كرهته ، والكراهية موقف انفعالي لذيذ ،كرهته ..ومع التكرار اليومي لهذه الكلمة تنامت كراهيتي له ..حتى أصبحت أحس حروف اسمه قريبة من فمي ،بل تكاد تكون ملتصقة بشفتي ،رغم أنّ هذه الحروف ، حروف اسمه ،ليست مشابهة لحروف الكراهية ،فكنت أجمعها من مخارجها المختلفة و..أدرجها ،لعجز فطريّ في حركة فكّي ،بين شفتي ولساني ،وأمصمصها مرارا ، ثم انطق بها أمام نفسي..كراهية وقد أرسل ورائها تفلة ! فعندما تكره اسما ،وتكره حتى الحروف التي يتكون منها ،حتى الحركات التي تتوالى عليه نصبا وخفضا _ولا يطيب لي أن أرفعه أبدا _وإمالة ،فان النطق بها يصبح ذا نبرة متميّزة ،ذا نبرة خاصة تماما ،وأكاد أقول ذا نبرة .. لسانية ..تشبه الغناء !
وقد كرهته لأسباب عديدة ، ومن السهل أن يعثر المرء اليوم على أسباب الكراهية ،فكما قد يكون سببها الانتماء والمظهر والمعتقد ،قد يكون كذالك السلوك و الزيّ و التطرّف ،و.. المنصب !ومع هذا فقد ينتابكم العجب والدهشة ، عندما تعرفون أن هذه الأسباب كلها ليست مما يشغل ذهني إلى حد الكراهية ! وقد تعتبرون أن أسبابي أنا غير منطقية وغير صائبة ،ولكنها في نظري أسباب مبدئية و..مبدئية جدا ! والجد لا يخلوا من مبدأ من مبادئ العصر ..أيّة صورة اتخذ ،المهم اكتشاف ما فيه من حق و ..صواب !وأوّل هذه الأسباب أننّي لغويّ ..وكنت أشير إلى هذا من طرف خفيّ عندما تحدثت عن النبرة .. اللسانية ! وهو أدبيّ !
نعم هو كذالك . العقدة إذن أنّه أدبي !ومع أن هناك تعبيرا شائعا ،يكثر استعماله عند مراجعة الأعمال الأدبية ومحاولة تقويمها من وجهة نظر عامة أو خاصة ،قد يمكن اعتباره مصطلحا ،ويتمثل هذا التعبير في عبارة ...اللغة الأدبية مع وجود هذا التعبير فاني أرفضه وأدعو إلى تعبير آخر معاكس له هو ..الأدب اللغوي !اللغة هي أساس الأدب !فلا أدب بدون لغة ،وليس صحيحا أبدا أنّها مجرد وسيلة .هي جوهر كل فكر ،هي للفعل والحدث ماضيا وحاضرا ومستقبلا ،هي بعبارة أخرى وسيلة وهدف في آن واحد .الفكرة الصافية لغة شفافة ! فضاء صحوُ أزرق ...في صحْوِه ..تخطر الفكرة والحركة و ...الحياة !ولهذا فمنتدانا لغويّ لأنه أزرق صحو.
وأرجو ألا يُعترضَ على دعوتي هذه ،فأنا أعتقد أنّها جديرة بكل اعتبار فاللغة ،أيّة لغة كانت تستغني عن الأدب استغناء كليا حين تصبح وسيلة تواصل ...حتى لو اتخذت طبيعة الأصوات المبهمة والدالة على نوع من التفاهم عند بعض الفئات الخاصة ! أما الأدب فأنّه لا يستطيع أن يستغني عن اللغة .وعلى هذا ينبغي أن تكون الغلبة للغة .اللغة أوّلا ثمّ.. الأدب ،ولا أقبل شخصيا بأي شكل آخر من الأشكال الترتيب والتبويب و..التفضيل ! والحقيقة أننا في مستواها اللغوي في غنى عن الأدب ! فالمهم عندنا وجود كلمات ذات نسق لغوي محدد،يخضَع لطبيعة صوتية ،وليس هناك ما يمنع من بلوغه درجة الهمس ! ونحن نفضل الهمس في كثير من الأحيان ،لأنه يخفي هفواتنا... النّحوية، وقد تكون لغوية من حين لآخر !
ويتفرع عن هذا السبب المذكور سبب آخر ،لا أرى _ هنا أيضا_ما يمنع من اعتباره سببا ثانيا وجيها جدا .ولعلكم قد لاحظتم فيما سبق شيئا من الإشارة إليه ،وأعني بهذا أن أكون متخصصا في اللغة و...وكونه متخصصا في الأدب ،هذا التخصص المختلف يتطلب _بحكم الغلبة المذكورة ،ومن الواضح أن الغلبة هنا لغوية محضة ،لا علاقة لها بالأفراد والتكتلات الفكرية والمذهبية والجهوية_أن أكون أنا المسؤول عن المؤسسة ،غير أن الذي حدث هو العكس !لقد أصبح مسؤولا عني ..يتحكم فيّ ..وعلى لطفه لا أتصوره، وهو ملتصق بالكرسي ،إلا متجبرا متعنتا ،..إمساكه بالكرسي وحده كاف لإدانته ومعاداته ومحاربته و...كراهيته !أكره ما يصدر عنه من أوامر ونواه !
و كنت أنظر إليه ، حين يتاح لي _والنظرة إليه إتاحة !_ أن أزوره في مكتبه لأمر ما ، في تحد ،لكنّه لم يكن يهتم بهذا التحدي ،وكأنّه يعتبره جزءا من سحنتي ،ويظل ظهره ملتصقا بالكرسي الأنيق ...لما من صدره من اتّساع ،ولما لجلسته من .. مهابة !هكذا تراه عيناي دائما .و ياله من منظر بشع كل .. البشاعة ،ولم أستطع هضم وجوه ذاك ...فوق الكرسي،وأضحى همّا ثقيلا ،بالنسبة إليّ، أحمله في كل حواسي وجوارحي .كل حاسة فيّ،كل جارحة تحنّ حنينا رهيبا إلى الإساءة إليه ! وكم كان محرقا حنيني هذا ...لا يعرف مداه إلا من جرّبه! وكان أبرز ما فيه جبينه ، ولكم ودّت مقدمة رأسي القوية كسر ذلك الجبين !
ولم تكن له من نجاة في خيالي ،فكنت أضربه في كل مرّة خطر فيها اسمه بذهني ،وأيّ مكان أشعر فيه بوطأة هذا الاسم الأدبي على لسني .. أنا لغويّ مهزوم ؟أواه ،أواه،ما أشد هزيمة اللغة على القلب !فأيّ مدار سلكت أيتها الصاعقة ، خبّريني .. فان الكرسي وصاحبه لا يزالان قائمين ،شامخين ،ماثلين في أفخم مظهر ،وأبهى منظر ،وأبعد ..صيت!لكم جعلتني هذه الاستمرارية في الكرسي أتمنى لو أن لي رقيّ..استحضر بها الرعد والبرق والبرد والعاصفة وأرمي بذلك كله في وجه الألق ..من بعدي المعتاد ! ولما طالت عليّ مدة رئاسته ،تطورت في مشاعري، وليس هناك ما يطور الإنسان مثلما تطوره الأزمات الحادّة ،وكل ما يقلقك إلى حدّ الجنون يعدّ أزمة حادّة .
لقد رفضته مشاعري اللغوية من أساسه ،وأخذت _ بوصولي إلى هذا الرفض ولو أن الرفض ابتذل ..كما ابتذلت الديمقراطية ولم يكد يمر على ميلادها عندنا عام واحد !_أخذت أتهجم عليه بمناسبة وغير مناسبة ،وأنشر الدعايات عنه بكل أصنافها في المحيط القريب والبعيد .أخذت أخترع له أسماء وأهمس بها في آذان الجامعة اللغوية ،ولم أعد أفكر في اسمه الحقيقي ،وهذا في الوقت الذي كان يدعوني باسمي في احترام ويمازحني من لغتي .. الناعمة في رأيه !فكنت أعتبر احترامه لي ومما زحته ..إهانة لي في موقفي العاطفي واللغوي ! وبذلك أصبحت له كراهيّتي له سافرة ، واضحة ، مكشوفة أصبحة كل الأوراق مقلوبة !
ولم يبق لي أخيرا إلا أن أفصل شخصه عن الكرسي ،وهذا البعد ضروري حتى يكون للشجاعة ما يبرّرها . صار وجوده نفسه إساءة إليّ ،إلى درجة أنّ فكيّ أخذ يتناطحان كلما شممت وجوده في المؤسسة ،في الشارع ..باختصار في كل مكان ،وفي لقاء عام حضره وجوده قدرا ..تغلبت على بعدي وهاجمته بحدّة لغوية لم يكن يتوقّعها ،فثارت أعصابه وشرايينه ،...وانهار انهيارا أدبيا حقا ..وفرحتي تقتفي انهياره في .. كراهية !
فهل أدبيّ في منتداكم ينتقم ؟؟؟؟؟،ام أنكم لغويون مثلي