الفلسفة شكل من أشكال المقاومة
"توفيق رشد لـ"الأحداث المغربية"
كيف ترصد الفلسفة التغيرات الفكرية والعلمية؟ وما هي الأسئلة التي تطرحها بخصوص التحولات الأنطولوجية والمسارات العلمية المستجدة في تاريخ البشرية؟
أعتقد أن لا شيء مما نعيشه اليوم له تاريخ بحيث قد تقول مثلا: «أين يمكن أن نجد أو أن نعثر على تاريخ الأقمار الصناعية أو الهندسة الوراثية أو تاريخ الإنترنت؟» قد نقول أن تاريخ هذه الأمور هو العلم. وهنا نتساءل عن أي علم نتكلم؟. إذا بحثنا في تاريخ العلوم، لا نجد تاريخا للهندسة الوراثية أو الإنترنت أو الأقمار الصناعية، إذ لم يعد هناك علم بالمعنى التقليدي الذي عهدناه. والعَاِلمُ توارى واختفى إلى غير رجعة. فالذي حل محل العالم هو الباحث الذي لا يحتاج إلى مكتبة في بيته، ولكنه يتكون باستمرار في الندوات والمختبرات وهو دائما في رحلة. إذن هناك وضع جديد، ذلك أن الهندسة الوراثية لا يمكن اعتبارها اختراعا مختبريا بل هي حَدَثٌ أنطولوجي حاسم في تاريخ البشرية. نعني بذلك أن هناك تحولاً أنطولوجيا كبيرا. لقد تم إنتاج صيغ أنطولوجية متعددة انتظمت داخلها حكايات كبرى -كما يقول جون فرانسوا ليوطار- منها مثلا أنطولوجيا اللاهوت التي توجد الآلهة في أعلى هرمها. وهناك أهرام أنطولوجية أخرى أنتجتها الميتافيزيقا وعلى رأسها يوجد اللوغوس والحقيقة المطلقة... وفي العصر الحديث، نجد الذات أو الإنسان في أعلى الهرم الأنطولوجي والذي تمخضت عنه سلسلة من البداهات واليقينيات. ومن ثمة، ظهرت علوم إنسانية وسوسيولوجية، علم النفس وعلم الاجتماع، إلخ. غير أن هذا الإنسان لم يعد يحتل تلك المرتبة التي أعطتها له الفلسفة أو اللاهوت. نحن نسير اليوم فوق هذه الأرض التي كان يعتبرها "سوفوكل" إلها مقدسا، وحدث حولها جدال كبير- هل هي بساط؟ هل هي كروية؟ هل هي تدور أو لا تدور؟- اليوم أصبحت خزان للطاقة والمواد الخام. والسماء التي كانت مَقَرّ استقرار الآلهة، أضحت اليوم عامرة بالأقمار الصناعية للتصنت على الأرض وتوجيه الصواريخ، إلى غير ذلك. الفانون، ومن بينهم الإنسان، لم يعد ذلك المخلوق أو هو ذلك الخالق، بل أصبح منتوجا عن طريق الهندسة الوراثية. ومن هذا الموقع، ترصد الفلسفة هذا التحول الأنطولوجي الذي حدث، أي تطرح الأسئلة حول هذا التغير أو المسار الجديد. مثلا، السوسيولوجيا ظهرت في الغرب، وهي حديثة العهد لا يتجاوز عمرها مائتي سنة، وعلم النفس أيضا، حيث ظهرت مع ظهور الإنسان كإبستيمي جديد، كما يقول "ميشيل فوكو" في هذا الصدد. ونحن نعيش اليوم تواري هذا الإنسان. ومن ثمة، يجب على هذه العلوم بالضرورة أن تستمع لأسئلة الفلسفة، أن تتبع التحولات الأنطولوجية الكبرى حتى تتمكن من إنتاج معرفة منخرطة في العصر.. * إذن مهمة الفلسفة تنحصر فقط في رصد هذه التحولات..
** أعتقد ذلك. وأظن أن السوسيولوجيا وعلم النفس والأنثروبولوجيا ليست لها القدرة على طرح هذه الأسئلة من داخلها. إذ ستبقى دائما حبيسة التصور القديم للإنسان والذات التي أنتجت سلسلة من اليقينيات والبداهات. أعني أنها ستنتج معارفها في حدود إبستيمولوجية وميتافيزيقية ولسانية تجهل مآلاتها.
* ما هي الأسس والقواعد والمناهج التي ينبغي أن يعتمدها هذا السؤال الفلسفي لرصد هذه التحولات الأنطولوجية؟
** أشير هنا إلى أعمال المفكر الفرنسي "ميشيل فوكو" الذي أكد على نقطة أساسية، وهي أن الإنسان كإبستيمي هو حديث الظهور؛ أي أنه ظهر على أنقاض الميتافيزيقا. وهو سائر نحو الاختفاء أو التواري. السؤال الفلسفي له خصوصيته فهو ليس استفسارا وليس مرادفا للاستفهام أو الاستخبار الطَّلَب... السؤال "إنه تلك الحَرَكَة التي يُغَيِّر فيها الوجود مَجْراه فيظهر كإمكانية مرهونة بدورة الزمان." كما يقول موريس بلانشو. السؤال الفلسفي هو إِنْشَاءٌ وابْتِكَارٌ وإِبْدَاعٌ وتَشْكِيلٌ لاَ يَرْتَبِطُ بِمَا سِوَاهُ، ولا يَفْتَرِِضُ وُجُودَ ما يُسْأَلُ عنه.
الفلسفة تؤسس هذا الوضع الأنطولوجي. والعصر الذي نعيش فيه أسسه "ديكارت"، أي كل ما نراه اليوم من مشاريع، كيفما كان نوعها، لا يخرج عن عقلانية "ديكارت" الذي أسس ميتافيزيقا هذا العصر والذي دفع في اتجاه ظهور الإنسان كذات.
* كيف يمكن للفلسفة أن ترصد التحول من التراث إلى الحداثة في الفكر العربي المعاصر؟
** الجميع يقبل التحديث، بل هو مطلب سواء في البلدان المتقدمة أو المتأخرة. غير أن الحداثة غالبا ما تُعتبر فكرا دخيلا قد نقبله أو نرفضه. والأمر ليس كذلك، الحداثة هي نمط من أنماط الوجود والحياة. ففي الفكر العربي المعاصر، نلحظ تفشّى الاتجاهات الأصولية والتّأصيلية والإسلاموية، مرورا بالاتجاهات القومية والعروبية، وانتهاء الاتجاهات التراثية التي تدعي العقلانية للتوغل في التراث والانحصار داخله. هذه الاتجاهات تشكل خطرا على الاقتصاد والسياسة، وهو ما يتطلب وقفة ظاهراتية محورها إعمال العقل والإنصات لمتطلبات العصر والانخراط والاندماج في العالمي والإنساني والكوني، وإلا فإن أي شكل من أشكال التقوقع سيؤدي إلى انهيارات وإحباطات. ولهذا فإن الذين يرفضون الحداثة ويبحثون عن مشروعية ما في فكر أصولي محكومون بالزوال لأن المشروعية اليوم -في عصر التقنية- هي مشروعية عالمية وكونية.
* لكن الفكر العربي المعاصر لم يستطع بعد تأصيل المبادئ الحداثية. ما هي وظيفة الفلسفة في هذا السياق؟
** فعلا، يجب أن نعلم أن مقاومة الحداثة هي مقاومة شرسة جدا. وهذه المقاومة تتخذ أقنعة مختلفة. وهنا أعتقد أن من الأشكال الخطيرة التي تواجه الحداثة هذه القنوات الفضائية العربية التي تقوم بـ"واجبها الإعلامي"، غير أنها تُكَوِّن لدى المواطن العربي فكرة خطيرة جدا، وهي أن هناك زوج يتكون من الشرق والغرب وأن بينهما صراع. هذه القنوات تنطلق من فكرة بسيطة، ولكنها مخربة في الآن ذاته، وهي فكرة المؤامرة والتواطؤ التي مفادها أن شعوب الدول النامية لها عدو هو الغرب. في حين أن هذا الزوج غير موجود لأن الغرب هو خاضع لمسلسل التعدد والاختلاف والمثاقفة. والشرق أيضا هو في جوهره غرب تصعب معالجته، لأنه، كما يقول عبد الكبير الخطيبي، يصعب في الشرق التمييز بين وجه الشرق ووجه الغرب. هذه القنوات تدخلنا في شكل من التبسيطية والقومية المتوحشة والسادجة، بحيث تجد الجميع يتحدث عن المواضيع العربية، وأصبح الجميع محللا سياسيا واقتصاديا..
* تعتبر أن زوج الشرق والغرب غير موجود، هل يمكن أن نعتبر أن الصراع بين الشرق والغرب غير موجود هو الآخر؟
** لا، بل هناك شرق متعدد وغرب متعدد، إن هذه التصورات تظل سجينة ميتافيزيقا هيغل، التي تعتبر الغرب منظومة مرجعية وحيدة هذه الوحدة الميتافيزيقية سرعان ما تَصَدّعت، فأصبح الغرب المُوَحّد متعدداً: ينهار النِّظام لِتَحُل مَحَلَّه الأنظمة أو الاستراتيجيات: وهكذا يُلْفِت ماركس الأنظار إلى أن الغرب يَسْرِق الغرب، أي طبقة بورجوازية تسرق الطبقة البروليتارية. ويُلْفت نيتشه الأنظار إلى انحطاط أخلاق الغرب ووضاعتها؛ وينتقد دِين الغرب وفلسفته وسياسته وعلمه... ويدعو إلى "الإنسان الأرقى". ويلفت فرويد الانتباه إلى غرائز الغرب ومكبوتاته اللاشعورية، وتتوجه معاول هيدغر إلى ميتافيزيقا الوَحْدَة، ويطرح آفاق استراتيجية الفَرْقِ والاخْتِلاف. هؤلاء جميعا يُخَلِّفون أجيالا من المفكرين: تظهر مدرسة فرانكفورت في ألمانيا، تنتقد التوتاليتاريا الغربية في إطار نقد عامٍّ للعقل السياسي؛ ويُبْرِز فوكو وجه جُنون الغرب الوحشي، ديريدا يفك الميتافيزيقا واللاهوت الرّابض في الكتابة ويعلن موت الكِتاب وبداية الكتابة...
مع هذه الاستراتيجيات تصبح استحالة الحديث عن الغرب بالمُفْرَد، إذ لا يمكن الحديث عن الغرب إلاّ كَجَمْعٍ، كَتَعَدُّدٍ وفَرْق، فأي غرب سيعتدي على الشرق؟ وانطلاقا من أيّ منظومة مرجعية؟
يتجلى تَعَدُّدُ الغرب اجتماعيا وسياسيا في وجود قِوَى متناقضة ومتصارعة فيما بينها، وفكريا يتجلى التعدد في أشكال المثاقفة، إذ لم يعد يستطيع أن يتحدث عن "أنا" مُفْرَد متعالي بعد التمزق الذي شهده على أنقاض النسق الهيغلي.
رغم أن الغرب خاضع لمسلسل التَّفَكُّك والتّعدد والمثاقفة، فإنه مأخوذ بإرادة قوة أصبحت تتجاوزه شيئا فشيئا، وذلك نتيجة ما أسماه هيدغر "ميتافيزيقا التقنية المعاصرة" فالشرق والغرب معا يخضعان لمصير واحد، لقد انتزعت التقنية الشرق من جذوره لكي يصبح "الشرق غربا صعب المعالجة في اختلافه الحاسم"؛ صعب المعالجة، لأننا فعلا لا نستطيع أن نميز في الشرق وجه الشرق ووجه الغرب، فالشرق بالنسبة للشرق أصبح ذلك الآخر الذي تبعده عنه مسافة العلم الحديث والتقنية المعاصرة.
لا ينبغي أن نختزل هذا التعدد في زوج شرق/ غرب أو محور الخير/الشر كما تفعل الولايات المتحدة. هذا الاختزال والبسيط الساذج والمتوحش لا يمكن أن نتخلص منه إلا بأشكال متعددة ومختلفة للمقاومة، أظن أن الفلسفة تقاوم هذه التبسيطية. خذ مثلا الرواية والفن والشعر وكل الأشكال التعبيرية الأخرى فهي تنطلق من إحساس أساسي واحد وهو أن الإنسان كائن حقير وتافه يعيش في الدماء والقتل والسرقة، وأن هذه الفنون والآداب تعمل على ترقية هذا الإنسان بحيث يستحق حياته بين الأحياء ومماته بين الأموات. الفلسفة أيضا ودائما هي شكل المقاومة الأقوى منذ "سقراط" الذي قاوم النسيان و"أرسطو" الذي قاوم الكذب إلى الفلاسفة المعاصرين الذين قاوموا التيارات الفاشية. فإذا قرأت "فوكو" و"دريدا" ودولوز وغيرهم، ستجد أنهم قاوموا عودة الفاشية والأنظمة الشمولية. إذن يمكن تلخيص وظيفة الفلسفة الحديثة في مقاومة الفاشية والدكتاتورية وفتح آفاق جديدة أمام الإنسان. لا يمكن أن تكون الفلسفة أو توجد إلا كشكل من أشكال المقاومة والرفع من مستوى الإنسان. ولنأخذ الأمثلة ابتداء من "سقراط"، الذي كان يتجول في الشوارع ليسائل الناس عن العدالة والحرية.. إلى الآن حيث لا زالت وظيفة الفلسفة هي النهوض بالإنسان والإنسانية ككل. ومن هنا فإن الفلسفة لها علاقة وطيدة بالتنمية. واليوم نحن نتكلم في المغرب عن التنمية البشرية، تنمية القطاعات، إلخ.
* قلت إن الفلسفة كانت دائما شكلا من أشكال المقاومة، حيث قاومت الظلم والفاشية والأنظمة الشمولية. نحن اليوم أمام ظاهرة عالمية جديدة هي الإرهاب. كيف يمكنها أن تقاوم هذه الظاهرة السلبية؟
** الفلسفة تحاول دائما المقاومة بإصرار. لكننا اليوم أمام ورم سرطاني تفجيري (من الفجور والتفجير معا). هذا الورم ترافقه ظاهرة صوتية أصولية تظهر بين الفينة والأخرى، وهي عاجزة تماما عن تدبير المجتمع والاقتصاد والسياسة، فضلا عن أنها غير قادرة عن إنتاج فنون وآداب... لذلك أرى أن وجود الحركة الأصولية لا ينبغي أن يتعدى حدود المسجد. أما مؤسسات البرلمان والسياسة والمعمل، فيلزم أن تسأصل منها نهائيا لأن الأمر يقتضي التدبير العقلاني للاقتصاد والسياسة، لا بناء الرؤى على فكرة المؤامرة والتواطؤ. ومن هنا أرى أن الفلسفة تقوم بتفكيك فكرة المؤامرة والتواطؤ والتكالب، لكن نطاقها ضيق جدا، حيث أن قراء الفكر الفلسفي والمهتمين بها لا يتعدى حدود الجامعة. كما أعتقد أنه ينبغي اتخاذ قرار على أعلى مستوى لأن الأمر لا يخص الفلسفة والمهتمين بها، ولكنه يخص أيضا المشتغلين بالسياسة لأن من واجب المسؤولين تدعيم الفكر النقدي المتفتح..
* لكن هؤلاء اعتبروا في وقت من الأوقات الفلسفة متمردة على السياسة، مما جعل الفلسفة، في المغرب على الأقل، بين مد وجزر..
** ليس من مهام الفلسفة تغيير الأنظمة، الفلسفة تأتي دائما فيما بعد. ولكني أعتبر أن المهتمين بالفلسفة قد ينزاحون عن مهمة الفلسفة كما حدث في المغرب. فإذا رجعت إلى البحوث التي أعدها الطلبة قبل مرحلة منع الفلسفة، ستجدها أعمالا حول البنية الفوقية والبنية التحتية، والصراع الطبقي إلخ. وهي حُمّى عالمية واكبت انتشار الماركسية في ذلك الوقت، مما جعل الدولة تمنع الفلسفة. وهكذا الفلسفة ضلت عن أهدافها واقتلعت من جذورها وعرضت نفسها للمنع بسبب هذه النزعة الماركسية التي اجتاحت العالم آنذاك.
* حاوره: محمد جليد