أحبّ أوّلا أن أقدم نفسي ،وهذا الحب نوع من المجاملة المتحضرة ،لأنني في أعماقي خجول جدا ،رغم أني لم أعرف الخجل قبل ،فقد كنت دائما أعبّر عن أفكاري وعن رأيي في نفسي في ثقة وصراحة تامة ،...وأعبّر عن رأيي في الآخرين .... دون مجاملة! كنت دائما أريد أن أؤكد ذاتي ،والذات عند ذوي الشخصية أساس الوجود ! كنت أريد أن أضمّ ذاتي ..أضع اسمي فوق العديد من الأسماء اللامعة ! وكان هذا بغض النظر ...بغض النظر عن الأعمال الفنية التي تبدعها هذه الأسماء ..ولو كانت في مجال الكيف ...والكيف نوع من الممارسة الخلاقة ! ولا بأس أن يخالفني بعضكم في هذا الرأي .. وهو رأيي على أيّة حال!
أحب اذن أن أقدم نفسي بصفتي .. كاتبا ، والكتابة نوع رائع من الحياة ! وقد تكون هي الحياة نفسها ...كما هو الأمر بالنسبة لي وبالنسبة لمن أعترف لهم بجمال التعبير و... وروعت الكتابة ! وقد وضعت عدّة كتابات ، ولا أخفي حتى عن نفسي أنّني قد وضعتها بشكل عويص مثل أي خالق ،مثل أيّ فنان مبدع ،بل مثل أي عامل يبدع_من فرط حبه للجمال _في مهنته ،ويخلق شيئا ما من كل ما تمتدّ إليه يده الفناّنة..في إطار عمله ! وكل عمل _مهما كان بسيطا_ هو خلق بشكل من الأشكال .والخلق فرحة جذلى لا يعرف حدودها حتى الفنان .. العامل نفسه .
وكان من الطبيعي .. من الطبيعي جدا جدا .. أن أجعل للمرأة مكانا واسعا في ما كتبت،أصنع كما يصنع منتداكم فللمرأة فيه صولة وجولة ، كيف وقد جالت قبلها الخنساء _رضي الله عنها_ حتى حَكَمَ لها صاحب القبّة الحمراء في عكّاض أنّها أشعر الجن والإنس،أما أنا فقد جعلتها بطلة ثائرة ،وفرشت لها قلبي بساطا أخضر تخطر فوقه في دلال وتمنُّع تارة ،وفي تهتُّك تارة أخرى ،وأكثر من ذلك جعلتها نجمة ،تطمح إلى وصالها كل الكواكب ،وكان كل كوكب يعرب – بكل الوسائل-عن رغبته طاغية في أن يكون مدارها في مجال شعاعه ،ومجال الشعاع الخاص دائرة ضيّقة على الدوام !لكنّي منحتها حرّية المدار ، كما منحتها حرية الإختيار ...اختيار الكواكب !إلا أن الاختيار كان مشروطا بحدود دينية ووطنية ...و الوطنية في لغتنا مؤنثة مثل ..نجمة !وفي هذه الحدود استطاعت أن تختار بكل حرية كواكبها ومواكبها السيّارة !
وذات يوم شاء الله ظروفا ، والظروف خارج حدود الجبر والاختيار ،ولها هذه الظروف سلبا وايجابا ! شاء الله أن يجمعني بصديق لي فنان أيضا ، ولكن فنّه يختلف عن فنّي ، على ما بينهما – فنّي وفنّه – من تقارب في مجال الصورة والإيحاء ! اجتمعت معه في مقهى شعبي !_ والظاهر أنّكم أيضا تحتسون القهوة وأنتم في منتداكم التخاطبيّ_أمّا المقاهي الراقية تترك لمن نبذهم الشعب في حالة مخاضه ..الشعب وحده طريقنا _نحن الكتاب والخطابيّين_ إلى الفن ،كل فن واع يعرف مواقع خطاه بكل دقّة ، وكل فنّ يفقد أصالته وتضيع منه قيمته حين يبتعد عن الشعب ويهيم في الآفاق البعيدة عنه الآفاق التي تصب في نهر الخيال والوهم ...هذا إن لم تصب في عالم اللامعقول !
والعالم المعقول كان تحت تلك الفترة ،و الفترة رحلة فنيّة بشكل أو بآخر ...تبعا للموهبة المتميّزة ،كان العالم المعقول في حوزتي كما كان في حوزة صديقي ، والحوزة نوع من الملكية ،وتعبيرك عن شيء ..و.تصويرك له امتلاك لذالك الشيء ... من الوجهة الفنية على الأقلّ ، ومن ثم كنا في جلستنا تلك بمقهانا الشعبي نتحدث عن نصيبنا من هذا المعقول ...وماذا استطعنا أن نحقق للشعب في أعمالنا الفنية ،وإن صعب على الشعب – لجهله- في كثير من الأحيان أن يفهم فنّنا فهما صحيحا ويدركه إدراكا سليما ،وفي مثل هذا الموضوع يجب أن يكون حديث الفنان !
وبينما كنا في هذا الحديث الفني ،وقد كان فنيّا فعلا ،اقتربت منّا متسوّلة ..ولم تكن تحمل طفلا هذه المرّة وكان اقترابها منّا يعني انصرافنا عن الحديث الذي كنا نخوض فيه ،حديث الأدب والفن والثقافة ، وكم هي كبيرة حاجتنا إلى الثقافة في هذا العصر الصاروخي !وكانت المتسولة قذرة الثياب إلى حد ما ..وإن كانت القذارة لا تدلّ على الفقر في دنيا الكسالى !وكان لها شعر ووجه جميلان جدا!وفي الحين فكرت في نفسي ما أروعها بطلة لرواية !انّها هي الأخرى نجمة لامست كوكبي الأدبي ،والاحساس كوكب يضيء أعماق الكاتب الفنان .
هذا الاحساس يضف إليه تعاطفي مع الفقر ...جعلني أمدّ يدي إلى جيبي ، وكان جيبي خفيفا ،وأخرج منه عشرين دينارا وأقدّمها لها ،فأخذتها منّي دون أن تتغيّر ملامح وجهها ،ودون أن تقول كلمة واحدة ،وكأني لم أقدم لها شيئا !وراحت تنظر إلى صديقي ..مادّة يدها اليمنى نحوه ...ورحت أنظر إليه بدوري ..منتظرا أن يتذكر حديثنا عن الشعب وأن يؤدي واجبه نحو المرأة المتسوّلة ! ولكن صديقي لم يفعل فعلي ...كان له رأي آخر في الموضوع ،لعله استمدّه من قناعته الخاصة ! فقد دعا بائع الورد ، الذي كان على مقربة منّا واشترى منه باقة ورد وقدّمها لها ، فأشرق وجهها واستنار بشكل غريب ،وابتسمت له وشكرته ...وعيناها تلتمعان بحدّة .. ورفع صديقي رأسه وكان فنانا حتى في حركة رأسه ...هكذا خيّل إليّ في تلك اللحظة ،وابتسم ابتسامة عريضة ،وقال لي وهو يتابع نشاط خطواتها المبتعدة :لقد كتبت ياصديقي عن المرأة ولكنّك لم تفهم الوردة .