لــم أكن أطيق قراءة كتب الفلسفة وعلم النفس، حتى المقالات في المجلات والجرائد التي أشم فيها رائحة علم النفس كنت أتجنبها بعد أن أمطرها بسيل من الشتائم. كنت أعتبر الفلاسفة وأتباعهم أشخاصاً معقدين، كلامهم طلاسم. وكنت أؤمن أن الفلسفة لم تقدم شيئاً للبشرية سوى الكآبة. وإلا ما سر الانقباض والتجهم الذي ينتابني كلما قرأت بضعة أسطر من مقال فلسفي؟!
لكني حين خرجت ذلك الصباح من غرفة المدير وأنا أشعر أني مدمر النفس ومسحوق كحشرة، وجلست إلى مكتبي شاعراً أني فقدت الرؤية حقاً وإن كل ما حولي ظلام، وأني لم أعد أملك القدرة على امتصاص السخرية من المدير الذي لم تمض أياما من توليه أعمال الادارة في المؤسسة، والذي لا يفقه شيئاً من الإدارة سوى أنه يريد تسخير كل شيء لمنفعته، أحسست بضيق نفس حقيقي وشتائم المدير تطن في أذني، وبصعوبة تمكنت بأصابع مرتعشة من فك زر القميص محرراً رقبتي من الأسر. دمعت عيناي من القهر، ومضت سنوات خدمتي في المؤسسة متوجة بالشتائم في الأيام الأخيرة بعد أن عينوا المدير الأحمق، إني على بعد أيام من ترك العمل وانتهاء العقد، أحس قلبي سميكاً، وروحي ثقيلة، ماذا جنيت من نزاهتي وتفانيّ في العمل؟!
لم أستطع أن أطهرّ روحي من سموم كلام المدير كما كنت أفعل كل مرة، أحس الإهانات تترسب في روحي طبقة سميكة أحسستها كالقطران، كنت لا أزال أحس الظلام يسربلني...لم أغادر ذلك اليوم المؤسسة، واكتفيت بغداء سريع في احدى المطاعم المجاورة...ثم انكفأت إلى مكتبي ألرتاح حتى تبدأ ساعة العمل ...في الحين فتحت نافذة على منتدى التخاطب.. وأنا أبحث على شيء أقرأه... سطع فجأة عنوان كتاب على احدى صفحات المنتدى "تأكيد الذات" كلمتان مكتوبتان باللون الأحمر والخط العريض وأحسست أن روحي المشتتة بالقهر تتجمع حول عنوان الكتاب كما تتجمع الدبابيس وتلتصق بقطعة المغناطيس. ترى ما الذي يغريني في هذا العنوان ويدفعني لالتقاط الكتاب رغم رائحة الفلسفة وعلم النفس الفواحتين منه؟
كان الكتاب قديماً، صفحاته مصفرة،ويظهر عتيقا حتى على شاشة الحاسوب.. لكني أحسست أني محموم من شدة الاضطراب ما أن قرأت السطر الأول: لسنا معتادين على الانتباه لما يجري في داخلنا".
فجأة أحسست أن الظلام حولي يتبدد، وأن كل شيء في رأسي يضيء، أخذت أمتص كلمات الفصل الأول عن "الأنا المشوهة" كما تمتص الأرض المشققة من العطش قطرات المطر، لم أنتبه لتحديقي المفتون بالكتاب إلا حين دخل زميلي في العمل. انفجر ضاحكاً وهو يقول: لا أصدق ما أرى، أنت تقرأ كتاباً في علم النفس؟ بصعوبة رفعت عينيّ عن الكتاب وقلت أود أن أقرأ هذا الكتاب.
فرك صديقي عينيه وقال: لا أصدق ما أرى، منذ متى تقرأ كتباً في علم النفس؟
تململت وقلت: لا أعرف، لكن هذا الكتاب يبدو مختلفاً، أقصد هاماً..
قال صديقي: إنه كبقية كتب علم النفس والفلسفة التي تكرهها.
لم أكن راغباً بالحوار، عدت أغرق في الكلمات التي أججت قلبي وعقلي معاً، أحس أن لهذه الكلمات مفعول المخلص، وأنها قادرة بضربة سحر أن تخلق من أعماق يأسي قوة مجهولة أتحدى بها كل مظاهر القهر واللاإنسانية حولي.
لم أستسلم للقيلولة كعادتي بعد الخروج من العمل، كنت أقرأ الفصل الأخير من الكتاب الذي عنوانه "تأكيد الذات" والذي يبين فيه المؤلف كيف أن أهم واجبات الإنسان تجاه نفسه هي تأكيد ذاته، أي التعبير عن حقيقة أفكاره ومشاعره دون خوف، والإصرار على نيل حقوقه. والوقوف في وجه الشخصيات السادية والمستغلة التي لا تهدف إلا لتحطيم الكرامة الشخصية للإنسان، وأخيراً يطلب الكاتب بكل رقة ولطف من القارئ أن يبعث نفسه من جديد ويثق بإمكاناته الشخصية، ويتصرف ويتكلم بشجاعة يمليها عليه ضميره، وألا يخاف من المواجهة، فما قيمة الحياة إن خلت من المواجهة؟!
ويستشهد المؤلف بأمثلة لأشخاص عاشوا شطراً كبيراً من حياتهم مسحوقين مهانين، ثم انتفضوا بعد أن رفضوا حياة الذل، مؤكدين ذواتهم، مستمتعين بكرامتهم، وسعداء بولادتهم الجديدة.
يا للنبض الحار الذي يتركه هذا الكتاب في عروقي، أحس أنه يخلع جلدي القديم منتشياً بجلدي الجديد المعافى، والذي لم يمتص كلمات الذل. عاهدت نفسي وأنا أضع بعض ما قيدته من الكتاب على صدري مصالباً يديّ فوقه إني لن أسمح لمخلوق بإهانتي، وأني سأسعى لتأكيد ذاتي متبعاً النصائح التي قدّمها المؤلف.
المواجهة الأولى كانت مع أختي التي اعتادت أن تسخر مني، وكنت أمتص سخريتها على مضض دافناً انزعاجي منها، ومبرراً لها بأنه أسلوبها في الكلام. قالت لي: ما هذه العجيبة! أنت تقرأ كتاباً في علم النفس وتحرم نفسك من قيلولتك المقدسة!
قلت بحزم: اسمعي. أسلوبك الساخر يزعجني هل فهمت؟
رفعت إليّ عينين مندهشتين وقالت: منذ متى تزعجك سخريتي يا سيدي؟
احتدت قائلاً: حتى سيدي هذه فيها سخرية. انتبهي لألفاظك من الآن فصاعداً، أسلوبك الساخر فيه انتقاص من احترامك للآخر.
استمرت أختي في السخرية قائلة: يا سلام، أهي موعظة أخلاقية أم..
قاطعتها شاعراً بمشاعر غبطة عارمة لأني أحكي ما أحس به تماماً:
-كفى-لا تعملي من الحبة قبة، كلامي واضح.
أخرستها المفاجأة، أهذا أخي الذي كان يمتص كلامي معلقاً بابتسامة، ما الذي جرى له؟ هل أثرّ به الكتاب؟ لكن منذ متى يقرأ كتباً في علم النفس؟
امتصت غضبها واعتبرت أن ما اعتراني ليس سوى حالة عابرة سببها حرمانه من القيلولة. لكنها حين ذكرتني بعد ساعة بوعدي لها لإيصالها إلى بيت صديقتها ، فوجئت برفضي الصريح قائلاً بوضوح سمَّرها في مكانها: لن تذهبي. يجب أن أعترف لك أنني كنت أصطحبك مجاملة لك، لكني من الآن فصاعداً لن أجامل، سأكون صادقاً مع نفسي، هل فهمت؟
حملقت إليّ غير مصدقة النفس الجديد في كلامي، سألتني خير: هل أزعجتك بشيء؟
قالت: إطلاقاً، لكنني بصراحة لا أرتاح لمثلها ، قهقهت مستمتعاً بفيض تدفق أفكاري التي تولد في ذهني وتنطلق رأساً إلى لساني دون أن ألجمها كعادتي، لا تندهشي يا أختي العزيزة. شخص مثل صديقتك لم تحصل على الشهادة الإعدادية تصير نائبة المدير! لا تقولي أن الله أعطاها. فهذه الجملة يختبئ خلفها كل اللصوص..
انفجرت قائلة: أتقصد أن صديقتي لص!
ضحكت بصوت حر: لا أقول سوى الحق.
قالت: لا أصدق ما أسمع، منذ متى تتكلم هكذا؟ ما الذي جرى لك؟
قلت منتشياً: لا شيء. أنا أؤكد ذاتي.
-ماذا! ما هذا الكلام غير المفهوم.
استمررت بالضحك منتشياً، مكتشفاً متعة أن يعبر الإنسان عن ذاته.
لكني لم أستطع أن أغفو طوال الليل، شاعراً أني أحس بالجحيم والنعيم معاً مجتمعين في روحي.
ياه كم ارتكبت أخطاءً بحق نفسي، بدت لي حياتي منذ طفولتي وحتى يومي ذاك سلسلة من الأخطاء يسيّجها الخوف ويبطنّها القمع، منذ طفولتي حرمت من التعبير عن آرائي ومشاعري بصدق وحرية، كنت أخاف من الاستاذ المستبد، وتعودت مع الزمن على ابتلاع الكلمات التي تعبّر عن عفويتي، وعلى ابتلاع الإهانات أيضاً، ياه ماذا فعل لقلبي سوى أنه حوّله لحقل من الذل واليأس والكراهية للحياة.. إني الآن أواجه نفسي في صمت هذا الليل وحيداً مع دقات قلبي الذي يعلن الثورة بنبض جديد أميّزه وحدي. وجدت نفسي بعين خيالي مهزوماً ومُهمشاً. قررت أن أتجاوز الخوف، امتصت وسادتي دموعي وأنا أعي كم تأخرت في إعلان ثورة الكرامة في حياتي.
صباح اليوم التالي حين استدعاني المدير، مشيت إليه منتصباً شاعراً أني أملك كنزاً في قرارة نفسي، لعله إحساسي بالكرامة أو القوة، وحين قرعت الباب وثنيت مقبضه لأدخل أحسست أني أودّع آخر شعور بالذل، كنت سعيداً أني مُقدم على معركة سأؤكد فيها ذاتي، أخذت نفساً عميقاً وأنا أشعر أن مؤلف كتاب "تأكيد الذات" يشد على يدي مشجعاً وهامساً لي: ما قيمة حياة تخلو من المواجهة؟!
تذكرت أني في كل مرة كنت أحيّي المدير بلهجة الطاعة، وبابتسامة فيها الكثير من المذلة والآخر لا يرد التحية، رفع إليّ المدير عينين حاقدتين ومستطلعتين في آن. كأنه يسألني- أين تحية الصباح؟
أسعدني أني استقبل نظرة المدير بتحد ولا مبالاة. وضعت يديّ في جيبي بنطالي، وأثنيت ركبتي، لم يعد من مبرر لوقفة المُعاقب على ذنوب لم أرتكبها. تذكرت أني كنت أقف محني القامة وقد تصالبت يداي خلف ظهري ونظري مسمّر على حذائه.
ابتدرني المدير ساخراً: أرى أنك ابتلعت تحية الصباح، هل اختفى صوتك؟
قلت بصوت لم أتعمد أن أبلله بالذل: أبداً، لكني في كل مرة كنت أحييك، لا أسمع ردك.
حدق إليّ الشاب المتغطرس قائلاً: أتجرؤ على انتقادي.
قلت: بل أجيب عن سؤالك.
قلب المدير الملف وقال: أرى أنك لم تجر التعديلات التي أمرتك بها.
خفق قلبي وأنا أعي أني مقدم على ساحة قتال بشجاعة لم أعرف مثلها طول حياتي: ما أمرتني به مخالف للقانون.
هب المدير واقفاً وقال: ماذا أسمع!
أجبت باستخفاف: أنا لا أخالف القانون، المواصفات التي كتبتها غير متوفرة في المواد التي يجب أن أوافق على شرائها وستخسر المؤسسة ملايين إذا..
جن المدير من الغضب وقاطعني قائلاً: اخرس ، أتجرؤ على مخالفة أوامري، ستوقع يعني ستوقع.
كنت منتشياً بتأكيد ذاتي، تركت المدير يعوي مسعوراً، يشتمني ويتوعدني وحين تهاوى على كرسيه، قاذفاً الملف بوجهي وهو يأمرني أن يوقع وإلا سأندم.
قلت بصوت واثق: لن أرد على رجل سفيه مثلك، لن أوقع، هل فهمت.
استدرت لأمضي، لكن المدير انقض على كتفيّ يهددني..
وجدت نفسي أستدير وأقبض على عنق المدير بقبضة من حديد، طعنته بعينيّ اللتين تقدحان شرراً وقلت له: كفاك تطاولاً على الناس، الكل هنا يكرهك، ويعرفون ممارساتك الدنيئة، لا أحد تخفى عنه سرقاتك، فلا تتطاول على الناس الشرفاء.
لم يستطع المدير تحرير عنقه من القبضة الحديدية، إلا حين أردت إفلاته.
عدت إلى مكتبي منتشياً بسعادة تحقيق الذات، ووسط عيون الدهشة والذهول والخوف لزملائي، كنت وحدي أتذوق طعم سعادة جديدة عليّ.
وحين استدعيت للتحقيق بعد أيام، ذهبت بقلب واثق، أدليت بأقوالي وسلمت المستندات التي تدين المدير وتفضح سرقاته، لم أنكر أني اضطررت للدفاع عن نفسي، كنت منتشياً بولادتي الجديدة، قلبي ينبض على إيقاع الكرامة، وجلدي تفتحت مسامة التي انسدت لزمن طويل بعرق الخوف.
لكني فوجئ بعد شهرين من مسار التحقيق بفصلي من الوظيفة بتهمة اعتدائي على عنق المدير! تراقص عنوان الكتاب في ذهني، سألت المؤلف بعينين دامعتين: لم تقل لنا مخاطر تأكيد الذات يا صديقي؟
أدهشتني أن تكون آثار تحقيق الذات رهيبة إلى هذا الحد ومدمرة، ورغم إحساسي أن الواقع هزمني وأني متكور داخل حزني كحلزون منكمش في قوقعته، ورغم أن إحساسي بالغبن كان طاغياً، إلا أن ثمة شعوراً ابتدأ باهتاً في روحي، ثم أخذت أعربد معلناً عن نفسي مؤكداً له أني أحقق أعظم انتصارات حياتهي، وأني توصلت إلى تجاوز ذاتي لأصير مثلاً ورمزاً للشجاعة، كنت أحس بمتعة أني تركت بصمتي في ذاكرة أصدقائي وأعدائي إلى الأبد لن يتمكن أي منهم من نسياني.
فلأكن كبش فداء لا يهم، يكفني أني لم أسمح للظروف الرديئة أن تجمدني وتختزل إنسانيتي، وما فداحة الظلم الذي أصابني سوى تأكيد على نزاهتي وصدقي، لقد فهمت متأخراً لماذا كنت أكره الفلسفة، لأنها ستضطرني أن أفهم ذاتي وأناقش حياتي، وأنا لم أكن مستعداً لمواجهة نفسي.
ياه كم أشعر أن البطولة أرفع من أية سعادة، لم أعد أخشى شيئاً، شجاعة تأكيد الذات أعطتني مناعة ضد التهديدات، فلأخسر وظيفتي المهم ألا أخسر نفسي.
وفي وحشة الليل، كان قلبي أعزل لكنني لست خائفاً، لم أعد مضطراً لتضليل ذاتي، إني أقفز فوق الصعاب وحيداً وحراً يلحقني ظل كرامتي، ورغم أن جسدي كان ثقيلاً، إلا أن روحي كانت تسبح في أمواج النور.
أدخلني التعب والنعاس فيما يشبه الغيبوبة، سمعت همساً بعيداً يقول لي مؤاسياً: لا تيأس، المهم تأكيد الذات.