منهج التربية الصوفية وأهدافها.
- 1 - منهج فلسفة التربية الصوفية.
- 2 - القيم التربوية في التصور الإسلامي.
- 3 - القيم التربوية في التصور الإسلامي.
- 4 - القيم التربوية في التصور الإسلامي.
1 - منهج فلسفة التربية الصوفية:
من الطبيعي أن يختلف أي منهج تربوي عن الآخر لاختلاف فلسفة التربية ذاتها عبر العصور التاريخية، ويرجع ذالك إلى اختلاف المصادر التربوية.فمن خلال دراستنا للنسيج الصوفي،الإسلامي نجد أن الإنسان يرتبط كاملا بالكون الذي استخلفه الخالق عليه، كما يرتبط ارتباطا أيضا بخالقه الذي وجهه بمنهجه الذي نزله على رسوله عليه الصلاة والسلام للقيام بالرسالة التي خلق من أجلها،وعليه يقوم بتحطيم كل الحواجز التي تعيق رسالته وتمنعه عن القرب من الله.هذه الحواجز تتمثل في الشيطان وأفعاله وأساليبه. وعلى طريق هذا النسيج الصوفي الإسلامي قام أئمة الصوفية بتربية مريديهم .
المنهج الصوفي هو المنهج الذوقي الذي يقوم على المجاهدة والتربية الصوفية التي وضعها الشيوخ للمجتمع الصوفي فيما بين بعضهم بعضا تدريبا على إنكار الذات إنكارا تاما للوصول بالأعمال كلها إلى المحبوب سبحانه وتعالى.لذالك كان المنهج الأجدر بالإتباع في بلوغ السعادة هو قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود.فمن ذاق عرف ومن لم يذق لم يعرف.وبجانب ذلك لم يهمل الصوفية المنهج النقلي،وهذا المنهج هو منهج السلف الصالح القائم على الأخذ من الكتاب والسنة.وقد وضع منهج التربية الصوفية ليحقق ما ترمي إليه الجماعة الصوفية من خلق جيل قوي ذي شخصية مؤثرة في العالم الإسلامي.فالمنهج استمد قواعده وأسسه من العقيدة الإسلامية متمثلة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولهذا فإن المنهج شاملاً في مفهومه، وعمليا في تطبيقه على الجماعة الصوفية.
اهتم المنهج بالفرد الصوفي اهتماما كبيرا فوضع النظم التي تعمل على تهذيبه خلقيا وروحيا وعقليا،كما وضع المواد الدراسية التي تتماشى مع استعدادات وميول وقدرات وحاجات الطلاب،وراعى في منهجه الفروق الفردية بين جماعته،وعمل على التوازن المنشود بين متطلبات الحياة الطبيعية الإنسانية وحاجات كل من العقل والروح،ولم ينسى المنهج الإمكانيات الجسدية،وعمل على تنميتها حتى يقوم الفرد الصوفي باكتساب قوته وقوت أسرته،أو يشارك في الجهاد الذي فرضه الله على المسلمين،كما يربي المنهج الصوفي الفرد بصفة خاصة على الاندماج مع الناس والأشياء ارتفاعا بمستوى حياة الإنسان إلى أفق رباني أرحب وانطق وأكمل . (1)
هناك منهجان من مناهج التربية الصوفية:أولهما منهج اختياري وثانيهما منهج اضطراري
أولا: المنهج الاختياري: هذا المنهج يضع الشيخ خطوطه،إذ يحرم الطالب من الماديات حرمانا تدريجيا ويدور هذا المنهج حول أربعة أشياء قالوا أنها أركان التربية الصوفية وهي '' الجوع، الصمت، السهر، العزلة.''
يمتدح الصوفية الجوع لقولهم: فما صار الأبدال أبدالا إلا بخصال أربع : منها إخماص البطون ذالك أن الجوع يؤدي إلى صفاء القلوب ونفاذ البصيرة،فيجد المريد لذة المناجاة وحلاوة التعبد فضلا عما في الجوع من لذة النفس وكسر الشهوة .
فالصمت منام العقل والمنطق يقظته،ولا منام إلا بيقظة ولا يقظة إلا بمنام.ويرى '' بشر الحافي'' أن الصبر هو الصمت،وأن الصمت من الصبر،ولا يكون المتكلم أورع من الصامت،إلا رجل يتكلم في موضعه ويسكت في موضعه،وقد قال بعض السلف:تعلمت الصمت من حصاة جعلتها في فمي ثلاثين سنة كنت إذا هممت بالكلمة تلجلج بها لساني فأسكت.ولقد كان الصديق رضي الله عنه يضع حجرا في فيه ليمنع نفسه من الكلام. والصمت قسمان : صمت اللسان عن الحديث لغير الله،مع غير الله،وصمت القلب عن كل خاطر في النفس في أي كون من الأكوان،فمن صمت قلبه ظهر له سره،وتجلى له ربه، فإذا لم يصمت مع اللسان فهو يتكلم بلسان الحكمة،ومن لم يصمت بلسانه ولا بقلبه كان مملكة للشيطان،ومسخرة له.
ويقول ابن عربي عن الأبدال:السكوت حلية الأبدال،وملازمة البيوت ضرب من الخلوات والاعتزال والسكوت من المحال.فلابد من نطق على كل حال.وليس من البيان حركة اللسان،فإن لسان الحال أفصح وميزانها في الإبانة عن نفس صاحبها أرجح وملازمة البيوت عن النطق بلسان الحق وعن السهر يقول الإمام أحمد '' النفس سلاحها النوم وسجنها السهر ''. (2)
وورد في صفة الأبدال '' أكلهم فاقة ، ونومهم غلبة '' ، والسهر أخو الجوع تلازما ، وإبنه تولدا .
أما العزلة فهي ركن من أركان التربية الصوفية، لذلك يتبقى على السالك أن يلزم العزلة ليستظهر بها أعدائه.وهي نوعان: فريضة وفضيلة. فالفريضة: العزلة عن الشر وأهله، والفضيلة: العزلة عن الفضول وأهله.
وقيل الخلوة غير العزلة،والخلوة من الأغيار،والعزلة من النفس وما تدعوا إليه وتشغل عن الله.وقيل:السلامة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت وواحد في العزلة.وكما قيل: أعداؤك أربعة: الشيطان، وسلاحه الشبع وسجنه الجوع، والهوى، وسلاحه الكلام وسجنه الصمت؛ والدنيا، وسلاحها لقاء الخلق وسجنها الخلوة؛ والنفس، وسلاحها النوم، وسجنها السهر.ولا شك أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الجوع والصمت والخلوة والسهر والتي أوضحها المنهج الاختياري الذي يضع الشيخ خطوطه لتربية المريدين.
ثانياً : المنهج الاضطراري : هذا المنهج لا دخل للطالب فيه،ويكون ذالك حينما يقوي يقينه بجدوى سلوكه الجديد،ويذوق من الوجدان ما يدفعه إلى معركة سافرة يخوضها مع المادة راغماً ودون وعي،يخوضها وقد فقد الشعور بالألم ،ولم يحس سطوة الحرمان، ولم يبال بشيء من الترهات المجتمعية التي توشك أن تشده إلى الحضيض .
وهذا اللون من الطلاب هو المعروف في عرف الصوفية باسم '' المجذوب '' أو المأخوذ أي الذي دفعته قوى عليا سامية إلى سلوك ترضيه تلك القوى المقدسة لتحرره من نفسه ومن تقاليدها ومن خداعها.ولتكشف له عن حقيقة الحياة خالية من الزيف بعد أن أنكر ذاته وسخر من خداع نفسه ونفوس الآخرين.ويجدر بنا أن نوضح أن سلوك المجذوب هذا ليس مرض،مهما نطق المأخوذ بخداع النفس رغم أن عوارضه تتفق تماما مع عوارض الأمراض النفسية،وذالك لأن هناك فارق بين المصاب بالعُصاب وبين الصوفي، العصابي ناقم وساخط على المجتمع وعلى نفسه،بينما الصوفي تغمره السعادة من كل جوانبه،محب لمجتمعه،بل وللحيوان والجماد،وكل مظاهر الوجود،فالعُصابي مكتئب لفقد كماليات الحياة أو لفقد حبيبة حسناء أو مركز مرموق،أما الصوفي فيعتبر فقد هذه المظاهر هو عين العطاء والسعادة واليقين،ويكتئب هو الآخر ولكن سيره يكون نحو المحبوب الأقدس ليس كما ينبغي لمثله من الطامحين إلى المثل الأعلى فيصاب حينئذٍ بعوارض الحب،كما أن العُصابي يعيش في مجال الطين والصوفي يعيش في مجال الروح،العُصابي يُردد كلمات الحزن والأسى، والصوفي يُردد مواجيد الوجد والأمل والرجاء والسعادة في كلمات هي حقائق العلم الأعلى،العُصابي يقول لو علم الناس ما أنا فيه يبكون علي بدل الدمع دماً، والصوفي يقول لو علم الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف.
من أجل تلك الفوارق لم تكن تلك العوارض التي تشبه عوارض المرض النفسي مرضا عند الصوفية،وإنما هي سلوك إلى المعرفة،وعلى العالم النابغ من الذات من عالم الغيب الأقدس.
وللتربية الصوفية قواعد يسير عليها السالك إلى الله تعالى يمكن حصرها في خمسة فيما يلي: (معرفة المعبود، الرضا بالموجود، الوقوف على الحدود والوفاء بالعهود، الصبر على المفقود). (3) ويحقق المنهج الصوفي بصفة خاصة عبودية المسلم الصوفي لديه حتى يصل من خلالها إلى إيجاد قلب نظيف مفتوح لا منطوٍ على نفسه محباً لربه.وبدون القلب المتفتح يكون الفرد الصوفي قد أوجد حاجزاً قوياً بينه وبين ربه، أطلقت عليه الصوفية اسم '' الغفلة التي تؤدي به إلى الشهوة والكراهية والتدمير،فيعيش في تلك اللحظة بنفسه عاجزاً عن مشاركة الآخرين،وبهذا تتغير حياة الإنسان عما فطرها الله عليه .
لقد تعددت المواد الدراسية ووضعت بطريقة مترابطة وقسمت إلى عدة أنواع منها ما يشمل القرءان والسنة،وآخر يشمل التعرف على حياة الرسول ونسبه وبعثته وحروبه مع الكفار،ونوع يخص الصوفي في صلته بربه في علوم عدة منها علم التوبة وعلم الذكر وعلم الخوف وعلم الحب وعلم الورع والشكر والصبر والإخلاص وعلم الطهارة وقد سمت الصوفية هذه العلوم بالمقامات،والنوع الأخير يهتم بالتربية الخلقية والتي أفرد لها المنهج الصوفي جانبا خاصاً . (4)
وتنمي المواد الدراسية الصوفية القدرات الروحية والعقلية لكل سالك في المدرسة الصوفية،ولهذا وضعت في المنهج عدة مراحل مختلفة أطلق عليها أئمة التصوف اسم ''المقدمات "
لا يرتقي الطالب من مرحلة لأخرى إلا إذا أقر أساتذته اجتيازه المرحلة بنجاح،هذه المراحل،" المقامات ''هي: مقام الحب، مقام الشهود، مقام الرضا، مقام اليقين، مقام الولاية ، مقام الإحسان ، مقام الصبر.ويقوم كل أستاذٍ بوضع القواعد والأُسس والتنظيمات لطلابه في هذه المراحل.فإن اجتازوها شهد لهم بذالك و أقر بما توصلواْ إليه لهذا اهتم المنهج الصوفي بتنظيم الحياة اليومية للصوفي.
2 - القيم التربوية في التصور الإسلامي:
لمسنا من خلال الفصل السابق الإطار التصوري الذي يتحرك في أرجاء القيم التربوية الإسلامية،ورأينا أن القيم التربوية الإسلامية لا يمكن أن تنفصل عن الشرع،فهي بالشرع تقوم وتُعطي أكلها، وبغيرها لا يقوم لها كيان ولا ينتشر لها إشعاع في دنيا الإنسان.إن الأمة الإسلامية قد جاء عليها حينٌ من الدهر،فقدت فيه ارتباطها بذلك المعنى الخالد من القيم، في زحمة الصراع الحضاري الذي أفلتت فيه الزمام .
والواقع أن القيم التربوية الإسلامية لها تصنيفات تختلف حسب موقع أصحابها ووضعهم في مسألة الاعتقاد أو الرؤية التي ينظرون من خلالها إلى العالم،رغم ما هنالك من بعض القواسم المشتركة.إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالرؤية الإسلامية،فإن الباحثين الذين ينتمون إليها،يتفقون في جوهر التصنيف مهما اختلفوا في الملامح والخطوط الشكلية.ويسوق الباحثين هنا مثالاً عن أحد التصانيف المستعملة أورده الأستاذان:عبد الحميد الهاشمي،ود، فاروق سيد عبد السلام،في بحث لهما عن '' البحث القيمي للشخصية كما ورد في القرآن الكريم ''،كأساس لتصنيف القيم الموجودة. لقد صنَف الباحثان القيم على مستويين :
الأول: تصنيف ثلاثي، يمثل الأبعاد الثلاثة الرئيسية، وهي القيم المتصلة بعلاقة الإنسان بربه، وتلك التي تتصل بعلاقة الإنسان بنفسه، والتي تنظم العلاقة بين الإنسان والآخـــر.
الثاني: تصنيف سداسي، يصنف القيم تبعا للأبعاد الست التي ينقسم إليها أي بعد من الأبعاد الثلاثة السابقة وهي:"البعد الروحي والبعـد البيولوجي،البعد الانفعالي والبعد العاطفي،البعد السلوكي والأخلاقي،البعد الاجتماعي الخاص والعام."وبهذين التصنيفين معاً، توصل الباحثان إلى ثلاثين قيمة أساسية، من ضمنها القيمة الإيمانية.
ويقصد بالقيمة الإيمانية تلك العقيدة المتكاملة التي يتحرك بها المسلم في مجال الحياة، عابداً لربه ومجاهداً في سبيله،وساعيا في الخيرات بإذنه، وهذه العقيدة،إيمانٌ وثيقٌ بالله لا يتزعزع،وثقة تامة في عدله وقضائه ، وتصديقٌ شامــلٌ بكتبه ورسله،ومعرفـة يقينية باليوم الآخر على نحو ما ورد في القرءان الكريم والسنة المطهرة.والإيمان الحق بالله عز وجل،لابد من توفره على معرفة حقه بصفات الله تعالى،وإلا ما كان إيماناً ولا كان معرفة بالخالق جل جلاله.ولإيضاح هذه المسألة يضرب عليها مثالاً ساقـه '' أبو عمران ''، في القيروان،وذلك عندما أثيرت أمامه مسألة الصفات،فطرح السؤال:هل يعرف النصارى الخالق ؟ فأجاب بعض الحاضريـن بالإيجاب، وأجاب بعضهم الآخر بالسلب وطلب من أبي عمران قولٌ محكم في ذلك.فقال مجيباً:لو سألتم عني رجلاً: هل تعرف أبا عمران؟ فقال رجلٌ طويلٌ يبيع التمر في سوق ابن هشام بالبصرة، هل هذا يدل على معرفة هذا الرجل بي؟قالواْ:لا، لأنهم وصفوك بغير صفتك، فقال: إذن الذين يجهلون الصفات هم جاهلون بالموصوف، فالذي ينسب لله العجز والجهل لايعرف الله عز وجل.
فالإيمان بالله تعالى لا يكفي فيه أن نؤمـن باللـه موجوداً...ويُريد هنا أن يُلح على الأهمية القصوى لهذه المسألة في درس العقيدة في مؤسساتنا التعليمية والتربوية،حتى نكون أمام نشء لا تنطلي عليه خدعة اليهود والنصارى عند قولهم بأنهم يشتركون مع المسلمين في العقيدة،والحال أن الهوة التي بيننا وبينهم كالتي بين السماء والأرض،فشتان بين من يصف الله عز وجل بصفات الكمال كالقدرة والعلم والإرادة والحياة ... الخ، وبين من ينسب لله عز وجل العجز أو ينسب إليه الولد. (5)
إن الإسلام بمجيئه بعقيدة الإيمان بالله،بذالك الوضوح و تلك الدقة والبساطة في نفس الوقت قد شكل نقلة واسعة للإنسان من حياة التشتت في العقل والنفس،إلى حياة بطبعها التماسك والوحدة والانسجام والتناغم بين كل مكوناتها، بل إن الشعور الذي ينتاب الإنسان الذي يعيش في أجواء هذه العقيدة هو في أعلى درجـة من السمو .
إن خيوط هذه العقيدة تضرب بإشعاعاتها في كل اتجـاه، وتفجّر فـي الإنسـان كـل مكنوناته لتجد فسحتها وانطلاقتها في كامل أرجاء الوجود. فما كانت هـذه العقيدة لتظل متحجرة فـي النفوس، جامدة في العقول دون أن تكون لها ثمرات تذاق، ومن ثمار تلك العقيدة الربانية، صياغة الروح المنهجية في الإنسان، وهو ما عبّـر عنـه ''د. عماد الدين خليل '' بالنقـلـة المنهجية، تلك التي تكتسي أهمية بالغـة فـي مجـال البنـاء الحضاري.... وقد عبّرت عن نفسها من خلال ثلاثة اتجاهات رئيسية: السببية، القانون التاريخي، منهج البحث الحسي التجريبي.
فالإسلام من خلال توجيهاته على مستوى الاتجاهات الثلاثة حريص على جعل العقل الإسلامي في منأى عن العقيدة العبثية في الكون، التي توصد منافذ إحساسها وإدراكها، وتغمض عينيها عن رؤية السنّن وعلاقة الطاقات الإنسانية بها. فالذي '' لا يرى هذه العلاقة وهذا الارتباط لا يمكن أن يقدر المسؤولية الدنيوية ولا المسؤولية الأخروية، أي لا يقدر المسؤولية الاجتماعية ولا المسؤولية الفردية ''.ولكم جسّد الرسول الأعظم صلوات الله وسلامهُ عليه، ذلك الحرص من خلال دعوته الحارة إلى الوقوف عند ظواهر الكون ، نُعمل فيها فكرنا وتدبرنا بكل إجلال وخشوع، ليزيد إيماننا قوة، وعقولنا توقداً واستنارةً، ونفوسنا عزماً على السير في طريق الله، والمضي على صراطه المستقيم.
وخلاصة الأمر في هذه القيم التي استهدفت الإسلام بثها في كيان الإنسان المسلم،أن الإسلام سعى بواسطتها إلى بناء الشخصية العقلية الذاتية، القادرة على الاستفادة من كل ما زودت به من جوارح و إحساسات وملكات في إطار من الأصالة والمسؤولية،التي تغذيها القيمة الإيمانية بشكل يضمن عصمة الإنسان من الافتتان يفعل ما يتجمع بين يديه من إبداعات أساسها استخدام قوى العقل في تشكيل مادة الكون وطاقاته المسخّرة.و يجرد بنا أن نشير إلى مسألة مهمة،ترتبط بضرورة ضبط حدود حركة العقل، وهي مسألة التفقه الذي هو خطوة عقلية أبعد مدى من التفكير،تجعله متفتح البصيرة دوماً،مستعدا للحوار المسؤول إزاء كل ما يعرض له على صفحة العالم والوجود .
إننا في ضوء المعطيات العقدية الإيمانية والمعطيات المنهجية،مؤهلون لأن نفهم طبيعة الموقف الذي يتخذه الإنسان المسلم من الكون،وكيفية التعامل مع أحداثه وظواهره. فالمسـلمون لا يمكنهم أن ينسبواْ شيئاً للصدفة أو للأقدار العمياء.فالزلازل والجفـاف والكوارث... مهما تكن فواجعها وآلامها من فعل الله، وأنها بإرادة الله تعالى من أجل هدفٍ طيب قد لا يظهر للإنسان في الوقت الحاضر.ومادامت من فعل الله، فإن المسلم لا ينهار أمامها، لأنه يعرف أن الله الذي قدرها وأوجدها هو في نفس الوقت الحافظ الرحيم بعباده.لهذا فإنها في نظرالمسلم ابتلاء يظل دائماً خاضعا لمقتضى القوانين والنواميس التي بثهاالله في الكون ليصل بهم من خلالها إلى مزيد من الثبات و الإيمان والتفاؤل، بالمحصلة النهائية هذا الجانب من العقيدة الإسلامية هو على وجه التحديد ما تحتاجه البشرية في مواجهة المآسي .
3 - أثر القيم في بناء الشخصية الإنسانية:
لاشك أن التصور الذي يحمله الإنسان، ونظام القيم الذي يرتبط به، يترك أثره في سلوكه سلباً و إيجاباً، وينعكس ذلك ألأثر- بطبيعـة الحـال-على سير المجتمع وبناء الحضارة برُمته.والذي سنبينه في حديثنا هذا عن أثر القيم التربوية في بناء الشخصية، هو تلك الخصائص العامة التي يصنعها الإسلام بطبيعة الفلسفة التي يقدمها للإنسان و القيم التي يدخلها في بنائه النفسي، بحيث كل فرد من أفراد المسلمين مهما تكن خصائصه،الوراثية الجسمية،البيولوجية والفيزيولوجية،فإنه يأخذ حظه من الآثار التي تولدها التربية الإسلامية في شخصيته،والتي يصبح بفضلها كائناً يجمعه قاسم مشترك مع غيره من الأفراد داخل نفس المجتمع.
إن أول شيء تثمره القيم في البناء الشخصي للإنسان المسلم هو تقوية صلته بالله عز وجل،إلى الدرجة التي تجعله يراقبه في السّر والعلن،في كل حركاته وسكناته،فهو لا يقدم على شيء إلا وهو يُراعي حرمة الله ويرجواْ له وقاراً.ومعنى ذلك أن المسلم في علاقته بربه،يستشعر الخشية والخوف منه،في نفس الوقت الذي يتوجه إليه بالرجاء.وذلك الخوف وهذا الرجاء يملآن قلبه بشعورٍعارم من التحرر من جميع المخاوف،لأنـه يشعـر بقوة أن الله وحده هو مالك أمره ومقرر مصيره، و إليه يرجع الأمر كله، هو الذي يملك تبارك اسمه أن يضره و أن ينفعه،أما غيره فأسباب عرضية ليس لها من الأمر شيء.وهناك نُؤكد على أن هذه الثمار الطيبة للقيمة الإيمانية،رد قاطع على من يخوضون في الأمور بغير علم ولا كتاب منير،فيدّعون أن أسلوب الدين الإسلامي في زرع الخوف من الله ومن الحساب في الآخرة يتعارض مع بناء الشخصية الحرة النامية المستقلة. فهؤلاء الأشخاص ينكرون ضرورة توفر عنصر الخوف في التربية،لارتباط ذلك بطبيعة الإنسان. (6)
و إذا كانت القيم التربوية و على رأسها القيمة الإيمانية، تترك أثرها في النفس والجسم،طمأنينته وسكينته،فإنها في ترابط عضوي مع تلك الآثار،تخلف أثرها الواضح في عقل الإنسان المسلم بفضل ذلك النسيج المحكم من الحقائق والتشريعات و أنماط السلوك التي يتصل بها كيان المسلم .
إن أثر القيم الإسلامية في الشخصية لا يخصُ جانباً من جوانب النفس دون الأخرى، بل إنه ليهمن عليها حتى لا يدع دقيقة من دقائقها، إن تلك القيم الشاملة لا تجعل المسلم صادقاً في معاملاته وممارساته الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية، متعاوناً فيها على البر والتقوى، عفيفاً معتدلاً في تعامله معها وحسب، ولكنها لتنفذ إلى أعماق نفسه فتغرس فيها رهافة في الحس وشفافية في الذوق والضمير .
وهكذا يتضح لنا الأثر البناء الذي تتركه القيم التربوية الإسلامية في الشخصية الإنسانية،بحيث تصوغها صياغة ربانية تمس كل موطن من مواطنها،وتهز كل وتر من أوتارها،لينخر الإنسان بكل كيانه وطاقاته في رفع البناء الذي أمره الله برفعه،على هدىً من الله.ثم نرى كيف أن القيم التربوية الإسلامية قد صنعت من الأفراد الذين تشبعواْ بها كائنات فذة،تحمل من عناصر القوة والحيوية ما استطاعواْ بفضله أن يواجهـواْ تبعـات الحياة ومشاق السير في دروبها الوعرة.فإذا كان المجتمع ليس في الحقيقة سوى مجموعة الأفراد الذين يتألف منهم،فمعنى ذلك أننا بإزاء مجتمع متماسك البنيان،راسـخ الأركان،سائر إلى الأمام،لأن الإسلام يعتمد في بنائه للمجتمع على أفراد أقوياء النفوس ممتلئين بالعزم والقدرة على الثبات.فكلما كان الطبع الغالب على المجتمع طابع هؤلاء الأفراد الأفذاذ،كلما كانت شبكته الاجتماعية شبكة متينة الإحكام.وهنا نخلص إلى الحقيقـة التي يقررها القرآن في قضية التغيير الحضاري،وهي أن الإنسان هو الأساس في ذالك التغيير.
فإذا كان نظام القيم التربوية في الإسلام يجمع شتات الإنسان ويركز طاقاته وإمكانياته حول مركز واحد هو الولاء لله عز وجل و ابتغاء وجهه الكريم،فإن نظام القيم التربوية المادية يعصف بقوى الإنسان ويذهب به طرائق قدداً،ويلحق بها تشوهات مريعة يتحول معها الإنسان إلى كائن مستلب،غريب عن نفسه وغريب عن الكون الذي يحيط به. فيصيبه الدوار والغثيان،ويشعر بالعبثية وانعدام معنى الحياة.فتفقد الشخصية الإنسانية في ظل القيم المادية صلتها بخالق الوجود،وتنجرف مع تيار التطور والتغير دون ضوابط ولا قيود.
4 - أهداف التربية الصوفية:
أولاً: صفاء النفس: لقد عرف بعض أئمة الصوفية والعلماء ماهية النفس، ونستعرض تعريفاتهم حتى نفهم الدور الذي قام به علماء التربية الصوفية نحو وضع الأٌسس المختلفة للوصول إلى قيام الصفاء النفسي لدى طلابهم.
يرى الكندي: '' أن النفس جوهر روحاني صافٍ بسيط وهي لاتنام ودائماً يقظانة ''
يرى ابن سيناء: " أن النفس جوهر بسيط مجرد من المادة قد قدّر لها الهبوط إلى الجسم المادي من العالم العلوي ".
ويقول القشيري عنها : " النفس محل الأفعال المذمومة، والروح محل الأوصاف الحميدة"
فقد وضّح القشيري بأنها نوعين : روح ونفس ، والنفس غير الروح.
أما الغزالي فيرى أن:" النفس جوهرها مجرد عن المادة وعلاقتها فهي ليست بجسم ولا تحل الأجسام وهي محل المعارف وبه شُرف الإنسان عن جميع الحيوانات وهو مستعد للقاء الله تعالى ".
وطبيعة النفس ميّالة إلى الشرور والآثام، فإن لم تقهر لدمرت حياة الإنسان.فنجدها لا تميل إلى العبادات المفروضة على الإنسان.لأنها تحسبها قيوداً،كما لا تميل إلى المتابعة والمراقبة كما لا تميل إلى المعرفة وحب الاستطلاع حين تشاهد الأشياء لأول مرة فتسأل عنها لتعرف.وطبيعة تكوينها أنها ميالة إلى الإعجاب بالرأي وإلى التظاهر والتفاخر، لهذا فالإسلام يقف منافياً لميولها، فيرتضي ما كان منها طيباً ويرفض كل ما ينافي الأخلاق الحميدة.ومن هذا المنطلق تسعى المدرسة الصوفية إلى إيجاد الصفاء النفسي،وذلك عن طريق المجاهدة الشاقة والمكابدة،لهذا وضعت تدريبات قاسية يمارسها الطالب الصوفي عملياً تحت إشراف أستاذ خبير بطبيعة تلك النفس فيقدم لها الدواء. (7)
ثانياً: الدعوة إلى المعرفة: والهدف الثاني وهو هدف هام تجعله التربية الصوفية في ثيتها ومرادها،وتسعى إلى تحقيقه بكافة الطرق وهو إحراز الحكمة.والحكمة تأتي عن طريق المعرفة،ومصدر الحكمة والمعرفة هو الله سبحانه وتعالى فإنه أردعها سبحانه في الكون و الإنسان،وقد وضّح القرءان الكريم كيفية الحصول عليهما بأن دعا إلى التأمل والبحث الدقيق في الكون والإنسان نفسه،وبهذا الأسلوب سارت الصوفية في تدريس مناهجها الدراسية لطلابها .
ثالثاً: احترام العمل: تدعواْ المدرسة الصوفية إلى العمل المنتج الخير ومضاعفته والأخذ بأسباب القوة،وهذا لا يأتي إلا عن طريق مضاعفة العمل و الإنتاج. سواء كان ذلك في مجال الصناعة و الزراعة و التجارة،وليس عيباً أن يعمل الإنسان جامعاً للحب،وإنما العيب أن يمد يده للناس فإن شاءواْ أعطوه أو منعوه،وقد حث الله سبحانه وتعالى المؤمنين على العمل حيث قال عز وجل : " وقل اعملواْ فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ".
رابعاً:التمسك بالأخلاق الحميدة: وضّح لنا رسول الله الأخلاق وعظمتها في حديث فقال: " الصلاة صلـة،الزكاة طهـر،والصوم جنة،والحج جهاد،والأخلاق تصدق ولا تكذب ".
في هذا البيان القصير العميق المعنى، وضح الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأخلاق تصدق على هذه العبادات وتكذب إن كانت منافية للآداب.ومن هذا كله استوعب المسلمون الأوائل علوم الأخلاق وكان لهم في رسول الله عليه الصلاة والسلام القدرة العملية مستنيرين بقول الله عز وجل: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ". سورة الأحزاب، الآية 21.
وقوله أيضاً :" وما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهواْ واتقواْ الله .... ". سورة الحشر، الآية07.
وبذلك صارت القدوة العملية بالإقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام،والقرءان الكريم المصدر النظري للأخلاق الذي وضح الكثير من أخلاق الأنبياء و أتباعهم.ومن الأخلاق الإسلامية لا يوجد فصل بين العبادات الروحية والمعاملات المادية وبين أخلاق الفرد وأخلاق المجتمع،واعتبر الإسلام كل الجوانب السالفة شيئاً واحداً لا يتجزأ عن أخلاق الإنسان.وقد وضعت المدرسة الصوفية عدة قواعد هامة لطلابها أهمها :
_ أن يحفظ الصوفي أدوات المعرفة كالسمع والبصر والكلام من الانزلاق في الشر والآثام.
_ أن يحفظ أدوات القوامة البشرية من النزول نحو حضيض الحيوانية .
_ أن يراقب الصوفي أعماله ونتائجها فإنه سيحاسب بها عند خروجه من الدنيا على كل فعل وقول وان الدنيا ما هي إلا اختبار لأخلاقه وأعماله.
_أن يحافظ الصوفي على الصلة بينه وبين ربه، وأن يراقب الله في كل عمل يعمله معتقداً بأن البلاء الذي يقع عليه من الحق نتيجة سوء عمله، ويسرع إلى لجوئه إلى الحظيرة الإلهية، ولا تكون النجاة إلا بتحسن الأخلاق.
ولو استعرضنا الأخلاق الأخرى التي أخذتها المدرسة الصوفية وعملت على غرسها في نفوس طلابها بأن يكون الصوفي عفيف اللسان فلا يشتم ولا يسب أحداً،ولا يتجسس على الآخرين ولا يتنابذ بالألقاب ولا يغتاب أحداً ولا يسخر من أحد،وأن يكون نظيف النفس والبدن يقابل الناس بوجه مبتسم.باذلاً كل جهده في طلب السعادة للآخرين مساعداً للفقراء منكراً لذاته...أن يكون ناصحاً أميناً إذا طلبت منه النصيحة ولا يتدخل فيما لا يعنيه ولا يتكلم إلا عن علم أو معرفة،ويطلب من الله أن يزيده علماً .
ويبعد عن أخيه الظلم والفساد ولا يجره إلى الرذيلة،وبهذا يكون الصوفي نظيف اللسان والقلب والبدن والسلوك.
الهوامش:
1 - عبد الحكيم عبد الغني قاسم ،المذاهب الصوفية ومدارسها ، مكتبة مديولي القاهرة ،ط2 ،1999،ص121.
2 - عبد الباري محمد داوود ، المنهج التربوي والعلمي عند الصوفية ، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية الإسكندرية،( ط1) ،2002 ،ص19.
3 – المرجع نفسه ، ص 23.
4 - عبد الحكيم عبد الغني قاسم، ص 122.
5 - عبد المجيد بن مسعود، القيم الإسلامية التربوية والمجتمع المعاصر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الدوحة.(ط1)،1998، ص95 .
6 - عبد الحكيم عبد الغني قاسم ، ص127.
7 - المرجع نفسه، ص ص. 118-117