أمد يدي إلى جســد الكتاب كما أمدها إلى جسد غنيمة ، أقلبه بين يديّ ، أمرر صفحاته بين أصابعي ، أقرأ سطرا ، سطرين ، ثلاثة سطور . وأنظر في وجه صاحب المكتبة ، أتقدم إليه والكتاب بيدي ككنز ثمين ، أسأله عن السعر ، يجيبني صاحب المكتبة ، أشعر بشيء من إحباط ، اشكره وأعيد الكتاب إلى موضعه وقد علت حنجرتي غصة ، لكني أواسي نفسي بأن بداية الشهر ليست بعيدة وعندها سوف أقبض راتبي وأول شيء أفعله هو أن أتجه على الفور إلى هذه المكتبة لاقتناء الكتاب .
في بداية الشهر أتناول راتبي وذهني شارد في الكتاب ، أهرول نحو المكتبة وأمد يدي إلى الكتاب ، أتقدم من صاحب المكتبة وأنقده القيمة . للتو أشعر بفرح غامر ، لقد أصبح الكتاب ملكا شخصيا لي ، يمكن أن أضمه إلى مكتبتي العامرة التي بنيتها كتابا كتابا ، شهرا شهرا ، المكتبة التي طالما أنقذتني من أمواج اليأس والوحدة التي كانت تجتاحني خلال أيامي، كنت ألجأ وأنا في ذروة اليأس إلى صيدلية مكتبتي فأمضي ساعات حتى أنسى نفسي ويخف عني اليأس ، وكم من مرة أنقذتني المكتبة من ا الشعور العميق بالعدم ، كانت دوما تخفف عني آلام الروح وتقدم لي العزاء , وتقدم لي المسرة إلى درجة أني أحيانا كنت أطرب وأنا أقرأ في هذه المكتبة المغلقة. .
ها أنا أخرج من مكتبة المدينة والعالم لايتسع حبوري بهذا الظفر الثمين ، وقبل أن أصل البيت أعرج إلى مطعم فآخذ طعاما شهيا ، ثم آخذ شرابا لذيذا حتى أحتفي بهذا الكنز الثمين الذي استطعت أن أحصل عليه . في الطريق إلى البيت وأنا في سيارة الأجرة أضع كل مابيديّ جانبا ولايفوتني أن أتأمل مرة أخرى ظاهر هذا الكتاب ، أتأمل عملية إخراجه ، أنظر في اللوحة واسم راسمها ، أنظر في عدد الصفحات ، ثم ألقي نظرات شوق فائضة إلى أجساد الكلمات فتتحول أمام ناظريّ إلى حياة كاملة ، وعندها أرى بلبلا يحط على شجرة خريف وهو ينظر ،وتتحول الكلمات إلى مناظر والسطور إلى دروب والجمل إلى بحار وأودية وجبال . ،عود إلى حيث ،جلس عندما يشير إليّ السائق بأني وصلت البيت ، أناوله الأجر وأدخل البيت ، أتناول طعامي وشرابي وآخذ قسطا من الراحة فتتهيأ كل ذرة فيّ نحو تلقي صفحات أولية بمتعة بالغة . إني أحافظ على حميمية العلاقة بين ذراتي وذرات النص ، بين حواسي وحواس النص ، أتناول صفحات معدودة وأنصرف إلى شأن آخر ، في اليوم التالي آتي إلى صفحات أخرى ، أغير أو قات تلقي النص، في الصباح الباكر قبل ذهابي إلى العمل بساعة ، في وقت قيلولة الظهيرة ، قبل النوم ، في وقت النوم والسهر حتى الشفق ، وأنام و معي الكتاب في الفراش ، أستيقظ معه صباحا ، أتحول عن فراشي إلى مستقبل . تشرق عليّ شمس النص ، ويهبط عليّ ظلامه وأنا أشعر بلذة روحية بالغة وأنا أتناول الحروف والنقاط وعلامات الترقيم والإشارات والسطور والجمل ، تشرق روحي أمام إشراق النص البهي وأتذكر تلك النصوص التي لم أستطع الوصول إلى صفحاتها العشر الأولى بسبب فقدانها لأي نكهة أو لذة تشجعني للاستمرار، خوائها من أي ومضة إشراق ، أو لحظة حياة ، من عصفور أو حمامة أو جدول أو سمكة . وعندها أكيل عباراتي الخاصة التي حفظتها لكاتب هذا النص وأقسم ألا ّ أقرب من اسمه حتى لو رأيته في صحيفة عابرة .
هاهو النص الثري الذي يضيء ويظلم العالم ، الذي يزلزل الحواس ، ينعش الروح ، ويُجري الدموع من العينين ، النص الذي يجعلني أقهقه بأعلى صوتي ، أصمت بأعلى صمتي ، أخشع بأعلى خشوعي ، هاهو النص البهي الذي يبدل أحوال النفس كما يبدل الزمن فصول السنة .
إنه فنان يعرف كيف يقود الكلمات إلى الأراضي الخصبة والينابيع العذبة الرقراقة كما يفعل الراعي الماهر ، يعرف كيف يمد يديه إلى ثدي الكلمات ليستخرج حليبها ولبنها وزبدتها وقشدتها ويقدمها في أطباق شهية . ياله من فنان ماهر هذا الذي أبدع هذا النص المذهل ، لابد للمرء أن يقتني أي شيء يراه لهذا الكاتب حتى لوكان في صحيفة عابرة .
أنتهي من القراءة الأولى ، ثم أختلي بنفسي أتأمل في كل مابثه إليّ النص ، وأعود إليه كرة أخرى . أفرغ من السطوع الثاني الذي أكتشف في محرابه مالم أكتشفه في السطوع الأول ، أخرج من محراب الكلمات ، أنتظر حينا . ثم أنظر في أمر إعطاء هذا النص الثري حقه من النقد . أرتدي ثياب العوم في منتصف الليل وأقذف بجسدي في مياه النص وأغوص في أعماق مياهه العذبة ، ثم أخرج وأعكر المياه , وأغوص فيها وهي عكرة ، ثم أخرج وأغوص فيها وهي راكدة ، ثم أخرج فأغوص فيها وهي صاخبة هائجة .
إني مع كل سباحة وغوص في لون وشكل أستخرج ما لم أستخرجه من قبل ، وآتي بصيده الثمين بعد كل هذه المراحل ، أشعر من جديد بأني انفتحت على النص مرة أخرى وانفتح النص عليّ مرة أخرى . أنظر في قلمي وفي الصفحة البيضاء وأباشر الكتابة