الدلالة الصرفية
تتمثل هذه الدلالة فيما تؤديه الزيادات الصرفية من معان مضافا إليها معنى الجذر المعجمي، فلو قيل: مرض الطبيب الرجل، لكان المعنى المتعين من هذا الفعل مرض مؤتلفا من معنى الجذر مضافا إليه دلالة هذه الصيغة التي تفيد القيام على المرض في هذا المقام، ولو قيل "محلب" بكسر الميم، لكان المعنى المتعين من هذا اللفظ هو دلالة حلب مضافا إليها دلالة هذه الصيغة الصرفية التي تدل على القدح الذي يحلب فيه، وإذا ما قيل محلب فإن المعنى المستفاد بالإضافة إلى معنى الجذر دلالة صيغة مفعل التي تدل على المكان الذي يحتلب فيه[24].
وهكذا يتبين أن لهذه القوالب الصرفية دورا في تقديم جزء من المعنى، وقد يحدث في بعض الأحيان أن تختلف هذه القوالب الصرفية دون أن يكون هذا مفضيا إلى اختلاف في المعنى، ومن ذلك مجيء صيغة "فعل وأفعل بمعنى واحد في بعض الأحيان، فيقال: محضته النصح وأمحضته النصح، والمعنى واحد [25]. ونقول سلكته وأسلكته، قال الله عز وجل (ما سلككم في سفر)، وقال الهذلي : حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشرد[26]
الدلالة النحوية
يدرس علم النحو من جانبين اثنين: جانب تركيب الجملة العربية، وجانب الإعراب، ومعرفة هذين الجانبين تفضي إلى المعرفة بالدلالة النحوية، إذ إن هندسة الجملة العربية تحتم ترتيبا خاصا وفق قواعد اللغة المعمول بها، وإذا اختلفت هذه الهندسة وكان الاختلاف مخلا بقواعد اللغة فإن السامع قد يضل عن مقاصد الكلام، فلو قال قائل: ضرب موسى عيسى لاقتضى هذا التركيب الجملي أن تكون الدلالة المستفادة منه أن موسى الفاعل، وعيسى المفعول به، ولو قال آخر : هن حواج بيتِ الله لكان المعنى المتعين من هذه الحركة الإعرابية أن النساء قد حججن . وإذا ما قيل : هن حواج بيتَ الله، فإن المعنى من هذه الحركة الإعرابية أن النساء يردن الحج ولمٌا يفعلن [27].
وتتضح جليا ثنائية اللفظ والمعنى بمفهومهما الواسع في تحليل النحاة في سائر الأبواب، وتسود- على وجه الخصوص- حديثهم عن مقدمات التأليف النحوي الثلاث، وهي: وحدات القول، والإعراب والبناء، والنكرة والمعرفة.
والقواعد التي تقوم على اللفظ والمعنى تتمثل فيما يلي:
ا- الحمل على المعنى والحمل على اللفظ.
ب- إصلاح اللفظ.
ج- الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى.
فأما الحمل على المعنى وعلى اللفظ، فالأول المشهور فيه أنه إعطاء الشيء الحكم اللفظي لما يشبهه في معناه.
وقد يتوجه معنى الحمل على اللفظ لما يقابل المفهوم السابق للحمل على المعنى فيكون المقصود به إعطاء الشيء حكم ما أشبهه في لفظه. وهناك معنى آخر لكل من الحمل على المعنى والحمل على اللفظ، وهو أن يكون للشيء حكم من حيث ظاهر اللفظ وحكم آخر من حيث المعنى، فإذا روعي في الاستعمال حكم ظاهر اللفظ سمي هذا حملا على اللفظ، وإذا روعي حكم المعنى سمي هذا حملا على المعنى [28].
أما إصلاح اللفظ، فقد أفرده ابن جني بباب مستقل وجعله من قبيل تهيئة اللفظ من أجل العناية بالمعنى.
وأما الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى، فقد ذكر ابن جني هذه القاعدة أيضا في أكثر من موضع تصريحا أو ضمنا [29]، من ذلك قولهم : زيد قائم، ربما يظن أن زيدا هنا فاعل في الصنعة كما هو فاعل في المعنى، وليس كذلك لأن الفاعل من يقع بعد الفعل ويسند إليه. البلاغة والدلالة وتبدل المعنى المعنى عامل مشترك بين البلاغة والدلالة، خاصة في علمي البيان والبديع بشقيه المحسنات اللفظية، والمعنوية، ونقصد من هذا المعاني المركبة التي تعطي معنى يحسن السكوت عليه، ويدل على مراد المتكلم.
وهذه المعاني تطرأ عليها تبدلات تأخذ أشكالا عدة، كما أن لها أسبابا متنوعة تندرج تحت مسميات عديدة خاصة في الدراسات البلاغية. ومن الأشكال التي تأخذها عملية انحراف المعنى أو تبدله: الشكل المنطقي، والشكل الدلالي، والشكل البلاغي.
ففي الشكل المنطقي يرى علماء الدلالة أمثال: دار مستتر، وبريل، وبول، أنه يجب أن نصنف الأشباه والنظائر في إطار منطقي وذلك وفق تفاوت تقييد وانتشار أو انتقال المعنى[30].
أما في الشكل الدلالي فإن التحليل السيميائي يقترح تسمية جديدة، ومقاييس جديدة في التصنيف، واضعا في الاعتبار سمات القضية الدلالية، وأنها قائمة على الثنائية بين الدال والمدلول، والطبيعة النفسية التداعية لعلاقاتها بشكلها الثنائي القائم على التماثل والتجاور. والبلاغة تؤثر في تبدلات المعنى الدلالي فهي أحد روافده الفنية، ولذا نشأت علاقة وطيدة بين البلاغة وعلم الدلالة.
ويتم تبدل المعنى الدلالي في البلاغة عن طريق عدة طرق وألوان بلاغية منها: فكرة المقال والمقام، والاستعارة، والكناية، والتورية، والتشبيه، والمجاز، وجميعها يتم فيها انزلاق المعنى أو تبدله بطريقة تدخل البلاغة في علم الدلالة، فمن يدرس موضوعات علم الدلالة، لا يمكن أن يغفل هذه الألوان البلاغية باعتبارها من العوامل المؤدية لتبدلات المعنى. كما أن من يعالج الألوان البلاغية لابد أن يتعامل معها من خلال منظور علم الدلالة، خاصة تلك الألوان القائمة على تبدلات المعنى بشرط أن يكون ملما بماهية المحدد الدلالي حتى يستطيع أن يصل إلى الدلالة السياقية المرادة من الصورة البيانية أو البديعية، حيث إن لكل كلمة معنيان، المعنى الأساسي المعجمي، والمعنى السياقي الذي تأخذه الكلمة حينما توضع في سياق يحدد معنى الجملة بأكملها، وفي هذه الحالة يكون السياق مسؤؤلا عن المعنى المحدد الذي يعطى للكلمة.
فمثلا كلمة عين عندما تسمع دون أن تكون في سياق جملة محددة فإن الذهن يفهم منها عضوا من أعضاء الإنسان، ومثلها كلمة عين، لكنهما إذا دخلا في سياق حدد المعنى المراد فنقول (يد الفأس) أو (عين الماء) ولذا فإن الكلمة المفردة كلمة معجمية محددة غير قابلة للاحتمال أو التأويل، وإذا دخلت في سياق وتفاعلت مع مستخدمها فإنها تكتسب معنى آخر يريده غير المعنى الأساسي المعجمي.
وقد تكون الكلمة على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، فعلى سبيل المجاز العقلي قولنا "رجلا اللاعب تتحركان بسرعة في الملعب"، فالمجاز ناتج عن نسبة الحركة للرجلين في حين أن المحرك الحقيقي لهما هو اللاعب نفسه الذي يستعمل قوة جسدية وذهنية في هذه الحركة. أما قولنا "للاعب رجلان قويتان" فهو على سبيل الحقيقة.
فتبدل المعنى بهذه الطريقة هو الصورة التي توجد فيها الكلمة منسجمة مع صور أخرى لكلمات غيرها، كصور الأداء، والتفكير، والإنشاء، ومناهج الأسلوب المعروفة باسم تبدلات المعنى . ومن الألوان أو الأمثلة البلاغية التي تؤدي إلى تبدلات المعنى ما يلي:
أولا: المقام والمقال لكل مقام أسلوبه الخاص كما أن له تراكيبه القائمة على ارتباط النحو والمعاني في شكل جمل، والمقام هو ذلك الموقف الذي يتطلب نوعا من الألفاظ تجاورت بطريقة معينة كي تؤدي المعنى المراد، كما تساهم في ذلك العلاقات والأحداث والظروف الاجتماعية التي ترافق الموقف وقت أداء المقال، ولذا يعتبر مركزا من مراكز علم الدلالة الوصفية، ويعتمد المعنى الدلالي على هاتين الدعامتين (المقام والمقال) اعتمادا كبيرا لما بينهما من علاقة توضح المقصود منهما. والمعنى المقالي يتكون من معنيين، المعنى السياقي، والمعنى الأساسي، أما المعنى المقامي، فهو الذي يتكون من ظروف أداء المقال، وتلعب الاستعارة التمثيلية أحيانا دورا في المقام فقد يستعار لمقام ما مقال مشابه ذاع واشتهر كالأمثال والحكم التي تغني المتكلم عن تركيب مقال جديد، فهو يستخدمها عند وجود عنصر المشابهة بين الموقفين، وبذلك يصير المقال القديم جزءا من المقام الجديد.
وقد أولى القدماء هذه القضية أهمية كبيرة وأفردوا لها مباحث من دراساتهم كالجرجاني والجاحظ وغيرهم. والمعنى الدلالي يشتمل على ما قامت عليه البلاغة أو نادت به واتخذته قاعدة أساسية ألا وهو لكل مقام مقال.