عندما وقف أمام الشباكي في قامة التحويل الضيقة ..ونظر إليّ نظرة قلقة ..متعالية نوعا ما ..ولكل نظرة متعالية عندي حساب لا يحوّل اطلاقا !لقد أوحت إلي نظرته هذه بعدم اتاحة الفرصة له لينعم بلقائي على صعيد الكرامة والمعاملة ..لن يتم له ذلك معي بسهولة على أيّة حال ..والحال ...! اللقاء معي صعب ...و قد كان وقوفه أمام شباكي صعبا حتى بالنسبة إليّ لأنه كان في غير موعده ..وأنا ممن يحترم الموعد في الوظيفة ..أعني فتح الشباك .زأما الشروع في العمل فشيء آخر ..هناك دائما تراخ ومهلة ..!والمجيء قبل الموعد و..طلب انجاز المعاملة مضايقة للموظف ..وتفتيت لرأسه وأعصابه ..!!
لكن أعصابي أنا قوية إلى حدّ ما ، قويت بحكم التعود والممارسة والضغط .. وزادتها الأيام قوّة..ومع ذلك كثيرا ما أتضايق من غباء فئة من الزبائن وإلحاحهم ..وكل إلحاح ثقل وغباء !لهذا لم يكن من الممكن أن ألتقي معه في وجهة نظري ..!!فقد كان يحمل أوراقا كنت قد طلبتها منه قبل ما يزيد من شهرين ..قضاهما في جمع هذه الأوراق ولا شك ..قد تسألون ماذا كان يطلب منّي وما هي طبيعة رغبته ؟الحق أنّه كان يطلب تحويل مبلغا من المال إلى ابنه ..الذي كان يدرس خارج الوطن ..ولا فرق عندنا بين من يدرس داخل الوطن أو خارجه ..فالوثائق وثائق ..كنت قد أدركت مسبقا أنه لا يعلم أن تحويل العمر قد يكون أيسر من تحويل العملة الصعبة ..بعد المآدب الفاخرة هنا .. وهناك !!وهذا لا يمنع من أن يكون تحويل العملة طريقا إلى تحويل ...العمر .. ..!!!
وقدم لي عند حلول الموعد ..شهادة مدرسية وشهادة برائة الذمّة و..من المنحة .._فالتحويل مع المنحة ..جنحة!! _ وكان إلى جانبها شهادة سكن وبطاقة الحالة المدنية ..وكان عليّ أن أدرس مع زميل لي هذه الوثائق التي تتعلق بالعملة الصعبة ..ومثل هذا التحويل أمر خطير طبعا ..رغم أن قانون المالية يسمح به ضمن حدود معيّنة _كما تعرف القانونية المتأدبة في منتداكم_وخلال ذلك كان ينتظر جوابي بصبر نافذ ،بل لعلّه كان ينتظر البدء في اجراء المعاملة ...وغمرتني الغبطة عندما عثرت على أوّل اعتراض على الوثيقة الأساسية !!الجمع بين وثيقتين في وثيقة واحدة لا يصح حتى ولو كانت الوثيقة عن بلد متقدم ، فأيسر من ذلك الجمع بين وظيفتين أو عدّة وظائف في بلدنا !!
التقدم لايعني في نظري تبسيط الأمور وتسهيلها كما لا يعني التطرف ..فمن التطرف مثلا في الوظيفة الجمع بين وثيقتين في ورقة واحدة ..فالموظف له قانون ..بل له قوانين يستضيء بها ..ويسير على نهجها ولو كان لسيره هذا طبيعة خاصة ..وإذا كانت هذه القوانين غامضةفي كثير من الأحيان ..عندنا وعند غيرنا على حدّسواء ..فان الغموض في الواقع مرونة ..غير أن هذه المرونة لا ينبغي أن تصل إلى حد الجمع بين الواثائق والصادرات وكل أنواع المستندات الرسمية ....وإلا أصبحت المرونة تطرّفا ..أنا مع التطرف في كل شيئ _ أعني المعاملات _إلا في المعاملات المصرفية التي أقوم بها وأمارسها يوميا في أوقات محددة ..
واستقر رأينا ، أنا وزميلي ،ولا أقول زميلي وأنا ..فذلك تعبير غريب أوّلا على ما فيه من ايثار .... والأثرة عادة محمودة ...وأنا المسؤول في الشباك ثانيا ..استقرّ رأينا على رفض الطلب ..رفض تحويل المبلغ المسموح به شهريا ..وناديته .. وناديته عدة مرّات ..لأنه كان قد ابتعد في تعاليه وثورته وغيابه ..مع أفكاره في القاعة الضيّقة ..كان قد أثاره الانتظار ...الانتظار وحده ..ولم يكن يبدوا عليه أنه تعلم الانتظار ...الذي أصبح أكثر من ممارسة طيّعة ..لقد أصبح هو الذي ينتظرنا في كل مكان نتجه إليه في أوقات النهار المتباينة ..نحن أحياء بوجوده ..وهو حي بوجودنا في المكان والزمان ...والفرصة ،وقلّما يخلف عهده ووعده ..!!
وحضر بعد أن تنبه إلى الصوت الذي يناديه ..وظهر وجهه على الشباك ..وما كنت أتمنى في ظرف آخر حضوره ولا ظهوره ..ظهر بكل تعاليه ..وقد يكون هذا التعالي فيه طبيعة مكتسبة ..فرميت الأوراق أمام وجهه فوق سطح شباكي ..وهل الشباك شيء آخر غير السطح ..؟ الشباك يتلق الأوراق فوق سطحه ليتم فتحها وتسطيحها فما من مواطن متعال ، وقد يكون غير مواطن ..ألا يسطح هنا على شباكي وعلى شبابيك أمثالي ..هناك ..فيبدوا له تقدمه بأوراقه ووثائقه سطحا عموديا .. وسطوح الشبابيك تقاوم ..مثل السطوح الأخرى ..الأمطار العواصف والرعود ..و مختلف الردود والسلوكات البشرية ..ونفرح بلقاء كل مواطن مسطح ...!!
ودفعت الأوراق برؤوس أصابعي نحوه ..لأنه لم يلمسها وظل ينظر إليها في ذهول و..غياب... !!وقلت له بصوت واضح .. ومصدر قولي _ كالعادة _ القانون طورا و الاجتهاد والمرونة طورا آخر وفقا للتفهم و.. الرغبة !!قلت له هذه الوثيقة ليست مشطّرة ..ولم ترق لي هذه الكلمة ..كلمة التشطير ..فأوضحت إنّها ليست منفصلة ..هي ..يعني الوثيقة ..تجمع بين شيئين لا يجوز الجمع بينهما ..فالقانون لا يسمح بالجمع بينهما ..ولهذا يجب أن تصبح هذه الوثيقة الواحدة وثيقتين ..اثنتين ..عليك أن تفصل بينهما ..لا ..لا ...لا فائدة من الاعتراض ..يهمّني أن تكون هذه الوثيقة في الطرف الآخر من الدنيا ..القانون في هذه الحالة _ومع الحالات الأخرى_ مع الانفصال..الشهادة المدرسية _ وأنا أكلمك بالعربية _في ورقة وبراءة الذمة في ورقة ..أخرى منفصلة ..هذا لا كلام عليه ..افصل الورقة واجعلها ورقتين ...و ...مرحبا بك.......وقَبِل الأمر في همهمة ..واستسلم في تعال ..وقد شعرت أنه لم يعجبه منطقي ..ولا منطق قانوني الفردي ..وقانون المالية يبيح يبيح تحويل مبلغ معين دون رخصة خاصة ..إلا أنه قانون أصبح فردي ..وانصرف دون أن يتخلّى عن تعاليه ..ولم يعد إلي منذ ذلك اليوم ...ويبدوا أن استسلامه لقانوني الانفصالي كان .. شهادة ....وأن كنتم تريدون تحويل شيء... يا أصدقائي ...فأنا في الخدمة ...للمعارف أمثالكم لكن لا تتوسطوا لأقاربكم ..أرجوكم ..........