الحمل على المعنى والحمل على التوهم والحمل على الموضع هذه مصطلحات استعملها سيبويه ووقع لبس فيها عند كثير من الباحثين حتى جعلوها شيئا واحدا خصوه باسم: الحمل على التوهم. وليس الأمر كما ذهبوا إليه، فلكل مصطلح معناه الخاص: الحمل على المعنى:
يتخذ الحمل على المعنى عند سيبويه عدة مناح:
• الحمل على المعنى في التذكير والتأنيث أو في الإفراد والتثنية والجمع. قال ذو الرمة: مشين كما اهتزت رماح تسفهّت ... أعاليَها مرُّ الرياح النواسم كأنه قال: تسفهتها الرياح، فحمل على المعنى ولم يحمل على لفظ (مر) المذكر. وقال تعالى : " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، أجرى الأول بالإفراد على لفظ الواحد (وهو محسن) والآخر على المعنى (وهم). قلت: والحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة في مثل هذين الموضعين جائز قياسا.
• والحمل على المعنى في الإعراب، ويكون في العطف وغير العطف. ففي العطف يكون الحمل على المعنى بأن يذكر كلام فيه عامل معين، ثم يعطف على هذا الكلام بمفرد مرفوع أو منصوب بعامل مقدر مأخوذ إما من لفظ العامل الأول أو من معناه، كما في الشواهد الآتية:
• قال جرير:
• جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثلَ أسرة منظور بن سيار فعطف (مثل) بالنصب وكأنه معطوف على (مثل) المجرورة بالباء، على أن محل المجرور النصب، أو على أنه معطوف على أن (مثل) الأولى منصوبة توهما، لذلك ربما جعل بعضهم هذا من قبيل الحمل على الموضع أو الحمل على التوهم، والحقيقة أنه حمل على المعنى، لأنه عندما قال: جئي بمثل بني بدر، فكأنه قال: هات مثلَ بني بدر، فنصب مثلا الثانية على تقدير فعل مرادف في المعنى للفعل جئني فهو مفعول به لفعل محذوف دل عليه المذكور، ولذلك قال سيبويه: كأنه قال: هات مثل أسرة منظور " بن سيار "
وقال آخر: بينا نحن نطلبه أتانا ... معلق وفضةٍ وزنادَ راع
فعطف زنادا بالنصب على وفضة، وهو منصوب عند سيبويه بفعل مضمر أو اسم فاعل مضمر ، وليس معطوفا على محل (وفضة) كما هو عند المتأخرين. قال سيبويه: (وتضمر له ناصبا فتقول: هذا ضارب زيد وعمرا، كأنه قال: ويضرب عمرا، أو ضارب عمرا) والقياس في مثل هذا جائز.
هذا في العطف بالنصب، وقد يعطف بالرفع كما في قوله تعالى: (ولحمِ طير مما يشتهون وحورٌ عين) عُطف (حور) على (لحم طير) بالرفع، فيقدر له رافع، وهو هنا الابتداء، أي: ولهم حور عين، لأنه لما قيل: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. عُلم أن هذه الأشياء لهم، فعطف على المعنى أي معنى: ولهم لحم طير.. فقيل: وحورٌ عين.
وقال الآخر: بادت وغير آيهنّ مع البلى ... إلا رواكدَ جمرهن هباء
ومشججٌ أما سواء قذاله ... فبدا وغير ساره المعزاء
قال سيبويه: لأن قوله " إلا رواكد " هي في معنى الحديث: بها رواكد، فحمله على شيء لو كان عليه الأول لن ينقض الحديث. والقياس على مثل هذا جائز.
ومن الحمل على المعنى في غير العطف في الرفع قول الشاعر: تواهق رجلاها يداها ورأسه ... لها قتب خلف الحقيبة رادف رفع يديها على المعنى، لأنه لما قال تواهق رجلاها عُلم أن اليدين أيضا تواهق الرجلين، فكأنه قال: تواهق رجلاها يديها تواهق يداها رجليه، فيداها فاعل لفعل محذوف. ولا أرى القياس على مثل هذا جائزا.
وكذلك قوله: ليُبكَ يزيدُ ضارع لخصومة**ومختبط مما تطيح الطوائح
لأنه لما قال: ليُبكَ يزيدُ، عُلم أن ثَمَّ من يبكيه، فرفع ضارعا على تقدير : ليَبكِهِ ضارع. ولا أرى القياس على مثله جائزا.
ومن الحمل على المعنى في غير العطف بالنصب قوله:
قد سالم الحياتُ منه القدما ... الأفعوانَ والشجاع الشجعما
نصب الأفعوان على المعنى، قال سيبويه: فإنما نصب الأفعوان والشجاع لأنه قد علم أن القدم ههنا مسالَمة كما أنها مسالِمة، فحمل الكلام على أنها مسالِمة. يعني سيبويه أن الأفعوان نصب بفعل فاعله القدم، أي: سالمت قدمه الأفعوان. وهذا أيضا عندي مما لا يقاس عليه. وكذلك قول الشاعر:
إذا تغنى الحمام الورق هيجني ... ولو تغربت عنها أمَّ عمار نصب أم عمار بالحمل على المعنى، قال سيبويه: قال الخليل رحمه الله: لما قال هيجني، عُرف أنه قد كان ثم تذكر لتذكرة الحمام وتهييجه، فألقى ذلك الذي قد عُرف منه على أم عمار، كأنه قال: هيجني فذكرني أم عمار.
ومن ذلك أيضا قول الشاعر:
ما إن يمس الأرض إلا منكب** منه وحرف الساق، طيّ المحمل. فنصب طيّا على المعنى، لأنه لما قال : ما إن يمس الأرض عُلم أنه طيّان، فنصب طي المحمل على فعل غير يمس، كأنه قال: طوي من الجوع طيا كطي محمل السيف. والقياس على مثل هذا جائز.
* الحمل على التوهم: قال سيبويه: وسألت الخليل عن قول الأعشى:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنّا معشر نزل فقال: الكلام هاهنا على قولك: يكون كذا أو يكون كذا، لمّا كان موضعها لو قال فيه: أتركبون لم ينقض المعنى، صار بمنزلة قولك: ولا سابق شيئاً. تفسير ذلك: أن بين الشرط والاستفهام شبها كبيرا، فأسماء الاستفهام هي أسماء الشرط، غير أن الاستفهام يطلب جوابا من المسؤول، أما الشرط فجوابه مذكور، ولذلك كأن الشاعر توهم أنه استفهم في الشطر الأول ، فكأنه قال: أتركبون؟ بدل: إن تركبوا، ولذلك عطف بالرفع على (تركبوا) وهذا مثل قول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولاسابقٍ شيئا إذا كان جائيا
قال سيبويه: لّما كان الأوّل تستعمل فيه الباء ولا تغيّر المعنى، وكانت مما يلزم الأوّل نووها في الحرف الآخر، حتّى كأنّهم قد تكلّموا بها في الأوّل.
ومثل هذا قوله:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعبٍ إلاّ ببين غرابها فالحمل على التوهم هو أن يتوهم الشاعر أنه ذكر عاملا قبل المعمول المعطوف عليه، فيعطف على المعمول بما يقتضيه العامل المتوهَّم. والأمثلة التي ذكرها سيبويه للتوهم كلها كانت في العطف. وهذا عندي لا يجوز القياس عليه. وهذا مختلف عن الحمل على الموضع.
* الحمل على الموضع: خصص سيبويه بابا للحمل على الموضع، فقال:
هذا باب ما يجري على الموضع لا على الاسم الذي قبله. ثم قال: ومما جاء من الشعر في الإجراء على الموضع قول عقيبة الأسدي:
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
لأن الباء دخلت على شيء لو لم تدخل عليه لم يخل بالمعنى ولم يحتج إليها وكان نصباً.
يفهم من كلام سيبويه أنه يجوز الحمل على موضع المجرور بحرف الجر الزائد، فإن كان الموضع نصبا، نصب المعطوف، وإن كان رفعا رفع المعطوف، وقد اشترط لهذا شرطا وهو أن يكون المعطوف قابلا لدخول الحرف الجر الزائد، كما في البيت، وكما في قولك: بحسبِ زيد وحسبُك درهم.
ومن الشواهد التي ذكرها سيبويه في هذا الباب:
فإن لم تجد من دونِ عدنان والداً**ودونَ معدٍ فلتزعك العواذل عطف (دون) الثانية بالنصب على الأولى لأنها زائدة، ويصح دخول من على (دون) الثانية.
ومن الحمل على الموضع عند سيبويه في غير العطف قولهم: لا أحد فيها إلا زيد، حمل زيد بالرفع على محل: لا أحد. قال سيبويه: ومما أجري على الموضع لا على ما عمل في الاسم: لا أحدَ فيها إلا عبد الله، فلا أحدَ في موضع اسم مبتدأ، وهي ههنا بمنزلة من أحدَ في ما أتاني. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني من أحدٍ لا عبدُ الله ولا زيدٌ . والحمل على الموضع بهذه الصور جائز قياسا.
هذا اقتباس من كلام الدكتور بهاء الدين عبد الوهاب عبدالرحمن