع، الذي يشكل المصدر الثاني الطارئ والمتغير من الهوية، الذي يؤثر تأثيرا كبيرا، فمن الممكن انه يعيق ما هو ثابت او يعطله مؤقتا، لان الثابت غالبا ما يعيد انتاج نفسه من جديد، ولو بصفة اخرى يقتضيها هو في اللحظة المناسبة ووفق صيرورة المجتمع وشروط تغيره الذاتية والموضوعية.
ومن اهم المتغيرات الطارئةهي السلطة والمصلحة والكوارث والحروب والقوى الخارجية
وغيرها.
ويشير احمد زكي بدوي، بان الهوية هي التي تميز الفرد نفسه عن غيره، اي تحديد حالته الشخصية. ومن السمات التي تميز الافراد عن بعضهم البعض هو الاسم والجنسية والسن والحالة العائلية والمهنة .
ولكن هذا التعريف ينطبق على الفرد وليس الجماعة.
اما مبدأ الهوية فيقصد به ان الموجود هو ذاته، او هو ما هو، ويهيمن هذا المبدأ على الاحكام والاستدلالات الموجبة، ومن شانه ان يجعلنا نحرص على ان لا نخلط بين شيء وما عداه، وان لا نضيف للشيء ما ليس فيه.
ويمكننا توضيح المبدأ الذي تقوم عليه الهوية بمعادلة بسيطة: هي : أ= أ
وتتطلب هذه المعادلة بان كل مفهوم يبقى في مجرى عملية التفكيرالمترابطة محتفظا بمعناه نفسه فقط تماما، وبمعنى اخر، ان شيئا ما يمكن ان يتطابق مع نفسه فقط وفي جميع الصفات والخصائص الاساسية له. ولكن في واقع الامر لا يمكن ان يبقى الشيء من الناحية العملية مطابقا لنفسه دوما. لانه متغير او خاضع للتغيير، ولذلك يصبح مشابها لنفسه وليس متطابقا معها.
الهوية اذن ليست كلا متجانسا ومتكاملا، ولكن ثمة نموذجا مركزيا يضفي عليها طابعها العام ويميزها عن غيرها. كما ان هذا النموذج المركزي ليس جامعا لكل الصفات، وليس صلبا وجامدا، وانما هو نموذج يشتمل على عناصر ايجابية وسلبية دوما، بسبب اختلاف ثقافة الافراد ومصالحهم ووعيهم به وكذلك ممارستهم لعناصره، وتأثرهم بعوامل ذاتية وموضوعية. وما ينطبق على الافراد ينطبق على المجتمع، فمثلما للافراد هوياتهم كذلك للمجتمعات، والفرق هو ان هوية الفرد لا تمثل الا شخصيته في المجتمع، في حين تمثل هوية المجتمع جميع افراده تقريبا.
ومن الممكن القول ان اية جماعة اوطبقة او طائفة او امة هي مجتمع ضائع ولا وجود له دون هوية تطبعه وتهيء له اسباب وحدته وبقائه واستمراره.
اما عوامل تحديد الانتماء في هوية فهي: الارض والدم والعقيدة واللغة واقوى هذه العناصر هو الدم ثم العقيدة.
اذن فالهوية هي اشكالية ذهنية وليست واقعا ملموسا دوما، وهي الية من اليات الدفاع الجمعي وليس الفردي، تتحرك للعمل في حالات عدم القدرة على الفعل او على التعاطي مع الآخر بشكل طبيعي، او حين ينتابها احباط ونكوص فتعجز عن اقامة التوازن بين الأنا والآخر، وبخاصة في اوقات التحديات المصيرية كالحروب والكوارث والازمات الثقافية.
تطرح الهوية تساؤلات مركزية منها:
ـ من أنا ؟
ـ من هو الآخر؟
ـ وما هي علاقتي معه؟
ـ وما هي الخصوصية التي تميزني عنه؟
ولكن ماهي الأنا؟
(الأنا) هي الذات، التي تشير الى ذاتي المستقلة في مقابل (الآخر) وكذلك تاكيد عناصر الاختلاف بين ذاتي والذوات الاخرى. غير ان(الأنا ) هي الذات الحاضرة الان، هي ذاتي انا التي تطورت عبر سنين طويلة ـ من الطفولة الى الكهولة ـ وخضعت الى متغيرات عديدة، رغم ثباتها الشكلي. وهذا يعني ان (الأنا) متغيرة في الزمان والمكان في خصائصها وفي علاقاتها مع الآخر. وحين يتكلم المرء عن "الأنا" يكون قد عبر عن (هوية) معينة وذاتية محددة، من خصائصها ان الآخرين يعرفونني من خلالها. اما نواة الهوية فهي القيم والمعايير والسلوك التي تفرزها الثقافة وتعيد انتاجها لتحافظ على بقائها وديمومتها حية في الذاكرة.
وحين تكون الثقافة في عروق الناس، فان حياتهم تصبح ثقافتهم وثقافتهم تصبح حياتهم. ولا يحدث انسلاخ عن هذه الثقافة الا حين تكون"الأنا" مفككة وعاجزة او مهزومة، او حين تكون وافدة من الخارج وغير منبثقة من داخل المجتمع. اذن هناك علاقة جدلية بين الأنا والنحن، فالهوية هي الأنا الجمعية، اي النحن، التي انا ذاتي جزء منها او مكمل لها، ومن خلالها استطيع ان اعرف ذاتي وادرك هويتي، سواء كان هذا الادراك حقيقيا ام زائفا.
تصبح الهوية هي انصهار الذوات في بوتقة واحدة هي (الجماعة)، بمعنى ان (النحن) عندما تمتد في الزمان والمكان امتدادا يفوق عمري الفردي، اي عندما تنتفي الحدود الفردية بيني وبين الآخرين في كل موحد هو (الجماعة) حيث تنتقل (النحن) من حيز الحس الى حيز التجريد، ومن حيز المكان المحدود زمانيا الى حيز المكان الممتد في الزمان والمكان، لتشكل هذه (النحن ـ الهوية)، الضمير الجمعي والوعي الاجتماعي، الذي بموجبه افكر واشعر واعمل واسلك، كما تشكل "العقل الجمعي" ، الذي بموجبه احكم والمخيال الشعبي الذي بموجبه ارغب واحلم.
هويتي اذن هي ما انتمي اليه في حيز زماني ومكاني واعتبر نفسي جزءا منه مع تداخلها مع هويات اخرى يصعب الفصل بينها في احيان كثيرة.