لم يبق في حياتنا ما يدعوا إلى العجب ،فقد أصبحت الحياة نفسها عجبا ،ولا سيما بعد أن كثرت عندنا الدهاليز والمغارات ،..أعني الأحزاب والجمعيات ،ومن يدرك ياترى ظلمات الدهاليز ومتاهات المغارات ،..مع مالها من من مواقع ،، ومع مافيها من وخم ،و رغم ذلك دعوني أخبركم بأمر قد يغدوا من الثوابت ،...لما بين البدو والغدو من علاقة ..والواو تجمع بين الكلمتين أصلا ،..وعطفا ،فلا شيء في عرفنا يبدو ولا يغدو،لأننا كنا نتصور الخلاص و الحرية شيئا آخر،وإذا الأيام تظهر شيئا آخر وهذا الشيء الآخر سعادة لي وشقاء لك ،كراهية لي وحب لك ، والعكس فس كلت الحالتين صحيح كلّ الصحة ،...صحة الأزمات التي نعيشها معا جنبا إلى جنب !
وهذا الأمر الذي أريد أن أحدثكم عنه ،إن كنت ممن يرغبون في مواصلة الإستماع لحديث ما ،هو أن أمام بيتي ، وقد شاء الله أن يكون حظي بيتا وظيفيا ،...والوظيفة قيد بالنسبة لمثلي ،وكل من يدعوا إلى جملة مفيدة وحرف نبيل مثلي ..في الوظيفة ،قلت : أمام بيتي مطبة قديمة ،تقع أمام المدخل تماما، ورقم المدخل ثلاثة عشر ...! وهذا الرقم من الأعداد التي يتشاءم منها بعض بني آدم ،..سيان كانو من الوزن الثقيل أم من الوزن ...المريّش !و أعترف أنّني ،حينما انتقلت إليه بعد احباطات متتالية ،لم أعتبر نفسي كامل الآدمية ، فالمحيط في بعض مراحله يُفقد الانسان كل شيء حتى آدميته ،ويفرض عليه_ وخاصة اذا كان يجنح إلى السلم ...!_، أن يعتبر نفسه أقرب إلى ما دون ذلك ،!
وليعلم من يحب منكم أن يعلم ، والعلم طريق الفهم والادراك العميق كما هو طريق الادراك السطحي ،أن بيتي ليس دارة ، وانما شقة في عمارة ،أصبح مدخلها وما يليه شبه محنط ،وذلك لما يوحي به من وحشة في النهار ،لا تماثلها إلا وحشة ممرات قبور الروم،...والروم مصدر يمزقنا في العصر الحديث ،كما كانت مصدر انقسامنا في العصر القديم ،شرقا وغربا ،سهلا وجبلا ،بداوة وحضارة ..!
_ ولما يوحي به من ظلام ، لا يشبه إلا ظلام الجهل بلغة العرب وتاريخها ،و ...حضارتها !فقد فعلت الأيدي بالمدخل ما فعلت ،... الأيدي الملازمة له والأيدي الغريبة عنه ،....وعبثت حتى بحاجزه وسلّمه وقضبانه الحديدية ،وكأنها صنعة من مادة رخوة !
وكانت المطبّة وهي أساس حديثي _ومن حقكم أن تفهما منها ما تريدون _صغيرة .. في حجم عيني ،أو عينك أنت ،لا فرق اطلاقا ،لابد أن يكون الأمر كذلك ،ولكني لم ألحظ وجودها ،وهنا يكمن الخطأ الذي نرتكبه في معظم الأحيان ،فنحن نوجّه اتّهاماتنا دائما إلى الأشياء الكبيرة ...ونعتبر الصغيرة عديمة الجدوى ،خالية من كل خطر ،بل قد نعدها من المحقرات ،وهكذا لم ألحظ وجودها إلا حينها اتخذت شكل حفنة ، وللحفنة تاريخ ،...ولها ماض عندي ،فأنا إنسان يعيش ماضيه كله ،ويتحك معه فكرة فكرة ،وخطوة خطوة ! فقد كنت في وقت مضى _بَعُد عني وعنكم بمختلف أشكاله الفعلية _... كنت أعيش على حفنة شعير ،وحفنة ذرة ولا أقول حفنة القمح _ دامة نعمته _فقد كان القمح آنذاك عزيز المنال ،... وأما جيلنا فقد كاد ينسى معنى الحفنة .
وذات يوم وقعت رجلي في الحفنة ...سقطت رجلي اليمنى في مطبّة ،ابتلعت الحفنة كعبها وولوته ليّا خاصا ،ولعلّ ذلك حدث لي لأني_ كما قلت _ مرتبط بذكرى الحفنة ، !وكانت نتيجة تلك الواقعة أنّي قضيت حوالي شهر ونصف مع الحكة ،..الجبس في ساقي كلّها ...من الركبة إلى جذور الأصابع ،وما هي بحكة لذيذة ،لا سيما وأن الأصابع اليدوية لا تصلها ،ومن ثم كان لابد أن تمد المسطرة في بطن الجبس البارد ،....للوصول إلى نوع من الارتياح يحدث في غضون الكتلة الجبسية ! وشكوت باسمي الدافئ فقد كان لاسمي في الحيّ دفؤه ،وباسم جيراني ،ومن الضروري أن يكون للمرء جيران ، قلت :شكوت إلى مسؤول الحيّ ،ثم إلى رئيس البلدية ،ثم .. وثم ..!وظل رئيس الحي حيا ومسؤول البلدية بلدية .....!
وتآكل البلاط في أثناء ذلك من آثار الحفنة ،فأخذت تتسع شيئا فشيئا ، وتمتدّ في كلّ الاتّجاهات ،...وتسرب الحفر إلى ما تحت المدخل نفسه بهدف الوصول إلى أساس العمارة و...جذورها ،وعدت مرّة أخرى أتصل بأصحاب النفوذ ، واتصل الجيران كل من جهته بمن يعرفه من قريب أوبعيد وبمن يعرفه بواسطة ،وحصدنا كل من جهته أيضا ،ملفا من الوعود ،...اتسمت في معضمها بالجدّ والاهتمام ..و مسؤولية ،وتوالى الحفر والفرم والتعقير ،الأرجل تحفر عند كلّ خطوة تخطوها ،والأمطار تتجمع في الحفرة ..بل في البركة لتعمق الأغوار ،وتبسط الآفاق ،والأطفال يطوفون في جنباتها بأحذيتهم المطاطية ، يقفزون إلى داخلها حينا ،ويرقصون في وسطها حينا آخر لاهين ،ضاحكين مسرورين بلعبة الماء العكر .
ولم أكن أتوقع طبعا أن أكون وحدي في الجبس !فهذا متعاون أجنبي ..قاده القدر إلى المدخل للبحث عن زميله له ،فوقع وهو يحاول تجنب البركة ،والتوت رجله بشكل محترم ،وهذا مواطن يأتي لزيارة صديق من أصدقائه فيتعثر هو الآخر ،فيحمل في سيارة إلى بيته بل إلى المستشفى مباشرة ،وهذا دبلوماسي عربي يزور أسرة يعرفها ،فيقع وهو يغادر المدخل ،ويصطدم وجهه بجدار حانبي ،ويتلقى صدمة قوية في حاجبه ،تستلزم نقل÷ إلى المستشفى كذلك ،وهذا ... وهذا ... وذاك .. وذلك ..,,,فقد ازدادت البركة شراهة عندما سدت المدخل تماما وملأها الأطفال بحجارة في حجم حفنة أيضا ، ومن ثمة سرعة انتقالها تحت الأرجل ،الباحثة عن مستقر لها ،لقد مر ّ على ذلك سبعة أشهر ،، من السهل أن نعدّها سبع سنوات ،فهي بالغة ذالك ولا ريب ، فالحفرة حفرة والموقع مطبة ، وباب الزيارة مفتوح لكل .. راجل ...وخاصة يا أصحاب منتدى التخاطب والخُطبة !!!!!!