منذ أكثر من ثلاثة قرون حدد (ديكارت) في مقالته المنهجية، أربع قواعد تتلخص في الوضوح والتحليل والتركيب والتدقيق. كما نجد أيضاَ - المنهج الوصفي الذي اعتمده (دوركهايم) ويستند إلى خمس قواعد تتركز في : العرض والاهتمام بالعام والثابت،وتبين التشابه والاختلاف للوصول إلى خصوصية المبحوث ضمن الإطار العام، ومعرفة المتغيرات القانونية التي طرأت على المبحوث.
فلا بد من البدء بالتعريف لتحديد المصطلحات، ثم ننتقل إلى الوصف فالتحليل فالتركيب، وصولاً إلى التقييم فالتقويم. ويلعب دوراً أساسياً في ذلك كله الباحث وقناعاته التي ينطلق منها. فالمنهج أداة يخلقها مستعملها عند المباشرة بالعمل. من هنا تأتي أهمية المؤتمر الذي دعت إليه كليّة الآداب بجامعة حلب للتباحث حول مسائل النقد وإشكالياته.
استغرق المؤتمر سبع جلسات قدمت فيها أبحاث متنوعة نقدّم فيما يلي مقتطفات مما دار فيها، ولعلنا نتابع بقية الأبحاث في وقت قريب.
الجلسة الثانية من المؤتمر العلمي الأول لقسم اللغة العربية بجامعة حلب جاءت بعنوان:
(إشكالية المصطلح في الترجمة والتعريب) تحدثت فيها د. زبيدة القاضي من جامعة حلب، وكانت مشاركتها بعنوان : إشكالية تلقي المصطلح النقدي. وقد تناول بحثها إشكالية تلقي المصطلح النقدي، وذلك من خلال محورين:
المحور الأول يتعلق بغموض المصطلح واستخدام الناقد للعلوم الأساسية.
وتناول المحور الثاني مشكلة ترجمة المصطلح النقدي إلى اللغة العربية. ورأت المشاركة في المؤتمر في الحالتين أن سوء استخدام المصطلح يعرقل وظيفة التلقي عند القارئ.
إشكالية التعددية في المصطلح النقدي: (Allegory) أنموذجاً
مشاركة د. إلياس خلف من جامعة البعث جاءت بعنوان إشكالية التعددية في المصطلح النقدي: (Allegory) أنموذجاً. إذ يثير مصطلح الـ(Allegory) إشكالاً كبيراً في الدراسات النقدية والمترجمة، فالبعض ترجمه: (المجاز)، والبعض ترجمه: (الترميز)، وهناك مَن عرّبه بـ
الليجورة التقليدية)، وهناك من استخدمه بصيغته الأجنبية (أليغوري)، لذا سعى بحث د. إلياس إلى الكشف عن ماهية هذا المصطلح وسبر أغواره من خلال تقصّ تاريخي لتطور استخدامه. وقدم دراسة متأنية لعملين أدبيين يُجمع النقاد على أنهما مشبعان بهذا المصطلح، وهذان العملان هما رواية (مسيرة الحاج) للكاتب الإنكليزي جون بنين (1628 - 1688)، ومسرحية (كلّ امرئ) لمجهول.
إشكاليات المصطلح في التطبيق النقدي العربي
مقاربات في المتن الاصطلاحي للنقد اللساني
تحدث تحت هذا العنوان د. رضوان القضماني من جامعة البعث عن المتن الاصطلاحي للنقد اللساني، إذ بدأت صلة اللسانيات بالنقد الأدبي منذ أن صارت اللسانيات منطلقاً للنقد في تناوله النص الإبداعي، ونشأ ما يطلق عليه اليوم النقد اللساني، الذي صار جنساً نقدياً نأى بالنقد عما هو خارج عن النص من أحكام ذوقية أو انطباعية أو إيديولوجية أو فلسفية أو سوسيوسيكولوجية... فسَدَّ ثغرة كثيراً ما عانتها الدراسات النقدية الحديثة في جوانبها النظرية والتطبيقية والمنهجية.
مصطلحات الدلالة في النقد الأدبي المعاصر
هذا هو عنوان مشاركة د. فايز الداية الذي يعمل حالياً في الكويت، وقد عرض في أوراقه مشروعاً نقدياً تتكامل تصوراته وأدواته الاصطلاحية، وتمثل تزاوجاً بين المعطيات اللغوية الدلالية والسعي النقدي لاكتشاف إمكانات النصّ الأدبي /الشعري.
وبين د. فايز أن المسوّغ الرئيسي لطرح العمل على مائدة الحوار بين الدارسين والنقاد هو بناؤه على هيئة لا تقتفي مثلاً سابقاً عليها بحرفيته. وقد ائتلفت في (المنهج الدلالي النقدي) الأصول الدلالية العربية القديمة، ونتائج الدرس الدلالي الحديث إضافة إلى مثاقفة مفتوحة على المناهج النقدية العالمية. وكان معيار سلامة هذه المثاقفة عدم وقوعها في التناقض أو الخلط الذي تنتفي معه الفاعلية، وأهم الأسس في الرؤية النقدية، كما رأى الدكتور الداية هي: قراءة النصّ من الداخل ثم الاستعانة بالخارج إن اقتضت الحالة، ثم الاستقراء الشمولي للأعمال الأدبية، وهذا ما يحقق ـ في رأيه ـ العلمية في التناول مقترنة بالذوق الذي لا تتحكم فيه شكلانية الإحصاء والأرقام.
ورأى المشارك في ورقته الهامة أنّ منطلق الحوار يتضمن قضيتين هما:
1. مدى كفاية هذا المنهج ومصطلحاته لإنتاج مادة نقدية قابلة للتداول بين الأدباء ولدى المتلقين لتجمع الطرفين أو تفتح طرقاً بينهما.
2. تفكيكنا للتراث النقدي العالمي وللمنجز المعاصر وإعادة البناء من خلال رؤية للناقد لا تتخذ لها مرجعيّة مقيّدة من أقوال أفراد النقاد أو مناهج بأعيانها، وإنما يكون الرصيد العام مادة مصدرية لنا كما هي لهؤلاء، وتكون لنا القدرة على التركيب منها بحسب خصائص العربية وقيم لنا تختلف عن قيم للآخرين في أركان الحضارة.
المصطلح السردي في النقد الأدبي العربي الحديث
د. عبد الله أبو هيف من جامعة تشرين في ورقته رأى أن المصطلح النقدي بحالتيه النظرية والتطبيقية، يرتبط ويقاس بالمنظور الفكري وسبل منهجيته، وقد أظهر النقد فوضى التطبيق للمصطلح السردي دون إحكام وعي نظريته وعلمه، فقد استعيرت مصطلحات علم السرد (تحليل النصوص الروائية العربية)، وفي أحوالٍ كثيرة يتوقف التحليل عندما تتوفر في النص الشواهد اللازمة لما يُظن أنه البرهان التطبيقي على دقة هذه المصطلحات، ومنها ضمير السرد، ووجهات النظر السردية، وصوت الراوي (التبئير)، والمقامات السردية... الخ.
الجمالي: وعي المصطلح ودلالاته
تحت هذا العنوان تحدث د. سعد الدين كليب، رئيس قسم اللغة العربية بجامعة حلب، في الجلسة الرابعة، ورأى أن مصطلح (الجمالي) شاع في الدراسات النقدية والأدبية شيوعاً بات معه التساؤل عن فحوى الجمالي ضرباً من المجازفة. إذ إنّ تلك الدراسات غالباً ما تتعامل مع هذا المصطلح وكأنه بديهية، مسلَّم بها وبمضمونها المعرفي، لدى مختلف المشتغلين في حقول النقد والفلسفة والبحث الأدبي. ورأى أن المدقق في هذا المصطلح وطرائق استخدامه ودلالاته، في تلك الدراسات، لن يخرج إلا بما هو متناقض معرفياً وإجرائياً، حتى في الدراسة الواحدة. إذ يلحظ اختلاطاً كبيراً بين مصطلح الجمالي وعدد من المصطلحات الفنية والأسلوبية والشعرية. إضافة إلى الاختلاط بين مصطلح الجمالي ومصطلح الجمال. أي أن ثمة تيهاناً في وعي الجمالي بوصفه مفهوماً فلسفياً من جهة، وبوصفه مفهوماً إجرائياً من جهة أخرى. وهو ما يدلل على نوع من الإشكالية في وعي المصطلح لا الجمالي فحسب بل في وعي سواه من المصطلحات التي لم تستقر في الممارسة النقدية العربية. وقد اقترح في بحثه مضموناً محدداً للمصطلح ودلالات معينة بما يتناسب وكل من الإطار المعرفي والسياق النقدي الذي يجرى استخدام المصطلح فيه.
الرواية التاريخية: إشكالية المصطلح وبدائله
د. نضال الصالح من جامعة حلب رأى أن مصطلح (الرواية التاريخية) يمثّل واحداً من المصطلحات التي تلقّفها النقد العربي من إنجازات الآخر غير العربيّ، وتعامل معها بوصفها مسلّمات لا يأتيها الباطل، بل بوصفها مسلّمات تصل أحياناً إلى حدّ التقديس. ولذلك لم يكلّف النقّاد العرب أنفسهم عناء التدقيق في المصطلح الذي يحمل في داخله غير مفارقة، ومن تلك المفارقات انتماء المفردتين المكوّنتين للمصطلح إلى حقلين ثقافيين متعارضين، فعلى حين يمثّل (التخييل) جذراً في (الرواية) التي قد لا يكون لها أيّ مرجع واقعيّ، يمثّل (التوثيق) جذراً في (الكتابة التاريخية) التي يُشترط فيها عادة تثبيت المرجع بصورته نفسها. ومن تلك المفارقات أيضاً محاولات (الرواية) الدائبة لتقويض القوانين والتقاليد التي قد تعطيها شكلاً ومعنى محدّدين، وإذعان (الكتابة التاريخية) لحزمة من القوانين والتقاليد التي لا يمكن للمؤرّخ تجاوزها أو التمرّد عليها، والتي تجعل تلك الكتابة نفسها عِلماً لا فنّاً.
حاول د. نضال في ورقته البحث في المصطلح وتقديم البدائل المناسبة له، لتحرير الدرس النقدي العربيّ من الولاء الأعمى والمطلق لإنجازات الآخر من جهة ثانية.
الحداثة وما بعد الحداثة الروائية: قلق المصطلح
يتقصى بحث د. جهاد نعيسة افتقاد مصطلحَيْ (الحداثة)، و(ما بعد الحداثة) في السرد الروائي، للصرامة المفهومية في التداول النقدي العربي، سعياً إلى الوقوف على جذور المشكلة، ومن ثم إلى تلمس الدلالة الأكثر دقة لهما. وذلك استناداً إلى المسار البحثي التالي:
1 ـ تأسيس: في مفهوم (المصطلح) بعامة، وضرورة ضبطه لتجنب خطر الانزلاق الدلالي.
2ـ محاولة تحليل مصطلحي: (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) الروائية، بإحالتهما أولاً على كل من المصطلحين الأم: الحداثة، وما بعد الحداثة.
3 ـ عرض عدد من المفاهيم المتباينة لمصطلحَيْ: الحداثة، والحداثة الروائية، ومحاولة الوقوف على جوهر التباين الحاصل في تداول كل منهما. في المصدر الغربي، وفي التطبيق النقدي العربي.
ثم قدم نتائج عامة تتصل بالآفاق التي يتحراها البحث.
وقد أثار بحثه عدداً من القضايا الهامة التي تتصل بموضوعه المحوري مؤكداً أن دلالة المصطلح بعامة تتغير بتغير الشرط الاجتماعي الثقافي لتداوله، والقيمة المعرفية والمنهجية والعملية المتاحة لتداول مصطلح (ما بعد الحداثة) في الممارسة النقدية العربية...
لاشك أن ماقُدّم في المؤتمر كان غنيّاً شاملاً للجوانب المتعددة للمصطلح النقدي في الأدب، وبضمن ذلك الجانب المتعلّق بالترجمة والتعريب. وإذا كنّا نحمد لكلية الآداب بجامعة حلب هذه البادرة، ولقسم اللغة العربية هذا التنظيم، ندعو إلى محاولة إشراك جهات متعدّدة في ندوات مماثلة، مايتيح للباحثين مجالاً أوسع للمشاركة، ووقتاً أطول لإغناء الأبحاث التي يشتغلون عليها، من غير أن يقلقوا بشأن الجلسات المتتابعة التي لاتتيح لهم حيّزاً من الوقت للتنفّس أو لالتقاط الأنفاس في مدينة سيف الدولة التي ينبغي لهم التعرّف على سماتها التي تشكّلت من خلال تعاقب الحضارات.