المصطلح النحوي
المصطلح ، وكذلك الاصطلاح يرجعان إلى الصلح، وهو الاتفاق بين طرفين أو أكثر على أمر معين يكون مقبولا عند كل المشتركين في هذا الاتفاق، والاصطلاح في مجال العلوم يراد به اتفاق العلماء في علم معين على كلمات تدل بمفردها على موضوعات معينة من ذلك العلم، بحيث إن ذكرت الكلمة المصطلح عليه عرف الموضوع بكامله، فالمصطلح بمثابة عنوان لموضوع علمي محدد..
والغاية منه تسهيل البحث العلمي واختصار كثير من الكلمات في كلمة واحدة، لئلا يضطر الباحث إلى تكرير كلمات وجمل كثيرة كلما أراد أن يشير إلى الموضوع الذي يمثله المصطلح العلمي..
ولكل علم من العلوم مصطلحاته الخاصة ومجموع هذه المصطلحات بما تدل عليه من موضوعات وبما بينها من ترابط وعلاقات - يكوّن بناء العلم ومضمونه، وبه قوامه ووجوده، فكل علم من العلوم هو في الحقيقة دراسة لمصطلحاته بدلالاتها وارتباطاتها وتطبيقاتها.
ومن طبائع العلوم أن تمر مصطلحاتها بمراحل حتى تكتمل ويتحدد المراد بها بدقة، وبعض العلوم تستمر المصطلحات في التولد والتكاثر بحسب المستجدات في مجال تلك العلوم وبخاصة في العلوم التجريبية البحتة..
والنحو العربي شأنه شأن بقية العلوم الإنسانية مرت مصطلحاته بمراحل حتى وصلت إلى ما نراه اليوم في المصنفات النحوية المختلفة ..
وبالنظر في نشأة علم النحو لا نجد بين أيدينا ما يوضح لنا المصطلحات النحوية التي وضعت أولا، إلا إشارات تفيد أن علي بن أبي طالب عندما كلف أبا الأسود بتدوين بعض الأصول النحوية، فقد قيل: إن علياً، رضي الله عنه، وضع له: الكلام كله ثلاثة أضرب: اسم وفعل وحرف، ثم رفعه إليه وقال له: تمم على هذا.
وروي عن أبي الأسود أنه قال:
: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا إخوة فلو علمناهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول لم يزد عليه.
لكننا نجد المصطلحات في كتاب سيبويه واضحة مكتملة ، وإن كانت مستعملة في الغالب بلا تعريفات أو حدود كالتي نراها في كتب النحو بعد ذلك.
فسيبويه لم يعرف إلا قليلا من مصطلحاته، ولكنه وضحها بالشرح والتمثيل، فنراه في بداية كتابه يضع حدودا للاسم والفعل والحرف، ويميز بين ألقاب الإعراب وألقاب البناء، كما يعرف لنا المبتدأ والخبر، ولكن بقيت مصطلحات كثيرة بلا حدود أو تعريفات.
وبقي كذلك بعض المصطلحات تستعمل بمعناه اللغوي تارة وبمعناه الاصطلاحي، كاستعمال الحرف بمعناه الاصطلاحي وبمعناه العام الذي كان يراد به أي كلمة سواء أكانت حرفا أم اسما أم فعلا، وكاستعمال الفعل بمعناه الاصطلاحي وبمعناه اللغوي بإطلاقه على المصدر باعتباره دالا على حدث أي فعل.
كذلك بقيت بعض المصطلحات مشتركة بين أبواب متشابهة، كاستعمال الصفة أو الوصف للتوكيد أيضا، واستعمال الحال لبعض أنواع التمييز، واستعمال المفعول به أيضا لبعض أنواع التمييز، كما في قولهم: امتلأ الحوض ماء.
ومثل هذه الظواهر نجدها أيضا في كتاب معاني القرآن للفراء، فالمصطلح عنده لم يبلغ في النضج ما بلغه عند سيبويه مع إنه كان ممن درس كتاب سيبويه، ولذلك نجده يستعمل بعض المصطلحات ويريد بها في كل مرة شيئا مختلفا، كمصطلح القطع، فقد استعمله بمعنى الوقف، واستعمله بمعنى الحال، واستعمله بمعنى المفعول المطلق الذي حذف عامله، وكأنه أدرك أن بعض اصطلاحاته قد تكون غامضة فلجأ إلى تفسيرها، كما شرح لنا مصطلح التقريب عند قوله تعالى: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، فقال:
واعلم أن "هذا" إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان: أحدها - أن ترى الاسم الذى بعد "هذا" كما ترى "هذا" ففعله حينئذ مرفوع ؛ كقولك: هذا الحمار فارهٌ. جعلت الحمار نعتاً لهذا إذا كانا حاضرين، ولا يجوز ها هنا النصب. والوجه الآخر - أن يكون ما بعد "هذا" واحدا يؤدّى عن جميع جنسه، فالفعل حينئذ منصوب؛ كقولك: ماكان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفا؛ ألا ترى أنك تخبر عن الأُسْد كلِّها بالخوف. والمعنى الثالث - أن يكون ما بعد "هذا" واحدا لا نظير له؛ فالفعل حينئذ أيضا منصوب. وإنما نصبت الفعل لأن "هذا" ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريبا، وكان الخبر بطرح "هذا" أجود؛ ألا ترى أنك لو قلت: ما لا يضرّ من السباع فالأسد ضارّ، كان أبين. وأما معنى التقريب: فهذا أوّل ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّا من أن يرفعوا هذا "بالأسد", وخبره منتظر، فلما شغل الأسد بمرافعة "هذا" نصب فعله الذى كان يرافعه لخلوته. ومثله "والله غفور رحيم" فإذا أدخلت عليه "كان" ارتفع بها والخبر منتظر يتم به الكلام فنصبته لخلوته.
وأما نصبهم فعل الواحد الذى لا نظير له مثل قولك: هذه الشمس ضياءً للعباد، وهذا القمر نوراً؛ فإن القمر واحد لا نظير له، فكان أيضا عن قولك "هذا" مستغنيا؛ ألا ترى أنك إذا قلت: طلع القمر، لم يذهب الوهم إلى غائب فتحتاجَ أن تقول "هذا" لحضوره، فارتفع بهذا ولم يكن نعتا، ونصبت خبره للحاجة إليه. انتهى كلامه.
وقال أيضا في حديثه عن قوله تعالى: (هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ):
العرب إذا جاءت إلى اسم مكنىّ قد وُصِف بهذا وهاذان وهؤلاء فرّقوا بين (ها) وبين (ذا) جعلوا المكنَّى بينهما، وذلك فى جهة التقريب لا فى غيرها، فيقولون: أين أنت؟ فيقول القائِل: هأنذا، ولا يكادون يقولون: هذا أنا، وكذلك التثنية والجمع، ومنه {هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ} وربما أعادوا (ها) فوصلوها بذا وهذان وهؤلاء؛ فيقولون: ها أنت هذا، وها أنتم هؤلاء، وقال الله تبارك وتعالى فى النساء: {ها أنتم هؤلاءِ جادلتم عنهم}.
فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر جعلوا (ها) موصولة بذا، فيقولون: هذا هو، وهذان هما، إذا كان على خبر يكتفِى كلُّ واحد بصاحبه بلا فِعل، والتقريب لا بدّ فيه من فعل لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح.
فالتقريب هو أن تأتي باسم الإشارة فتدخله على كلام مستغن عن اسم الإشارة، بحيث يمتنع أن يكون الاسم الأول أي المبتدأ صفة لاسم الإشارة، وبحيث يكون الخبر فيه معنى الفعل لا اسما صريحا خاليا من معنى الفعل، وفي هذه الحالة ينصب خبر المبتدأ على التقريب، والبصريون ينصبون مثل هذا على الحال.
مهما يكن فإنّ دراسة المصطلحات النحويّة أمرٌ ضروريّ لِمَنْ يريد أنْ يعطي صورة واضحة عن البحث النحويّ في أيِّ مرحلة من مراحل تدرُّج علم النحو، وبخاصّة أننا لا نجد في المكتبة النحويّة في عصرنا الحاضر بحوثًا عن هذا الجانب المهمّ من الدراسة النحويّة، فإذا أردت أن تبحث عن مدلول أي مصطلح نحويّ فلا بدّ أن ترجع إلى المؤلَّفات النحويّة في العصور التي خلت _ وما أكثرها _ حتى تظفر ببغيتك.
لا شكّ أنّ كثيرا من المصطلحات النحويّة لم تتغير منذ أن أطلقها النحاة الأوائل الذين وضعوا أسس هذا العلم، ولم يختلف النحاة في استعمالها، وبخاصّة تلك المصطلحات التي أطلقت على الأبواب الرئيسة في النحو، كالفاعل، والمفعول، والمبتدأ، والاسم، والفعل، وما أشبه ذلك، فإن جوهرها يظلّ واحدًا وإن اختلفت طرائق التعبير ، وظلّت كثرة بالغة منها محلّ اختلاف، وبخاصّة فيما بين أصحاب المدرستين الكوفيَّة والبصرية.